أدب الرحلة عند الشيخ فرحات بن الدراجي
بقلم: د. عبد الحق مواقي-
تُعرف الرحلة على أنها نقلة في المكان والزمان، ومشتقات كلمة رحل كثيرة ومتعددة، وتدل كلها على الحركة، ففي لسان العرب لابن منظور الرحلة بمعنى السير، وورد لفظ «الرحلة» في موضع آخر بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان آخر، ومن معاني الرحلة التي وردت في لسان العرب، الوجهة أو المقصد، ومنها أخذ لفظ رحال وهو الشخص المتنقل من مكان لآخر.
الرحلات الجزائریة
أبدى الجزائريون اهتماما بالغا بأدب الرحلات منذ القدم فكانت من بين أمتع الفنون الأدبية وأقربها إلى أنفسهم شأنهم في ذلك شأن الرحالة العرب، وذلك لما يظهر عند سرد الرحلة من صور أدبية ومواقف بديعة وطرائف غريبة وحكايات حيث يكشف الرحالة عن ثقافة الآخر ويعبر عن تجاربه الشخصية إضافة إلى أن التدوين في أدب الرحلة يتميز بالدقة في الوصف والمشاهدة. وقد مارس هذا الفن كتاب كثيرون ولا سيما فيما يتعلق بالرحلات الدينية، والتي يقصد منها لقاء الشيوخ والعلماء والاجتماع بهم، أو السفر لأداء فريضة الحج، ومن بين الرحالة الجزائريين نذكر أحمد بن عمار والحسين بن محمد الورثيلاني وأحمد بن هطال التلمساني، وعبد الرزاق بن حمادوش، وسليمان بن الصيام، والشيخ عبد الحميد بن باديس، وأحمد رضا حوحو ….
الرحلة عند أعلام منطقة طولقة
اهتم أعلام كثر من منطقة طولقة بكتابة وتدوين رحلاتهم، وباستثناء رحلات الشيخ محمد الخضر حسين التي تولى تحقيقها ونشرها العديد من الكتاب، فإن باقي الرحلات لم يقع الاستفادة منها الا في النادر من الكتابات، ومن اعلام منطقة طولقة الذين كانت لهم كتابات رحلية نذكر الشيخ محمد الخضر حسين والاستاذ سليمان الصيد والشيخ فرحات بن الدراجي.
التعريف بأدب الرحلة
يعتبر أدب الرحلة من بين الأجناس الأدبية الأكثر ثراء وغنى، وقد أسهمت كتابات الرحالة في نقل كثير من الصور الجميلة والمشاهد المميزة لكثير من البلدان كما سلطت الضوء على تاريخ هذه البلدان وعادات سكانها وتقاليدهم. كما تضم كتب الرّحلات الكثير من المعارف الجغرافية والتاريخية والاجتماعية .
تجربة الكتابة الرحلية عند رجال الاصلاح في الجزائر
قام الكثير من رحال الاصلاح برحلات داخلية هدفها متابعة سير أعمال الجمعية وتفقد شعبها المنتشرة عبر الوطن، وفي سبيل ذلك نجد عناوين مختلفة منها: رحلات ابن باديس «للتعارف والتذكير»، ومحمد بن العابد الجلالي «عين مليلة في سبيل الدعوة والإرشاد وأحمد بوميد قصيبة «حركة جمعية العلماء بعمالة الجزائر» والفضيل الورثيلاني «رحلات وفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في عمالة قسنطينة». كما كان البعض منها خارج الوطن مثل رحلات أحمد توفيق المدني وهي عديدة منها: «وفد السودان» و«مهمة في سوريا» و«مهمة إلى موسكو»، وغيرهم.
