موتُ عالِمٍ ثلمة لا تسدُّ: الشيخ ابن الشيخ في ذمة الله
بقلم: د. محمد بابا عمي-
تعود بي الذكرى إلى شهر رمضان قبل نيف وثلاثين عامًا، يوم قرَّرت أنا وصديقين أن نصلي التراويح كلَّ يوم في مسجدٍ من مساجد قُرى وادي ميزاب السبعة؛ وكان اليوم الأخير من نصيب القرارة؛ حيث حملنا معنا فطورنا، ونصبنا مائدتنا في كُدية الشوف؛ وبعد الفطور دخلنا البلدَة الآمنةَ، ولم تكن لنا بأهلها كبير صلةٍ ومعرفةٍ يومَها، ثم توجَّهنا نحو الجامع الكبير؛ وكان "ثمة شيخ" بهيُّ الطلعة، ناصعُ الوجه، فصيحُ اللسان، قويُّ الحجَّة... وكان يومها يفسّر أوائل سورة الطلاق (سورة النساء الصغرى)، ويتبحَّر في الآراء الفقهية في شأن الطلاق، والخلع، وأحكام الزواج، والعدَّة، والقذف... وغيرها.
من يومها، كان اسم "الشيخ ابن الشيخ" علماً في سماء الدعوةِ، وسماءً في فضاء العلم؛ ومن ذلك أني حضرتُ الكثير من الندوات الأسبوعية التي كان ينظّمها في دهليز بيته، مرفقة بكأس شاي غالبًا (وبكمارية بريان أحيانا)؛ ولا أزال أتذكَّر توجيهاته وتعليقاته على كتاب "إعلام الموقّعين عن رب العالمين" لابن قيم الجوزية؛ وقد اختاره مصدرا ليتبحَّر في أدلة المخالِف له في المنهج والمنطلق؛ ولكنَّ احترامه وتقديره لمن يخالفه المذهب والرأي يكاد يكون مثالا ونموذجا قلَّ له نظير.
ولعلي من باب المشاكلة أفترض مجلس علمٍ تنظمه جماعةٌ ممن ينسبون أنفسهم للسلف، وينصبون أنفسهم قضاة على المسلمين؛ فيطالعون كتابًا للقطب اطفيش، أو لنور الدين السالمي، أو للطوسي، أو لمحمد باقر الصدر، أو حتى لمحمد الغزالي، ولمحمد متولي للشعراوي؛ فهل يوجد أدنى احتمالٍ لفعل ذلك بأدبٍ، وعلميَّة، واحترامٍ، وتقديرٍ، بعيدا عن الأحكام التفسيقية والتبديعية؟
أشهدُ الله تعالى، أنَّ الشيخ ابن الشيخ تجاوز الإطار المذهبي، وكتب كتابه الذي قلَّ من عرفه، وأقل من ذلك من قرأه، حول الوفاق في الكليات، والخلاف في الجزئيات، بين الإباضية والمالكية؛ وكان داعية خير لوحدة الأمة، ينبذ التعصب، ويدعو إلى الحوار العلمي الهادئ، وهو في ذلك تبع لمشايخه، وهو بذلك مثال لمن جاء بعده من الطلبة والباحثين.
*******
ثم كتب الله تعالى أن ألتحق بمعهد الحياة أستاذا في قسم الدراسات العليا، عام 1993م، ثم غادرت القرارة وعدتُ إليها عام 1996م؛ فكان اللقاء بالشيخ ابن الشيخ شبه متواصلٍ؛ بخاصَّة في جلسات الإدارة، وفي لقاءات التقييم والتخطيط، وفي حفلات آخر السنة، ولقاءات التخرُّج، وجلسات إدارة جمعية التراث... بقيادة شيخنا العلامة الشيخ عدون شريفي سعيد رحمه الله تعالى.
ولقد طلبتُ منه يومًا في مؤتمرٍ بمليكة، أن يُمدني بمؤلفاته، فأصففها بالطريقة العصرية؛ وأعرضها عرضا منهجيا حسب حاجة العصر؛ لكن لم يشأ الله تعالى أن تتمَّ العمليةُ؛ وبقي الشيخ مرجعًا في الفقه، وقبلة في العلم، وعنوانا للمثابرة، ومثالا للاجتهاد: له آراؤه التي قد يخالف بها المألوف من إجماع الناس، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يداهن في الحق أحدا.
*******
ويشاء الله تعالى أن يمرض، وأن يبقى لأعوامٍ بعيدا عن الواجهة، وعن أعين الناس، وكان لداتُه وأقرانه – حينها - يغادرون الحياة واحدا تلو آخر: الشيخ القرادي، الشيخ ببانو، الشيخ ارشوم، الشيخ حمو فخار، الشيخ بومعقل، القايد أوراغ، الشيخ المرموري، الشيخ باجو، الأستاذ مصطفى حشحوش... وغيرهم كثير.
والحق أنه بسبب مرضه لم يعرفه الكثير من الشباب ما دون العشرين، ولم يحظوا بالسماع لدروسه، ولا بحضور مجالسه؛ ولعله نجا من موجة السفاهة التي حملتها وسائل التواصل الاجتماعي؛ فلم يكن – شأن بعض العلماء – هدفا لسهام السفهاء، ولا علكا في أفواه الجاهلين (وما شأن الشيخ العالم ب. با. بخافٍ على ذي عينين، وهو من هو عِلما وحلما، وخلقا وتمكُّنا)
*******
وها اليومَ يلتحق الشيخ ابن الشيخ بالرفيق الأعلى، مُعلنا أم الأشهاد أنَّ "الزبد يذهب جفاءً، أمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"؛ وأنَّ شجرة الشرّ تهيج ولكنَّ شجرة الخير تنمو؛ وأنَّ العالِم عالمٌ مهما حاك الجهَّال حوله من شكوك، ومهما قالوا فيه من قول، ومهما كالوه من زور، إلاَّ أنَّ الله تعالى يرفعه ويخفض شانئيه، يُبقي ذكره حيًّا في القلوب، ويمحق مبغضيه حتى يلحقهم بمقبرة التاريخ...
غير أنَّ الأمم حين يغادرها العلماء تُظلِم عليها الجوانب والجوانح؛ ولقد قال رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها اختلاف الليل والنهار "
وقال عليه السلام: "موت العالم مُصيبةٌ لا تجبر، وثلمةٌ لا تُسَد، وهو نجم طُمِس" وفي الأثر: "لموت قبيلة أيسرُ عند الله من موت عالم"
رحمك الله شيخنا، وكتب ما خلَّفت من علم، وما تركت من أثر، في ميزان حسناتك، وألحقك بالصالحين والشهداء والنبيئين؛ وبعث للأمة من يخلُفك، ومن يحمل المشعل عنك، ومن ينير للناس دروبهم في زمن اشتدت فيه الظلمات، وكثر فيه القيل والقال، وقلَّ فيه التبين والتثبت، والتصبر والتحلم...
ولكن الله لطيف بالعباد...