في ذكرى وفاة العلامـة عبد المجيد بن حبـة
بقلم: الأخضر رحموني-
في يوم السبت 19 سبتمبر 1992 فقدت منطقة الزيبان ووادي ريغ أحد علمائها البارزين في المحافظة على التراث الثقافي الجزائري خاصة المخطوطات النفيسة، وتمكنه من علم الأنساب، كما كان مرجعا في الفقه والتفسير والبحث التاريخي، يقصده الدارسون لقضاء حاجاتهم المعرفية.
وبعد 29 سنة من رحيله تعود بنا الذاكرة إلى صبيحة يوم الأحد 22 ربيع الأول 1413هـ الموافق لـ 20 سبتمبر 1992 حين أعلمني الصديق الأستاذ أحمد بن السايح بنبأ وفاة الشيخ عبد المجيد بن حبة بمدينة المغير من ولاية الوادي سابقا، بعدما وصله الخبر من أحد أقارب الفقيد. فقررنا السفر لحضور مراسيم جنازته التي ستقام بعد صلاة العصر، وهوالذي استقبلنا بمكتبته العامرة بأمهات الكتب القيمة والمخطوطات النادرة، وبتنا ليلتها عنده حيث قضيناها في تسجيل المعلومات والاطلاع على الرسائل الخطية المتبادلة بينه وبين علماء الوطن كعبد الرحمن الجلالي والمهدي البوعبدلي ومحمد عبد الكريم وزهير الزاهري وغيرهم، وما دونه من إضافات في كناشه الخاص، وهوالمعروف بالمطالعة والتنقيب في الكتب والمخطوطات. واتصلنا بالدكتور عبد الرحمن تبرماسين من جامعة محمد خيضر ليكون ثالثنا في السفرية. وهكذا ما إن انتصف النهار حتى وصلنا إلى محطة سيارات الأجرة بطريق الصحراء الذي تحول موقعه الآن إلى مساكن ومحلات تجارية، ومن مصادفات القدر التي لا تنسى، أننا وجدنا الشيخ عبد الحميد فاضلي أحد أصدقاء الفقيد ومن الجلساء الأصفياء للشاعر محمد العيد آل خليفة قد وصل لتوه قادما من مدينة باتنة للذهاب إلى مدينة المغير، ثم التحق بنا الشيخ الإمام موسى عبيد الله، فقرر الجميع ركوب سيارة الأجرة الذي كان سائقها يسارع الزمن في الانطلاق للذهاب إلى المغير، وحضور صلاة الجنازة كذلك، خاصة وأنه من أحباب الشيخ ابن حبة وابن بلدته، واتفقنا أن نرجع معه إلى مدينة بسكرة قبل صلاة المغرب.
شاهد على جنازة مهيبة
بعد الوصول إلى مدينة المغير الهادئة بعد الظهر، انتقل الشيخ عبد الحميد فاضلي إلى المستشفى من أجل الشروع في مهمة تغسيل الفقيد بوصية منه، وبقينا أمام المسكن العائلي، بعد تقديم واجب العزاء لولديه الدكتور عقبة حبة ( الأمين العام لرئاسة الجمهورية الأسبق ) ومحمود – رحمة الله عليه -. وبدأت الوفود العديدة تصل إلى المسكن قادمة من جهات عديدة من الوطن خاصة من مدن وادي ريغ وولاية بسكرة، حتى امتلأت الساحة المخصصة لاستقبال المعزين عن آخرها وكان القرآن الكريم يسمع منبعثا من آلة تسجيل وضعت خصيصا لذلك.
وبعد وصول جثمانه الطاهر من المستشفى، وضع في إحدى غرف المسكن حتى يتمكن الحاضرون من إلقاء النظرة الأخيرة عليه. وكان الجميع حزينا، والدموع تسبقه وحسرة الألم بادية على محياه، كيف لا، وقد خسر عالما متواضعا كرس حياته للعلم ونشره، وجمع نوادر المخطوطات. بل كان من المساعدين للباحثين الجادين، وقد اعترف بفضله الكبير الدكتور أبي القاسم سعد الله في أكثر من موضع من كتبه.
وبعد وصول الوفد الرسمي يتقدمه السيد والي ولاية الوادي وأعضاء المجلس الولائي، ورئيس الدائرة، وشخصيات بلدية سيدي خالد التي كان يزورها دوما وله بها العديد من الأصدقاء، انطلق الموكب الجنائزي المهيب الى مقبرة البلدة. وبعد أداء صلاة الجنازة ومواراة جثمانه الطاهر الثرى، رجع الجميع إلى المسكن العائلي، واستمع المشيعون إلى كلمات التأبين المنوهة بخصاله الحميدة، وأغلبها كانت ارتجالا، بداية بالكلمة المرسلة من السيد علي كافي رئيس المجلس الأعلى للدولة، ثم كلمة الشيخ امحمد مغزي بخوش – إمام المسجد الكبير بمدينة بسكرة -، وكلمة الأستاذ محمد الصائم – مدير معهد تكوين الأئمة -، وكلمة الداعية الشيخ النذير مصمودي، وكلمة الشاعر عمر البرناوي – مدير الثقافة – ، دون نسيان المراثي الشعرية لكل من الأستاذ المحامي محمد الصادق مراوي والشاعر محمد عاشور.
