جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتلمسان
بقلم: محمّد بومشرة-
استولى الاستدمار الفرنسي على مدينة تلمسان يوم 31 جانفي 1842م، فعاشت مدينة تلمسان مع الاحتلال منذ ذلك الوقت فترات ومراحل متنوّعة مقاومة إيّاه برجالها المثقّفين بالثّقافة الإسلاميّة والسّياسية في الزّوايا العلميّة بقيادة علمائها الثّلاثة، الملقّبين بالعمائم الثّلاث وهم الشّيخ محمّد بن يلّس الملقّب بالشّاوش (1854-1927م). والحاج جلّول شلبي بن قادة (1844-1916م). والقاضي شعيب بن علي الجليلي _1843م_1928م في السّنوات 1847م إلى السّنوات الأولى من 1900م.رحمهم الله تعالى جميعا.
مجيئ الشّيخ عبد الحميد بن باديس:
جاء فضيلة الشّيخ عبد الحميد ابن باديس عام 1923م مدينة تلمسان من أجل التّعرّف على أهلها، وقد وجد في تلمسان الأرض الخصبة لزرع فكرة الإصلاح والتّحضير للثّورة التّحريرية، والمشاركة فيها. ثمّ جاءها يوم 28 أبريل 1927م ليوطّد علاقته بشيوخها، وفي عام 1931م قدم إليها بدعوة من الجمعيّة السّنوسيّة، كما زارها الشّيخ عام 1932م ليقدّم درسا في قاعة الحفلات التّابعة للبلدية حينما مُنع من إلقائه في المسجد الكبير من الإدارة الفرنسيّة، صحّح لهم المفاهيم العقائديّة والأخلاقية، وحثّ النّاس على الإيمان والمحبّة والصّبر والمواصلة في طريق الإصلاح. فأحبّه أهالي تلمسان وتعلّقوا به أكثر ممّا مضى.
مجيئ الشّيخ محمّد البشير الإبراهيمي:
ولمّا عزم على الرّحيل إلى العاصمة، طُلب منه البقاء، فاعتذر لهم لانشغالاته الكثيرة عبر الوطن وقال لهم سأبعث لكم من هو أعلم منّي! فاستغرب التّلمسانيّون، أيكون أحد أعلم منك يا شيخ؟ قال نعم. وفي أواخر سنة 1932م حلّ بتلمسان الشّيخ الإمام محمّد البشير الإبراهيمي، فاستقبله المصلحون التّلمسانيّون بحفاوة بالغة تليق بمقامه. وفي سنة 1933م عاد الشّيخ مع أهله ليقطن بحي أغادير، ثمّ انتقل بعد ذلك إلى مسكن آخر قرب مسجد سيدي إبراهيم المصمودي بوسط المدينة.
شروعه في العمل بتلمسان:
شرع الشّيخ في نشاطه العلمي والإصلاحي، متّخذا من متجر الحاج محمّد الصغير بوحجر الكائن بدريبة زرار (زقاق الرّمان) مقرا له، كما أنّه نشّط في النّادي الإسلامي ونادي الشّبيبة ونادي السّعادة. كما درّس الشّيخ وشرح صحيح البخاري بالزّاوية الهبرية؛ وقد اختار الشّيخ نخبة من الشّباب، واهتمّ بهم اهتماما خاصا ليصبحوا بعد ذلك معلّمين بدار الحديث.
بناء دار الحديث:
اشترى أهل تلمسان بتوجيه من الشّيخ البشير الإبراهيمي قطعة أرض مساحتها 140م2 من يهودي يُدعى –بنيشو-، فلمّا علم اليهود بالبيع لاموا البائع، واقترحوا على الشّيخ البشير أن يتوقّف عن الصّفقة، ويعطونه قطعة أرض أكبر منها بعيدة عن وسط المدينة وبعيدة عن ثانوية “De Slane” التي يدرس فيها أبناء الاستدمار، و De slane هذا كان من أخبث المستشرقين ضدّ الشّعب عامّة.ففطن الشّيخ لحيلتهم، ورفض مقترحهم وشرع في البناء، وكان مشرفا عاما على البناء.ومن عبقرية الشّيخ سُجّلت هذه الدّار العامرة بالمكتب العقّاري باسم أزيد من مائة صبي من أبناء المصلحين، حتّى لا تلحقها الإدارة الفرنسية بالأحباس التي كانت مستولية عليها.
