تأسيس جمعية العلماء
بقلم: د. علي الصلابي-
1 ـ أول اجتماع لرواد الإصلاح:
وبعد اللقاءات المتعددة التي كانت تتم بين ابن باديس والبشير الإبراهيمي، تارة في سطيف وأخرى في قسنطينة، التي كانت تنصب على دراسة الوضع في الجزائر والبحث عن السبل الكفيلة بمعالجة هذا الوضع، وبعد هذه اللقاءات الممهدة فكر الشيخ عبد الحميد في أن يخطو خطوة عملية تكون تمهيداً مباشراً للشروع في التحضير لتأسيس هذه الجمعية، التي ظلت فكرة لم تجد طريقها للتنفيذ، وتوالت الجهود بعد ذلك الممهدة لإنشاء هذه الهيئة، ويذكر الشيخ خير الدين في مذكراته أنه في عام 1928م دعا الشيخ عبد الحميد بن باديس الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة يدرسون فيها أوضاع الجزائر، وما يمكن عمله لإصلاح هذه الأوضاع، وكان ممن لبى الدعوة من يمكن تسميتهم «رواد الإصلاح» أمثال: البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، والعربي بن بلقاسم التبسي، ومحمد السعيد الزاهري، ومحمد خير الدين، واجتمعوا برئاسة الشيخ عبد الحميد بمكتبه، وقدم الشيخ حديثاً مطولاً عن وضعية البلاد والقوانين الجائرة التي تحكمها، ليصل بعد ذلك إلى دور العلماء في المقاومة والتضحية، ومن جملة ما قال: لم يبق لنا إلا أحد أمرين لا ثالث لهما: إما الموت والشهادة في سبيل الله منتظرين النصر الذي وعد به عباده المؤمنين، وإما الإستسلام ومدّ أيدينا إلى الأغلال وإحناء رؤوسنا أمام الأعداء، فتكون النتيجة لا قدر الله أن يجري علينا ما جرى ببلاد الأندلس.. ثم عرض خطة عمل مؤلفة من نقاط هي:
ـ إنشاء المدارس الحرة لتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية.
ـ الالتزام بإلقاء دروس الوعظ لعامة المسلمين في المساجد الحرة.
ـ الكتابة في الصحف والمجلات لتوعية طبقات الشعب.
ـ إنشاء النوادي للاجتماعات وإلقاء الخطب والمحاضرات.
ـ إنشاء الفرق الكشافة الإسلامية للشباب.
ـ العمل على إذكاء روح النضال في أوساط الشعب لتحرير البلاد من العبودية والخضوع للحكم الأجنبي.
ومما يلاحظ هنا أن هذا الاجتماع قد سطر البرنامج الذي تستنهض به الجمعية المزمع إنشاؤها، فكأن ابن باديس أراد أن يسبق الأحداث، فحدد محاور النشاط الإصلاحي، الذي يجب أن تضطلع به الجمعية التي دعا إلى إنشائها، وفعلاً كان ذلك هو البرنامج الذي اتبعته الجمعية بعد ميلادها في عام 1931م.
وقبل ميلاد هذه الجمعية بسنة أنشأ الإمام عبد الحميد بن باديس جمعية أخرى لها وظيفة تربوية محضة هي: جمعية التربية والتعليم الإسلامية، وقد انتظم أعضاء المكتب العربي في هذه الجمعية، وتحول المكتب إلى مدرسة عصرية تحمل اسم هذه الجمعية، وهو الاسم الذي سيصبح من الان فصاعداً شعاراً لكثير من مدارس الإصلاح بالجزائر التي أشرنا إليها سابقاً.
وبهذه الهيئة أصبح للحركة الإصلاحية ثلاث هيئات:
ـ جمعية العلماء على مستوى الوطن.
ـ جمعية التربية والتعليم على مستوى قسنطينة.
ـ والإدارة المشرفة على الشهاب.
أي هيئة دينية سياسية، وهيئة تربوية تعليمية، وهيئة إعلامية.