فرحات بن الدراجي (1370-1323هـ/1951-1906م)
فرحات بن الدراجي، عالم، مصلح، خطيب وصحافي، ولد ونشأ في بلدة ليشانة ببسكرة سنة 1906م، وبها تلقى تعليمه الأول، شد مترجمنا الرحال إلى تونس سنة 1924م، وانتسب إلى جامع الزيتونة، فنال شهادة التطويع سنة 1931م. ثم عاد إلى الجزائر ليباشر العمل الإصلاحي فتفرغ للتدريس في كل من بلدته ليشانة والجزائر العاصمة، كما عمل معلما في مدرسة مدينة سيق خلفا للشيخ العربي التبسي. انتخب مترجمنا سنة 1937م نائبا للكاتب العام للجمعية الشيخ العربي التبسي، كما عين في لجنة تنظيم التعليم التي ترأسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وكاتبا عاما للجنة الأدب، كما عمل في نفس الوقت معلما بمدرسة الشبيبة بالجزائر العاصمة إلى جانب محمد العيد آل خليفة ..
صال فرحات بن الدراجي وجال ملقيا المحاضرات، في العديد من المنابر الإعلامية الإصلاحية، حيث انضم إلى لجنة تحرير جريدة البصائر، كما نشر أيضا في «الشهاب»، والسنة، والشريعة، والصراط.
شارك فرحات بن الدراجي في الحركة الإصلاحية بفرنسا بجد فتعرض للسجن رفقة الأمين العمودي، وعندما أطلق سراحه مطلع سنة 1943م، عاد إلى مدينة الجزائر فكلف بمنصب الكاتب العام. وبعد استئناف صدور جريدة البصائر سنة 1947م، عين عضوا في هيئة التحرير. توفي الشيخ فرحات بن الدراجي بمدينة البليدة سنة 1951م بعد مرض عضال وهو في أوج عطائه ودفن فيها، ومن أثاره شرح مفتاح الأصول للشريف التلمساني وتهذيب المدونة.
مصدر رحلتي الشيخ فرحات بن الدراجي
نشرت رحلة الشيخ بن الدراجي الموسومة «سير الجمعية وأعمالها وفود جمعية العلماء في القطر» في العدد35 من جريدة البصائر، ليوم 2 رجب 1355ه الموافق لـ18 سبتمبر 1936م، ونشرت رحلة «من هنا وهناك»، بذات الجريدة، العدد 84، السلسلة الثانية، الإثنين 24 شعبان 1368هـ، الموافق لـ 20 جوان 1939م.
قيمة الرحلتين وأهميتها
تعكس الرحلتان اللتان قام بهما الشيخ فرحات بن الدراجي على قيمة وأهمية بالغتين نوجزها في النقاط التالية:
1- تعطي صورة حية عن اهتمام رجال الاصلاح بهذا النوع من الأدب.
2- تؤرّخ لفترة هامة من تاريخ الجزائر، وتعرض صورة حيّة عن الفترة الاستعمارية، ونشاط رجال الإصلاح في مقارعة الاستعمار الفرنسي، والتصدي لكل المحاولات التغريبية التي انتهجها منذ ان وطئت أقدامه أرض الجزائر.
3- ثراؤها بالمعلومات عن بعض الشخصيات الجزائرية التي أنارت الفكر الاصلاحي في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ الجزائر امثال الشيخ البشير الابراهيمي والشيخ محمد خير الدين والشيخ محمد الصالح بن عتيق والشيخ حمزة بوكوش وغيرهم .
4- تبرز الميول الفكرية للشيخ «فرحات بن الدراجي»، حيث عدّد لقاءاته بالشيوخ في المدن المرتحل إليها، والذين يتقاطع وإيّاهم في وجهات النظر وعرفوا بأفكارهم الإصلاحية.
دوافع رحلتي الشيخ فرحات بن الدراجي وأهدافها
لا ريب أن لكل رحلة أسبابًا ودوافع أدت إلى نشوئها، وبالنسبة لرحلتي» الشيخ فرحات بن الدراجي» فقد ذكر اسبابها قائلا: «من أهم الأمور التي قررتها جمعية العلماء منذ تأسيسها، ونفذتها بالفعل، إيفاد وفود من شيوخ إدارتها يتجولون في بلدان القطر في ظرف كل سنة، لتعريف الأمة بالجمعية وتأسيس شعب تمثل الجمعية في أشهر بلدان القطر». أما في رحلة «من هنا وهناك» فقال عن دوافعها: « زيارتي لها شهر أفريل الماضي من هذه السنة لحضور حفلة عقد زواج الأخ محمد الإبراهيمي الإبن الأكبر للأستاذ رئيس جمعية العلماء، فقد كانت هذه الرحلة موفقة من ألفها إلى يائها ممتازة من بدايتها إلى نهايتها.
