مدرسة التهذيب (الفتح) بأولاد سيدي إبراهيم بعيون الإبراهيمي
بقلم: الصالح بن سالم-
بمنطقة الشمال الغربي لولاية برج بوعريريج وفي نقطة التماس مع ولاية البويرة تقع بلدية أولاد سيدي إبراهيم، والمنبثقة عن عرش أولاد سيدي إبراهيم بوبكر بن منصور، وهو شخصية دينية وعلمية ينتمي لفئة المرابطين حل بالمنطقة خلال القرن التاسع الهجري من منطقة تافيلالت المغربية، وشيد بها مسجدا سنة 805 هـ يعتبر من أقدم المساجد على مستوى الولاية، وقد رمم خلال القرنين 17-18م من طرف الأتراك ويوجد بداخله ضريح الولي الصالح سيدي ابراهيم.
وقد أنجبت هاته المنطقة عشرات الأعلام عبر التاريخ لعل من أشهرهم على الإطلاق الشيخ سعيد بوتقجيرت البيباني من أبرز أعضاء جمعية علماء المسلمين، ولد بأولاد سيدي إبراهيم بتاريخ 11 نوفمبر 1908م وبعد استكماله للعلوم الشرعية واللغوية بقريته وزاوية آقبو انتقل لقسنطينة سنة 1934م، وقد فرح به العلامة عبد الحميد بن باديس وعينه معلما إلى جانب الفضيل الورثيلاني بمدرسة الجمعية بباريس سنة 1936م نتيجة لتحكمه في (العربية، الأمازيغية، الفرنسية)، وقد أصبح مديرا لهاته المدرسة، وفي سنة 1940م قام سعيد البيباني بتشييد مدرسة الفتح التابعة لجمعية العلماء المسلمين بمسقط رأسه بالبيبان، وقد ساهمت هاته المدرسة في بعث شعاع العلم بالمنطقة أين التحق بجمعية العلماء المسلمين جمع غفير من أبناء المنطقة، وأغلبهم التحق بمعهد بن باديس بقسنطينة، ومنهم من تنقل لتونس لاكمال دراسته بالزيتونة مثل الشهيد رابح بلجرو، وأغلب هؤلاء الطلبة انخرطوا في الثورة التحريرية سنة 1954م وسقطوا شهداء أمثال: ( الشهيد أحمد بن وطاس، الشهيد موسى تيطوح، الشهيد محمد ديلمي، الشهيد الهاشمي ديلمي، الشهيد محمد الصالح لعزيزي، الشهيد البشير مناصرية، الشهيد محمد العيد لعزيزي، الشهيد محمد وعلي مناصرية، الشهيد لخضر ميهوبي، الشهيد أعمر مناصرية، الشهيد عيسى مناصرية، الشهيد سليمان مناصرية، الشهيد أحسن تيطوح، الشهيد محمد الصديق مناصرية ... ).
وقد أعجب العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالثورة العلمية الكبيرة التي أقامها الشيخ سعيد البيباني بهاته المنطقة الجبلية والنائية، وقدم في ذلك مقال نشره في جريدة البصائر بتاريخ 10 أفريل 1950م قال فيه:
(العزيمة أخت العقيدة، وهما كجناحي الطائر للرجال وللأعمال، والعقيدة بلا عزيمة باطلة، والعزيمة بلا عقيدة عاطلة، وما نهض الرجال العظام بالعظائم إلا بعد أن صفت عقيدتهم من شوائب الشك والتردد، وصحت عزائمهم على العمل النافع.
هناك في الحدود الفاصلة بين مقاطعتي الجزائر وقسنطينة وعلى ضفتي طريق الحديد الواصلة بينهما، وعلى مقربة من مضيق (أبواب الحديد) ذات الذكريات الأليمة في إحتلال الجزائر، هناك أرض جدباء إلا من شجيرات التين والزيتون، وجبال جرداء إلا من قزع من الصنوبر كقزع السحاب هنا وهناك، وفي تلك الأرض المتطامنة الظمأى إلى الماء والعلم تقع قرية (أولاد سيدي ابراهيم ) مكتنفة من الغرب بجبال وانوغة ومن الجنوب بجبال المنصورة، ومن الشرق بآكام مزيتة ذات المحل والنحل، ومن الشمال وبعض الشرق ببني منصور وبني عباس، تنفحها شماريخ (جرجرة) العاتية بالنسيم الرطب في القيظ، وتلفحها بقر الثلج في الشتاء.
ومن تلك القرية نفر شاب قبل عقدين من السنين إلى قسنطينة، يتلقى العلم على عبد الحميد بن باديس، ويقتبس من دينه وخلقه وأدبه ويتخرج على يديه في مناهج خدمة الأمة، ذلك الفتى هو الشيخ سعيد البابي (البيباني)، وتلك هي نيته فيما هاجر إليه، فبماذا رجع إلى قومه ؟
رجع - كما رجع اخوانه من تلامذة الإمام - داعياً قومه إلى هدي الكتاب والسنة وبالأخذ بأسباب الحياة العزيزة، فعرفه من عرف وأنكره من أنكر، ولكن العقيدة الصحيحة إذا ظاهرتها العزيمة الصحيحة أتتا بما يشبه الخوارق، فقد رأينا في الأيام الأخيرة أثراً من آثار العقيدة والعزيمة أكبرناه، وهو أن تلك الفئة القليلة التي تأثرت بمبادئ جمعية العلماء من أولاد سيدي إبراهيم - انتشرت في ظاهر القرية في مجاميع من البيوت تغرس في كل شبر صالح من الأرض شجرة تين أو شجرة زيتون، وتقوم على تربية النحل واستنتاج المعز، وتبتعد عن لغو القرية وملهياتها وسفاسفها، فتصرف جهودها إلى الجد والعمل النافع، وهذا - لعمر الحياة - هو السبيل القويم في الحياة.
وفي هذه السنة تعلو هممهم درجات، فيخطون الخطوة الموفقة إلى تشييد مدرسة عظيمة بعد تشييد المسجد، في بقعة وسط بين تلك المجاميع من البيوت، ولم يكتفوا بالمدرسة الأم، حتى فتحوا لها فرعاً في جيزة الوادي وسط مجموعة أخرى من البيوت ليخففوا العناء على الأولاد الذين تبعد منازلهم عن المدرسة الكبيرة وهم عازمون على بناء فروع لكل مجموعة متقاربة، فلو رأيتهم في وقت العمل يبنون متعاونين ويجمعون الحجر إلى الحجر والفلس إلى الفلس والرأي إلى الرأي، ويقسمون الإختصاصات على أصحابها لرأيت مثالاً عجباً من التعاون كأنهم أخذوه من النحل الذي حذقوا القيام على تربيته وتدبيره، وغير عجيب أن يأخذ الانسان المكتسب عن الحيوان غرائزه الخلقية.
إنني معجب بهذه الفئة الصالحة، داع لها بالتوفيق والتسديد، راج لجماعاتنا العاملة للعلم أن يكون حظها في التعاون عليه كحظ جماعة سيدي ابراهيم.
المرجعية التاريخية:
1/- جريدة البصائر (ع115/ 10 أفريل 1950م) ---- آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ج2/ ص344-345.
2/- فهرس الشهيد بولاية برج بوعريريج ج1
3/- مقالات معز بوتقجيرت ابن العلامة والشيخ سعيد البيباني