من أدباء جمعية العلماء: الشاعر أبو بكر بن رحمون الشاعر الحساس والمدافع عن اللغة العربية
بقلم: الأخضر رحموني-
مساء يوم الثلاثاء 03 جويلية 1984 انتقل إلى الرفيق الأعلى الشاعر الجزائري أبو بكر بن رحمون بمستشفى الحكيم سعدان بمدينة بسكرة الذي نقل إليه بعد تدهور حالته الصحية، وقد شيعت جنازته يوم الأربعاء 04 جويلية 1984 بعد صلاة العصر بمقبرة العزيلات ببسكرة وكنت من الحاضرين، لتشاء الأقدار إن يجتمع بعد وفاته بزميله الشاعر محمد العيد آل خليفة وابن الحركة الوطنية الحكيم سعدان.
والشاعر أبو بكر بن رحمون من شعراء الحركة الإصلاحية في الجزائر، بزغ نجمه في دنيا الشعر والأدب أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، بقصائده الصادقة التي كان محورها الرئيس الارتباط بالأرض الجزائرية، والمحافظة على المقومات الأساسية للشخصية الوطنية، والتغني بمآثر الإسلام و المسلمين ،و الدفاع عن اللغة العربية. كما تفاعل وجدانيا مع ثورة أول نوفمبر 1954 المجيدة، فأرخ لمراحلها البارزة وفرح لانتصارات معاركها و استقلالها.
قال عنه الشيخ أبو بكر جابر الجزائري المدرس بالمسجد النبوي –رحمة الله عليه- وهو أحد تلامذته بمعهد زقاق بن رمضان بمدينة بسكرة في بداية الأربعينيات و بعد مخالطته بالعاصمة (عرفته خلالها رجلا فاضلا، نقيا ورعا، يكثر القراءة والمطالعة، يعني بالخط والشعر، ينظم الشعر الجيد وخاصة الاناشيد، وكان راوية شعر فعلا).
الشاعر أبو بكر مصطفى بن رحمون من مواليد سنة 1921 بقرية اليانة التابعة لدائرة زريبة الوادي من ولاية بسكرة، وإليها ينتسب ولادة الشاعر محمد الهادي السنوسي وخاله الكاتب محمد السعيد الزاهري و الشاعر زهير الزاهري. وإن كانت أصوله شاعرنا تعود الى فرقة الولي الصالح سي أحمد بن رحمون من عرش بني ملكم القاطنين بلدة تاجموت بسفوح جبل احمر خدو بالأوراس.
ككل أبناء جيله، دخل كتاب قريته فحفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، كما درس المبادئ الأولى للفقه واللغة العربية على يد الشيخ محمد الصغير مصمودي أحد التلامذة الأوائل للشيخ ابن باديس بقسنطينة.
انتقل سنة 1936 مع أحد عشر تلميذا من قريته الى مدينة قسنطينة لمواصلة تعليمه الديني على يد الأب الروحي للنهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس بالجامع الأخضر.
ولنبوغه في الدراسة و ظهور ميولاته الأدبية المبكرة ،اهتم به الشيخ الإمام و كانت قصيدته –العمائم تيجان العرب – باكورة نتاجه الشعري.منها قوله:
لقد فاح مسك في الجزائر طيبا * وقد شيد مجد عوض أن يتهدما
فعلمنا -عبد الحميد- مسائلا * وتوجنا -عبد الحميد -عمائما
فأحيا خصالا من سجايا محمد * صميما للعروبة قد سما
عمائمنا ردع وزجر على العدى * إذا ما رآها الكفر ذل وأحجما
بقي طالبا بقسنطينة مدة أربع سنوات، وبعد وفاة الشيخ ابن بايس في 16 أفريل 1940، عاد الى مدينة بسكرة، ثم توجه نحو مدينة وهران للإشراف على تحرير صحيفة- الوفاق- التي كان يصدرها الشيخ محمد السعيد الزاهري، وبالصحيفة نشر مقالات سياسية وأدبية كشفت عن أهداف الاستعمار الفرنسي، وأساليبه الجهنمية لمحو الشخصية الوطنية من الوجود، كما حارب فيها الأوضاع الاجتماعية المنحرفة التي تردى فيها بعض الجزائريين، وكان يوقع مقالاته بأسماء مستعارة كما أعلمني بذلك في حياته.