صورة المجتمع من الجانب الحضاري
رصد لنا بن الدراجي بعضا من الصور عن المجتمع الجزائري في المدن والبلدات التي زارها، فقال عن البليدة « والبليدة تروق زائرها من سائر النواحي، ولا عيب يجده فيها إلا ما قد يبدو من انقسام وحدتها»، أما عن مدينة الاصنام فقال: «وفي الأصنام نهضة صالحة، وشباب مثقف ثقافة عالية، ولهؤلاء الشبان الفضل الأكبر على الحركة الفكرية والإصلاحية الموجودة في الأصنام، فهم الذين أسسوا «نادي الإصلاح» وفيه تلقى الدروس والمحاضرات باللغتين العربية والفرنسية في كل أسبوع»، أما في مدينة تلمسان التي جاء ذكرها في رحلة «من هنا وهناك» فقال: هي مدينة تلمسان التي تعد مفخرة من مفاخر تاريخ الجزائر ومأثرة من مآثره الخالدة، فهي أشهر مدن القطر الجزائري وأقواها أثرا في تاريخه السياسي والأدبي، والعلمي. فإذا فاخرت عواصم الشمال الإفريقي بما أنجبت من علماء وأدباء ومفكرين، وبما انتصب فيها من دول وملوك وبأنها كانت كعبة طلاب العلوم والمعارف تشد إليها الرحال من كل صوب رفعت، تلمسان رأسها عاليا من بين هذه العواصم».
صورة المجتمع من الجانب الاصلاحي والثقافي
ولان الدافع الاصلاحي كان السبب الأول لهذه الرحلات فان بن الدراجي قال: «فوجدت أن شعبة بوفاريك لم تعمل شيئا في ظرف السنة الماضية، ولذلك سببان الأول أن حركة الإصلاح ببوفاريك بطيئة جدا، والثاني: انتقال رئيس الشعبة السابق من بوفاريك، فرأيت أن المصلحة تقتضي جعل السيد الحاج محمد رئيسا للشعبة عوضا عن الرئيس السابق»، أما في مليانة فإنها: «تطلع إلى العربية ورغبة في الإصلاح غير أن ذلك – فيما يظهر- لم يتجاوز دائرة الأقوال والتمنيات». وبالاصنام قال ان بها: «نهضة صالحة، وشباب مثقف ثقافة عالية، ولهؤلاء الشبان الفضل الأكبر على الحركة الفكرية والإصلاحية الموجودة في الأصنام»، كما لم يبخل علينا الشيخ بن الدراجي بذكر الأعلام الذين التقاهم او تواصل معهم في رحلتيه مثل السيد عبد الرحمن الحلواجي والسيد علي بن نواس والسيد علي الزواق والسيد محمد بن اسماعيل، ، والقائد السيد بوزار بن الحاج حمو ، الشيخ عبد الرحمن حماد والنعيمي بن أحمد الجلالي…
صورة المجتمع من الجانب الاجتماعي
كانت حالة المجتمع الجزائري عموما تعكس في كثير من الأحيان الحالة المزرية وحالة الفاقة والعوز التي أنتجتها سنوات الاستعمار الفرنسي للجزائر، غير ان بن الدراجي لم يذكر ذلك بكثير من التفصيل فقد اكتفى بذكر مدينة الاصنام وتأثير سياسة الاستعمار الفرنسي المبنية على محاربة اللغة العربية فقال: «ولا عيب يجده زائر الأصنام فيها إلا بعد شبابها عن الثقافة العربية، إلا من رحم ربك».