يوم الافتتاح:
كان يوم 21 رجب 1356هجريّة، الموافق لـ: 27 سبتمبر 1937ميلادية يوما مشهودا حيث حلّ بتلمسان عدد كبير من العلماء يتقدّمهم الإمام ابن باديس لافتتاح دار الحديث، وحضر من المغرب الشّيخ إبراهيم الكتّاني وعدد من المصلحين. كما تجدر الإشارة بأنّه مُنع عدد كبير من العلماء دخول الجزائر، لأنّ فرنسا شدّدت الخناق أكثر على الحدود الجزائريّة. ودام الحفل مدّة ثلاثة أيّام متتاليّة، وشمل إلقاء الدّروس والمحاضرات والخطب والشّعر في المساجد والنّوادي، وهنا سجّل التّاريخ قصيدة شاعر الشّباب محمّد العيد آل خليفة التي تحتوي على ثمان وأربعين بيتا بعنوان تحيّة دار الحديث.
ردّ فعل الإدارة الفرنسية:
تحرّكت عيون الاستدمار لتخطّ تقريرا أسْودَ بعد دهشتها من عدد الحاضرين للحفل، وكان ليوم الافتتاح صدى واسع في الصّحف الفرنسيّة، فأسرعت إدارة الاحتلال لإغلاق أقسام دار الحديث بعد ثلاثة أشهر من افتتاحها(21 ديسمبر1937) بحجّة التّدريس بدون رخصة.
الكلاب تنبح والقافلة تسير:
في سنة 1950اشترى المصلحون قطعة محاذية لدار الحديث من اليهودي نفسه، مساحتها أربعمائة متر مربع (400م2) لتبنى عليها أوّل مدرسة للبنات حملت اسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وقد أبلت النساء التّلمسانيات البلاء الحسن متبرعات بحليهن لإنجاز هذا المشروع. وهي أوّل مدرسة للبنات مستقلّة عن البنين في الجزائر. في سنة 1952م تمّ افتتاح مدرسة عائشة أمّ المؤمنين بحضور عدد من علماء الجمعية يترأّسهم العلاّمة الشّهيد الشّيخ العربي التّبسّي، وقد سمح هذا الإنجاز بارتفاع عدد التّلاميذ والتّلميذات إلى الألفين، وكــان التّلاميذ يدفعون مبلغا رمزيا للمشاركة، ماعدا أبناء الفقراء والبنات فبالمجّان وهذا من أجل طلب العلم.
مدارس جمعية العلماء بتلمسان:
1- مدرسة التّربية والتّعليم بمغنية افتتحها الشّيخ البشير الإبراهيمي سنة1943.
2- مدرسة التّربية والتّعليم بالرّمشي تأسّست سنة1943من قِبل الشّيخ الهبري المجاوي.
3- مدرسة سبدو افتتحت يوم945 /03/ 27 1على يد السّيّد محمّد بن حلوش والحاج أحمد الشّيخاوي وابنه عبدالقادر.
4- مدرسة التّعليم العربي بأولاد ميمون افتتحت في أوائل سنة1948.
5- مدرسة التّربية والتّعليم بالغزوات افتتحت يوم48/09/26 19 تحت إشراف الشّيخ البشير الإبراهيمي.
6- مدرسة عبد المؤمن بن علي بندرومة افتتحت يوم26/9/1948بحضور الشّيخ البشير الإبراهيمي.
7- مدرسة دار الآداب بالحنايا افتتحت يوم01شعبان1367هـجرية، الموافق لـ:17يونيو1950 وأشرف على الحفل الشّيخ البشير الإبراهيمي.