وتوثيقا لما قدم أثناء التأبينية في هذا الحدث المشهود، قمت بتسجيل كل الكلمات التي ألقيت بالمناسبة، مع التقاط الصور المعبرة حتى تبقى خالدة مع مرور الأيام، وحفاظا على تراث الشيخ عبد المجيد بن حبة، لأني أدرك أن الكثير من المحاضرات القيمة حول أعلامنا ضاعت للأسف الشديد، بسبب عدم تدوينها وتوثيقها في وقتها من طرف المهتمين بتاريخنا الثقافي.
وبمناسبة الذكرى 29 لوفاة الشيخ عبد المجيد بن حبة التي تصادف يوم 19 سبتمبر، لن أتوقف عند الحديث عن مراحل حياته وأعماله، فقد تناولها مجموعة من الكتاب في دراساتهم المنشورة، ومنها الدراسة الوافية للأستاذ أحمد بن السايح التي نشرت في أربع حلقات بجريدة الشعب في أفريل 1990 تحت عنوان (عبد المجيد بن حبة هذا العالمة المغمور)، وقام بإثرائها في حياة المترجم له، كما أنه تم جمع آثاره الكاملة النثرية والشعرية والمسرحية من طرف الأستاذ المربي التواتي بن مبارك وصدرت عن دار البصائر الجديدة سنة 2014 في 248 صفحة، وإنما أقدم بعض ما جاء في تلك الوقفة التأبينية من كلمات لم يسبق نشرها، ومنها الكلمة التي ارتجلها الشيخ محمد مغزي بخوش -المدير الأسبق للمعهد الإسلامي- ببسكرة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عربون تقدير واحترام للشيخ الذي تواصلنا معه، وتعلمنا منه مبادئ المحبة ونكران الذات، وحتى يتعرف شباب اليوم العلاقة المتينة التي كانت تجمع بين العالم ورجل الفكر والأدب والمسؤول والمواطن البسيط، عكس ما نعيشه في هذا الزمن من ظواهر الإقصاء والنرجسية واللامبالاة بالقيم السامية.
*رسالة تعزية من رئيس المجلس الأعلى للدولة
إلى السيد عقبة حبة وإلى كافة أسرة آل حبة
تلقيت بحزن عميق نبأ وفاة العلامة الجليل الفاضل الشيخ عبد المجيد حبة تغمد الله برحمته الواسعة ورزقكم الصبر والسلوان.
لقد كان الشيخ عبد المجيد حبة أحد علماء الجزائر الكبار القلائل الذين تميزوا بالعلم الغزير، والتواضع الجم، والأخلاق العالية، والسلوك المثالي.
وقد وضع علمه الوافر في خدمة الأمة، فتعلم وعلم، وكان ينشر علمه بسخاء، ويسخر ماله وجاهه من أجل المنفعة العامة.
كان يساهم بهمة ونشاط وبدون كلل في حياة الأمة والمجتمع، وحل مشاكله مما جعله يتمتع بالمحبة الكبيرة، والتقدير الكامل من طرف الجميع.
إن الجزائر كاملة تفقد في وفاة الشيخ عبد المجيد حبة شخصية كبيرة كانت تحمل تراثها وتاريخها ومثلها العليا بكل جدارة.
فلنترحم عليه جميعا، ونسأل الله أن يسكنه مع الشهداء والصالحين، وأن يرزق أسرته الصبر والعافية. إنا لله وإنا إليه راجعون
السيد علي كافي.
* كلمة الشيخ امحمد مغزي بخوش (1917/ 1993):
الله أكبر..لقد انتقل أخونا عبد المجيد من الدار الفانية إلى الدار الباقية التي يكرم فيها المؤمنون بالجنة في أعلى الدرجات. والصلاة والسلام على جميع المخلوقات سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى تسليم وعلى أصحابه الأخيار وسلم تسليما كبيرا.
أيها الموكب الجنائزي الكبير..في هذا البلد البسيط المتواضع الذي تحول عظيما بموت هذا الرجل العظيم ..لقد أصبحت مدينة المغير اليوم شامخة برأسها على كثير من المدن الجزائرية، لأن فضيلة الأستاذ عبد المجيد بن حبة عاش وعلم فيها، وانتقل إلى رحمة الله فيها، ووري الثرى فيها .. وهذا العدد الوفير من الناس الذين حضر من كل حدب وصوب، إن دل على شيء ، فإنما يدل على قيمة الرجل العظيم الذي افتقدناه.
أيها الجمع المبارك.
لم نفقد عبد المجيد فقط، بل فقدنا أخا فاضلا، وكريما جوادا، وعالما جليلا، ومؤرخا باحثا، وعارفا بالأنساب هذا العلم الذي كان العرب يعرفونه معرفة جيدة، فهوقد أحيا قضية الأنساب، كل قبيلة من القبائل إلا ويعرف نسبها وموطنها الأصلي.