الخلاصة
الرحلة هي الجسر الواصل بين مختلف الشعوب والأقوام، فكيف كان لنا أن نتعرف على حضارة شعب ما لولا تلك الرّحلات التي قام بها مغامرون شغوفون بحب العلم والمعرفة والاكتشاف. وقد استطاعت رحلتا الشيخ فرحات بن الدراجي تقديم جوانب عدة عن فترة حاسمة في تاريخ الجزائر التي كانت قد قطعت شوطا جاوز القرن وهي تحت نير الاستعمار الفرنسي ونشاط الحركة الاصلاحية من خلال رجالها في التأسيس لجزائر ما بعد الاستعمار.
اللوحة الباديسية المتكاملة…
بقلم: مداني حديبي-
لم يكن الشيخ الرئيس عالما متدفقا فحسب بل كتلة جمالية متناغمة وشمولية متوازنة متفردة.. دمعة الرباني ودقة الفقيه وحرارة الداعية وإشراقة الأديب وجرأة الوطني الصادق ولوعة الأم الثكلى.. فلو تجسدت شخصيته في ألوان وأنغام لكانت لوحة فنية جذابة ساحرة ولحنا جميلا بديعا..
كالبدر من حيث التفت رأيته
يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا
كالشمس في كبد السماء وضوؤها
يهدي الأنام مشارقا ومغاربا
لا يمكننا اختصار الباديسية في نقاط وكلمات ومقالات ومحاضرات ومجلدات لكننا نقتبس من أنوارها على قدرنا لا على قدره.. فسالت أودية بقدرها..
- اللمسة الروحية: التي اقتبس أحوالها وعبيرها من شيخه حمدان لونيسي الرباني الثائر.. فاغترف من عذوبتها وحولها إلى تيار إيجابي متحرك ومنهج عمل متدفق.
-الهمة العالية والعمل المتواصل: فقد كان الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس شعلة من النشاط الدؤوب.. ليله نهاره وحله وترحاله وغدوه ورواحه.. لله وبالله ومع الله.
- غرس القيم وتكوين الرجال: كان همه أن يربي رجالا.. لا أن يكتب نصوصا.. ويُكِوٌن أبطلا لا أن يؤلف كتبا… ومع كل هذا الجهد العظيم كان يخطب ويكتب ويؤلف ويبدع.
- وطنية الحنين وحب الوطن من الإيمان: لم أر مثل الباديسية في الجزائر.. عبر جمعية العلماء المسلمين وأعمالها المتلاحقة..
غرست في قلوبنا حب الجزائر إلى حد التضحية والاستشهاد للحفاظ على وحدتها ولغتها وقيمها.
وهذا ما جعل أحد جنرالات فرنسا يصرخ بغضب: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا.. بعد حفل أرادت منه فرنسا مسخ قيم الشعب وتقديم نموذج لذلك.. فخرجت الفتيات الجزائريات باللباس التقليدي المحتشم.
- أعيش للإسلام والجزائر: هذه القاعدة الذهبية والغاية العظيمة عاشها ابن باديس بلحمه ودمه ونبضت مع كل عرق من عروقه.. وأكلت من عمره واقتاتت من كٌلِه..
- إنما بعثت معلما: استثمر ابن باديس كل نفس من أنفاسه في تعليم الصغار والكبار.. فلم يكن ينم من الليل إلاّ قليلا..
- هكذا ظهر الجيل الباديسي المتصل… لم يكن ابن باديس زعيما روحيا وطنيا يعمل بمفرده.. بل كان حريصا على رص الصفوف وجمع كل الطاقات العلمية في عمل تراكمي إيجابي بالسند الذهبي المتصل فكانت جمعية العلماء التي ضمت أفضل ما أنجبت الجزائر من علماء وحلماء وحكماء.
- فخرج عليهم من المحراب: انطلق ابن باديس من المسجد.
والمحراب وجلسة الحصير.. فكانت البركة في كلماته وهمساته وجمعيته وأعماله…
وكن رجلا من أتوا بعده يقولون مر وهذا الأثر: فالمنهج الباديسي ما زال ثابتا وفيا عميقا عبر جمعيته المباركة وشُعبها البديعة وأعمالها القيمة وخطها الحكيم الأصيل الذي تعبر عنه جريدة البصائر وبيانات قيادتها العاملة الثابتة.
فرحم الله الطود الباديسي الشامخ ورزق جمعيته الأنوار والانتشار.