8- مدرسة أولاد سيدي الحاج تمّ افتتاحها يوم52/09/25 بحضور الشّيخ الياجوري، والشّيخ الزّموشي والشّيخ مصباح حويذق.
9- مدرسة دار القرآن بعين غرابة تمّ افتتاحه ايوم1952/09/28 بحضور الشّيخ الزّموشي والشّيخ عبد الوهّاب بن منصور والشّيخ محمّد الصّالح رمضان والشّيخ مصباح حويذق.
10-مدرسة عائشة أمّ المؤمنين تمّ افتتاحها سنة 1952بحضور الشّيخ العربي التّبسّي.
11-ومدرسة بني صاف ومدارس أخرى، منها مدرسة التّربية والتّعليم ببوحلو وصبرة.
من مواقف جمعية العلماء:
ركّزت الجمعية في مدارسها على النّاشئة يغرسون فيهم إلى جانب العلوم حبّ الوطن من الإيمان، والرّجولة بكلّ معانيها؛ وأنّه لا يمكن للشعب الجزائري الأبي أن يعيش مع الاحتلال الفرنسي ولابدّ من طرده بعقيدة صلبة لا تهزّها الرّياح العواصف: · فهذا الشّيخ البشير الإبراهيمي يرسل بيانا تاريخيا من القاهرة، يوم 15 نوفمبر 1954 ينادي فيه الشّعب الجزائري، يقول فيه: “نعيذكم بالله أن تتراجعوا.” · وهذا الشّيخ السّعيد الزّمّوشي يخطب المصلّين في صلاة العيد بساحة مقبرة شيخ السّنوسي، سنة 1955 حاملا السّيف عوض العصا قائلا: “لقد مضى زمن العصا.” · أمّا الشّيخ الشّهيد العربي التّبسّي صاحب القبر المجهول، ينادي في الحاضرين سنة 1955 بعين غرابة، قائلا: “يا جبال تلمسان هبّي فإنّ جبال الأوراس تفتح ذراعيها.”
العلماء الذين مرّوا بدار الحديث:
إلى جانب الإمام العلاّمة الشّيخ البشير الإبراهيمي فقد ساهم في تنشيط العمل التّربوي والإصلاحي بدار الحديث علماء كُثْر نذكر منهم الشّيخ السّعيد الصّالحي والشّيخ العباس ابن الشّيخ الحسين والشّيخ السّعيد الزّموشي الذي كان كثير التّردد على تلمسان، وآخرون. ولا يفوتني هنا أن أذكر الشّيخ محمّد معطى الله الملقّب بالتّرمذي الصّغير وهو من مواليد سنة 1920م من بلدية بني وارسوس، بتلمسان، خرّيج جامعة القرويّين بشهادة العالِمِية سنة 1951م، وكان خطيب دار الحديث من سنة 1953م إلى سنة 1956م. وللإشارة فقد درَّس الرّجل بمعهد الإمام ابن باديس. إغلاق دار الحديث: ولحاجة في نفس (جاكوب) بقيت إدارة فرنسا تخطّط وتحيك المؤامرة تلو المؤامرة لاحتلال دار الحديث احتلالا كاملا لأسباب أمنيّة في زعمهم حتّى لا تبقى للمشايخ والعلماء أيّة صلة بها. ولم تُغلق المدرسة وبقيت تقوم بدورها في تحرير وتنوير العقول بالدّروس والمحاضرات والخطب والمقالات ليل نهار مُشاركة في الثّورة التّحريريّة، كما قال الشّيخ البشير الإبراهيمي:”لا يمكن تحرير جسد يحمل عقلا عبدا.”