بعد توقف الصحيفة عن الصدور، رجع سنة 1941 إلى بسكرة ليفرغ جهوده في تعليم أبناء قرية فلياش القرآن وقواعد اللغة العربية والفقه الإسلامي مدة ثلاث سنوات.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل الى الجزائر العاصمة لينضم الى الهيئة التعليمية لمدرسة الشبيبة الإسلامية، وفي هذه الفترة كان يلقي بعض الدروس بنادي الترقي .وتعد هذه الفترة من أخصب مراحل تفتق شاعريته.
عاد سنة 1950 الى بسكرة، وبقي يقوم بإلقاء الدروس الدينية في عدة مساجد بالمدينة يحرض فيها الناس على الثورة.
في سنة 1956 انتقل الى قرية عين زعطوط ليواصل من جديد أعماله الإصلاحية والتعليم في مدرسة شعبية حرة.
بعد الإضراب التاريخي عام 1957 أودع السجن مدة شهرين، بسبب قصيدة له حول الحادث، وبعد خروجه منه سالما استقر في مدينة بسكرة كإمام وخطيب بعدة مساجد. وفي هذه المرحلة فسر عشرة أجزاء من القرآن الكريم أيام توليه التدريس في مسجد القائد (مسجد الشيخ امحمد مغزي بخوش حاليا) سنة 1959.
غداة استقلال الجزائر، ساهم في تأسيس مسجد بحي الضلعة بمدينة بسكرة (مسجد أبي بكر الصديق حاليا) وعين إمام به، وتطوع للتدريس بالمعهد الإسلامي، إلى أن سلك طريق الزهد والتصوف فلزم بيته. ورغم حالته الصحية المضطربة، بقي مواظبا على تدريس شباب المدينة مبادئ الدين الإسلامي واللغة العربية بمنزله بحي الضلعة تطوعا، لكن في السنين الأخير من حياته عاودته الأسقام، ومنها مرض الأعصاب، فعرف المتاعب والمشاكل الاجتماعية
ومن يطالع قصيدته -المسكين مع شبح البؤس- يعتقد أن الشاعر يصور بقلمه مأساته الاجتماعية القاسية، رغم أن القصيدة نشرت في جريدة الثريا التونسية تحت عنوان –المسكين – في أربعينيات القرن الماضي، منها هذه الأبيات:
لا تعذلوه فإن الفقر أضواه * والحظ عاكسه والدهر عاداه
لا تنهروه إن استجدى أكفكم * فالجوع آلمه والصبر أعياه
تأملوا إن أردتم ما يكابده * تدلكم عن أليم الوخز عيناه
ومنها أيضا:
لئن يجع، ففتات الخبز مأكله وإن ينم فرصيف النهج مأواه
يرى الهوان ولا يبدي تأثره أشقي الورى مرغم عن كتم بلواه
لئن رأى البخل من بعض تجاهله وإن رأى الضيم من بعض تناساه
ترك الشاعر أبو بكر بن رحمون ديوان شعر طبع ضمن سلسلة (شعراء الجزائر) من طرف الشركة الوطنية للنشر و التوزيع سنة 1980، وقد شمل 45 قصيدة توزعت بين عدة أغراض شعرية منها: الوطني والديني والاجتماعي والعربي والذاتي، وقد أعادت طبعه منشورات السائحي سنة 2014 بتقديم ومراجعة الشاعر محمد الأخضر عبد القادر السائحي.
كما ترك كتابا نثريا بعنوان: (الأشعة المبينة من ذكريات قسنطينة) يعتبر من مؤلفاته المفقودة، وقد نوه بقيمته الأدبية الشاعر محمد العيد آل خليفة في قصيدة منها:
أشعة كشفت عن خير مكنون * من منشآت أبي بكر بن رحمون
الشاعر الناثر السامي بهمته * إلى معارج شوقي و ابن زيدون
أبدى لنا قصصا في وصف مجتمع * جم الضلالات بالأهواء مفتون
محسنا حسن الأخلاق ممتدحا * حميدها مرشدا للخير مسنون
أدع اليراعة أبا بكر يجبك لما * ترجوه من أمل بالفوز مقرون
فشعبنا لك ممنون بتكرمة * مؤمل لك أجرا غير ممنون
كما ألف الشاعر ابن رحمون كتابا في موضوع الأخلاق ردا على الكاتب المصري أحمد أمين في كتابه –الأخلاق – وناقش فيه أفكار بعض الفلاسفة برؤية فكرية إسلامية، والكتاب من المؤلفات المفقودة أيضا، ونتمنى أن يكون ضمن المخطوطات التي لا يزال يحتفظ بها الأستاذ المحامي بشير مشري –أحد تلامذة الشاعر ابن رحمون – كما وضح ذلك الفقيد الأستاذ محمد الحسن فضلاء.