ويشرح لنا البشير الإبراهيمي كيف نجح هو وابن باديس في اجتذاب العلماء والفقهاء إلى الجمعية فيقول: دعونا فقهاء الوطن كلهم، وكانت الدعوة التي وجهناها إليهم صادرة باسم الأمة كلها، ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جمودهم، فاستجابوا جميعاً للدعوة واجتمعوا في يومها المقرر 5 ماي 1931م، ودام الاجتماع أربعة أيام في نادي الترقي بالجزائر العاصمة.
وهكذا تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوم الخامس من ماي 1931م في نادي الترقي بالعاصمة، إثر دعوة وجهت إلى كل عالم من علماء الإسلام في الجزائر، من طرف هيئة مؤسسة مؤلفة من أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي، غير معروفين بالتطرف لا يثير ذكرهم حساسية أو تكوين لدى الحكومة، ولا عند الطرقيين، أعلنوا أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع، لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها.
ولبى والدعوة وحضر الاجتماع التأسيسي أكثر من سبعين عالماً من مختلف جهات الوطن ومن شتى الاتجاهات الدينية والمذهبية ؛ مالكيين، وإباضيين، مصلحين وطرقيين، وموظفين وغير موظفين، وانتخبوا مجلساً إدارياً للجمعية من أكفأ الرجال علماً وعملاً، يتكون من ثلاثة أعضاء برئاسة ابن باديس الذي لم يحضر إلا في اليوم الأخير للاجتماع وباستدعاء خاص ومؤكد فكان انتخابه غيابياً.
ولم يكن رئيس الجمعية ولا معظم أعضاء مجلسها الإداري من سكان العاصمة، لذلك عينوا لجنة للعمل الدائم، ممن يقيمون بالعاصمة، تتألف من خمسة أعضاء برئاسة عمر إسماعيل، تتولى التنسيق بين الأعضاء وتحفظ الوثائق وتضبط الميزانية وتحضر للاجتماعات الدورية للمجلس الإداري.
2 ـ خطة بارعة:
لم يحضر ابن باديس الاجتماع التأسيسي للجمعية من الأول، وكان وراء ذلك هدف يوضحه الشيخ خير الدين أحد المؤسسين الذي حضر الجلسات العامة والخاصة لتأسيس الجمعية، يقول: كنت أنا والشيخ مبارك الميلي في مكتب ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ أحد المصلحين محمد عبابسة الأخضري، وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بالعاصمة، وكلفه أن يختار ثلاثة من جماعة نادي الترقي الذي لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة أو مخاوف أصحاب الزوايا، وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى العلماء لتأسيس الجمعية في نادي الترقي بالعاصمة، حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام، وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس، ويقول الشيخ خير الدين وأسرّ إلينا ابن باديس أنه سوف لا يلبي دعوة الاجتماع ولا يحضر يومه الأول حتى يقرر المجتمعون استدعاءه ثانية بصفة رسمية، لحضور الاجتماع العام، فيكون بذلك مدعواً لا داعياً، وبذلك يتجنب ما سيكون من ردود فعل السلطة الفرنسية وأصحاب الزوايا ومن يتحرجون من كل عمل يقوم به ابن باديس.
وهكذا تأسست الجمعية وتشكل مجلسها الإداري المنبثق عن الاجتماع العام. وقد حرص أعوان الحكومة ومن معهم أن تكون للوجوه التي يرضون عنها مكانة في هذا المجلس، حتى يستطيعوا توجيهه كما يشاؤون ولكن عملية انتخاب الأعضاء خيبت مساعيهم، فقد فاز العلماء المصلحون الموالون لحركة ابن باديس بأهم المناصب فيه، برئاسة هذا الأخير. وهذه النتيجة لم ترض أعوان الإدارة الاستعمارية ولا أتباع الطريقة العليوية بالخصوص، لقد انتخبت الهيئة الإدارية ابن باديس غيابياً للرئاسة، والإبراهيمي نائباً له، وللكتابة العامة الأمين العمودي، وهكذا بدأ العمل الإصلاحي الجماعي ضمن إطار ثابت وتنظيم مقنن، تنظيم يتخذ من المسجد والمدرسة والصحيفة والنادي أدوات لحركته، وقد استقبل المواطنون عامة والمثقفون خاصة هذا الحدث بكامل الارتياح، وقد أصبح الشعار الذي أطلقه ابن باديس على الحركة الإصلاحية، الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا على كل لسان وهكذا تبدأ المرحلة الإصلاحية الحاسمة التي أصبحت الإدارة الاستعمارية تحسب لها ألف حساب.