ولد الشيخ عبد المجيد بمدينة سيدي عقبة في مارس 1911 الموافق لشهر ربيع الأول 1329هجرية، دخل الكتاب القرآني وهوابن ثلاث سنوات حسب الروايات التي سمعتها، وحفظ القرآن مبكرا، وتعلم على شيوخ كبار أفاضل مثل: الشيخ محمد البشير العبد الرحماني، والشيخ الصادق بلهادي العقبي الذي كان يكتب في المجلة الزيتونية التي تصدر عن جامع الزيتونة بتونس، كما كان يكتب في مجلة الهداية الإسلامية التي كان يصدرها الشيخ محمد الخضر حسين في مصر، والشيخ محمد بن صالح منصوري الملقب بابن دايخة إمام مسجد مدينة برج منايل وكان ينشر قصائده في جريدة البصائر، كما لازم الشيخ الهاشمي بن المبارك إمام مسجد سيدي عقبة لمدة طويلة ،هؤلاء كانوا يدرسون العلوم القرآنية يوم كانت مدينة سيدي عقبى قلعة لحفظ القرآن والعلوم الشرعية وتستقبل أبناء الزيبان والأوراس والصحراء.
بها تحصل على العلوم، ثم تصدر للإمامة والتدريس بمسجد سيدي عقبة، وختم كتاب التفسير في سنوات، كما درس صحيح البخاري في سنوات.
قال عنه أحد المثقفين إن عندكم خزانة علوم تمشي على الأرض، فقيل له من يكون هذا العالم، فقال هوالأستاذ عبد المجيد بن حبة.
كان ذكيا إلى حد بعيد، شاعرا مقتدرا وعالما فاضلا . ومرجعا موثقا للباحثين.
الشيخ عبد المجيد كان جماعا للكتب، فما أن يسمع بوجود كتاب مهم إلا ملكه، وكان سخيا في إهداء الكتب لطلبة العلم والباحثين عنها، هذه خاصية يمتاز بها عن غيره، ومع هذا كان يقول كل من قرأ كتابا ووجد فيه الأخطاء ولم يدون ملاحظاته في الهامش بقلم الرصاص فهوليس بعالم.
الشيخ عبد المجيد يتمتع بأوصاف عديدة أولها زهده وكرمه، ثانيا سعيه لإصلاح ذات البين. لقد كان يقطع الأميال والأميال ليصلح بين الناس عند حدوث خلافات.
ويشمله قول النبي (ص) الوارد عن أبي الدرداء (ض): امش ميلا وعد مريضا، وامش ميلين وأصلح بين اثنين، وامش ثلاثا وزر أخا في الله.
كان أخي الشيخ أحمد مغزي بخوش يقول عنه: إن عبد المجيد بمثابة خضر الوقت.
والشيخ عبد المجيد يشمله قول النبي (ص)- من غرس غرسا أوتصدق بمصحف أوخلف ولدا صالحا يدعوله بالثواب-، لقد خلف فقيدنا ولده عقبة دكتورا في الاقتصاد ،ليس على المستوى الجزائر فقط، بل على مستوى المغرب العربي الكبير.
هذا الرجل وإن غاب عنا اليوم، فقد ترك فينا رجلا طيبا، وأخا فاضلا ،نتمنى له كل الخير والهناء.
مات كثير من الناس ولم يحضر المواطنون بهذا العدد الكبير، كما مات الأغنياء والموظفون ولم يشيعهم الكثيرون، وهذا العدد الذي حضر الجنازة، إنما حضر حبا للعلم وإكرامه وهذا دليل ساطع على أن أمتنا والحمد لله ما زالت متمسكة بالعلم، تحب من ينشره بين الناس، وتحترم العلماء العاملين وتقدر جهودهم.
يا أهل المغير.. لقد غاب الشيخ عبد المجيد حقا، وهوالذي كان أبا حنونا، وشيخا عطوفا، ومصلحا اجتماعيا لجميع العائلات والأعراش، فعزاؤكم فيه كبير، وصبركم على الله ..لأن كل الحاضرين القادمين من جميع النواحي: سيدي خالد، أولاد جلال، الدوسن، بسكرة، سيدي عقبة، توقرت، طولقة، باتنة، الوادي كلهم فقدوا رجلا عظيما.
يا سبحان الله..إن ذاتا صغيرة كذات الشيخ عبد المجيد التي لا تأكل إلا القليل من الطعام، تحمل هذه القناطير المقنطرة من العلوم والآداب، والفضائل والأخلاق الحميدة، رغم نحافة جسمه وقصر قامته.
فرحمك الله يا فقيدنا برحمته الواسعة، وأسكنك في أعلى العليين مع الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ورزق أولادك محمود وعقبة وأحفادك الصبر والسلوان وكل المسئولين الذين حضروا إلى هنا لتوديعك.
نسأل الله التوفيق والهداية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.