أما الكتاب الذي نسب الى الشاعر ابن رحمون ويحمل عنوان (فيض الجمانة في ذكر علماء وأولياء ليانة) فإن الشاعر لم يذكره ولا مرة واحدة في أحاديثه، ولم يشر إليه في جلساته مع محبيه والمهتمين بالثقافة في بلدته، ونتمنى ممن تحصل عليه من مكتبات تونس أن ينشره بين الناس حفاظا على التراث الثقافي الجزائري وحتى يستفيد من محتواه الباحث المهتم، وتسجل حسنة علمية في مساره.
والنتاج الأدبي للشاعر أبي بكر بن رحمون منشور متفرق في الجرائد المجلات الجزائرية و العربية منها: البصائر- الإصلاح- الوفاق- المنار (الجزائر)،الثريا – الأسبوع- الصريح (تونس)، الأزهر(مصر)، الأديب (سوريا)، هنا لندن(بريطانيا).
عرف عن الشاعر ابن رحمون دفاعه المستميت عن اللغة العربية، و(عاش في عزلته من أجل اللغة التي نصب نفسه محاميا عنها، وكأنه أحد أولئك الأساطين الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم للبحث عن فقه اللغة، والتنقيب عن جواهرها من مصادرها الثرة القليلة المراجع، ليضيفوا إليها فكرهم كمصدر أخر للاجتهاد) كما يقول تلميذه الأستاذ أحمد بن السائح.
حيث نجد له قصيدة كاملة تحت عنوان –أغنية الوجدان – يمجد فيها لغة الضاد رغم السيطرة الفرنسية، منها:
الله يعلم أننا نهواك * وقلوبنا آمالهن رضاك
هل يبلغ الآمال منا شيق * يا من بلغت من الجلال مناك
يجري جمالك في الجوانح كوثرا * فتفيض إحساسا بحر هواك
ونحس حبك في القلوب كأنه * من لذعة التيار في الأسلاك
يا حلة القرآن أنت جديرة * أن يبهر الألباب نور سناك
وكما عاش الشاعر بعيدا عن الأضواء، غادرنا في صمت بعد إجراء عملية جراحية فاشلة بالمستشفى. ولولا تدخل بعض الوجوه المخلصة المحبة للثقافة ببسكرة، لما انتشر خبر وفاته. لا نتذكر المبدع و نتاجه المتنوع إلا يوم يفارقنا إلى العالم الآخر … فمتى تستيقظ الهمم والعزائم، ونعيد الاعتبار إلى أدبائنا الراحلين، ونكرم الأحياء منهم قبل فوات الأوان.
حتى وإن عاش الشاعر الإهمال والتهميش واللامبالاة في أواخر حياته، فقد أعاد إليه الدكتور كمال عجالي الاعتبار برسالته لنيل شهادة الماجستير في الأدب الحديث بجامعة باتنة والتي نوقشت يوم 26/04/ 1987، وأصدره في كتاب تحت عنوان (أبو بكر مصطفى بن رحمون حياته وشعره) الصادر عن ديوان المطبوعات الجامعية سنة 1991، كما أطلق اسمه على إكمالية حي الأمل- ألف مسكن – مدينة بسكرة بتاريخ 8 ماي 2000 بمبادرة من مديرية التربية ومديرية المجاهدين.
وتناولت بعض الأقلام حياته وأعماله في مقالات منها ما كتبه الأساتذة: أحمد بن السائح، النذير مصمودي، عبيد الله مسعود، عمر بن سعيد ،فوزي مصمودي، عبد الحليم صيد ،الأخضر رحموني.
كما تمّ إحياء ذكرى وفاته بندوة فكرية من طرف الجمعية الخلدونية سنة 1998 والمكتب الولائي ببسكرة لبيت الشعر الجزائري سنة 2020.