إلى أن جاء يوم 25 ماي 1956م فحوّلتها الإدارة الفرنسيّة إلى ثكنة عسكريّة (اللّفيف الإفريقي) بأمر من الوالي العام بوهران، وحجزت ممتلكاتها وألقي القبض على كثير من رجالها وشيوخها. واستعملها أصحاب شِعار: Liberté, Egalité, Fraternité(أخوّة، مساواة، حرّيّة) مكتبا للاستنطاق والتّعذيب والإهانة، وما ذلك عليهم بغريب، تحت مسَمّى المصلحة الإداريّة الخاصّة:Service Administratif Spécialisé(SAS)كما يزعمون. وبقيت على تلك الحالة المزرية التّي سجّلها التّاريخ عليهم بعرق المعذَّبين ودم الشّهداء إلى سنة 1962م. كما بقي في سطح دار الحديث العامرة بيت الحراسة فهو من أثرهم يدلّ على خُبثهم، فالبعرة تدلّ على البعير كما يُقال. فدار الحديث هي واحدة من ثلاثمائة وسبع وخمسين مدرسة بنتها جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين على مستوى الوطن في المدن والقرى والمداشر منذ سنة 1931م. ولأنّ الذي بنى دار الحديث العامرة، بناها على تقوى من الله، فقد ظهر ذلك في الميدان حين التحق طلاّبها رجالا ونساء بالثورة التحريرية يحملون المصحف بيد والسّلاح بيد أُخرى متشبّعين بالرّوح الإسلاميّة والوطنيّة كالشّهيد العقيد لطفي بودغن اسطنبولي الذي وُجدت بحوزته مجموعة أوراق موضوعها عبارة عن مشروع الاقتصاد الوطني لما بعد الاستقلال، رفقة الشّهيد الرّائد فرّاج، والشّهيدتين الشّابتين: مليحة حميدو وعويشة حاج سليمان، والقائمة طويلة تجدونها مسجّلة عند مدخل دار الحديث على رخامية. أمّا الشّهيد الرّائد فرّاج فقد درس بمدرسة عين غرابة على يد معلّمه الشّيح مصباح حويذق وهو من رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين، ثمّ انتقل الشّاب فرّاج إلى مدرسة بالحنايا وهي قرية تبعد عن مدينة تلمسان حوالي عشرة كيلومتر شمالا، وهاتين المدرستين تابعتين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريّين.
الخاتمة:
هذا فيض من غيض ممّا قامت به شُعبة جمعية العلماء المسلمين مشاركة في التّحضير للثّورة التّحريرية بمنطقة تلمسان. رحم الله تعالى علماءنا الذين كانوا في الخطوط الأولى لمواجهة الاحتلال الخبيث عالميا، ورحم الله شهداءنا رجالا ونساء الذين ابتلوا البلاء الحسن الذين صدقوا الله تعالى فصدقهم ونالوا الشّهادة، ولا يفوتني أن أدعو للمجاهدين والمجاهدات الذين لبّوا نداء الجهاد، وأطال الله عزّ وجلّ في أعمارهم ليقطفوا ثمار الجهاد ألا وهو الاستقلال.وعلى الجميع من الله سحائب الرّحمة، وليكن حاذينا إلى ذلك:
إنّا وإن كرمت أوائـلنا ** لسنا على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا ** تبني ونفعل فوق ما فعلوا
(*)ألقيت المحاضرة بمناسبة الذّكرى 59 لاندلاع الثّورة التّحريرية، بالمتحف العمومي الوطني للفنّ والتّاريخ بتلمسان في إطار فعاليات شهر الثّورة.
المراجع:
1- حياة دار الحديث العامرة –تلمسان- الأستاذ محمّد بومشرة. الطّبعة الأولى 2013. مطبعة مزوار-الوادي-
2- ردّ شبهات حول موقف جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين منثورة أوّل نوفنبر1954. الأستاذ سليمان الصّيد المحامي. الطّبعة الأولى 1995. دار هومة للطّباعة والنّشر بوزرّيعة-الجزائر-
3- جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية 1934-1939. الدّكتور مازن صلاح حامد مطبقاني. مؤسّسة عالم الأفكار للطّباعة والنّشر والتّوزيع المحمّدية-الجزائر-