3 ـ القانون الأساسي للجمعية:
بتاريخ 5 ماي «أيار» 1931م صادقت الهيئة العامة لجمعية العلماء على قانون الجمعية الأساسي وإليك نص القانون:
القسم الأول: الجمعية
الفصل الأول: تأسست في عاصمة الجزائر جمعية إرشادية تهذيبية تحت اسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مركزها الاجتماعي بنادي الترقي الكائن ببطحاء الحكومة عدد 9 بمدينة الجزائر.
الفصل الثاني: هذه الجمعية مؤسسة حسب نظام وقواعد الجمعيات المبينة بالقانون الفرنسي المؤرخ بغرة جويلية سنة 1901م.
الفصل الثالث: لا يسوغ لهذه الجمعية بأي حال من الأحوال أن تخوض أو تتدخل في المسائل السياسية.
القسم الثاني: غاية الجمعية
الفصل الرابع: القصد من هذه الجمعية هو محاربة الافات الاجتماعية، كالخمر والميسر والبطالة والجهل وكل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل وتحجز القوانين الجاري بها العمل.
الفصل الخامس: تتذرع الجمعية للوصول إلى غايتها بكل ما تراه صالحاً نافعاً لها غير مخالف للقوانين المعمول بها ومنها أنها تقوم بجولات في القطر في الأوقات المناسبة.
الفصل السادس: للجمعية أن تؤسس شعباً في القطر وأن تفتح نوادي ومكاتب حرة للتعليم الابتدائي.
القسم الثالث: أعضاء الجمعية
الفصل السابع: أعضاء الجمعية على ثلاثة أقسام:
مؤيدون وقيمة اشتراكهم عشرون فرنكاً
عاملون وقيمة اشتراكهم عشرة فرنكات
مساعدون وقيمة اشتراكهم خمسة فرنكات
الفصل الثامن: يتألف المجلس الإداري في الأعضاء العاملين فقط.
الفصل التاسع: الأعضاء العاملون فقط هم الذين ينتخبون كل سنة أعضاء المجلس الإداري المتألف من رئيس ونائب له وكاتب عام ونائب له وأمين مال ونائب له ومراقب وأحد عشر عضواً مستشاراً.
الفصل العاشر: للجمعية أن تنشأئ بمركزها بالجزائر مكتباً يكون على رأسه مدير مكلف بإدارة شؤونها ومصالحها.
الفصل الحادي عشر: وللجمعية أيضاً أن تحدث مكاتب عمالية في كل من العمالات، وعلى رأس كل مكتب منها كاتب مكلف بإدارة شؤون الجمعية وهذه المكاتب كلها تكون مرتبطة أتم الارتباط بالمكتب المركزي.
الفصل الثاني عشر: الأعضاء العاملون هم الذين يصح أن يطبق عليهم لقب عالم بالقطر الجزائري بدون تفريق بين الذين تعلموا ونالوا الإجازات بالمدارس الرسمية الجزائرية والذين تعلموا بالمعاهد العلمية الإسلامية الأخرى.
الفصل الثالث عشر: الأعضاء المؤيدون والأعضاء المساعدون يشملون كل من راق له مشروع الجمعية من غير الطبقة المبينة بالفصل المتقدم وأراد أن يساعدها بماله وأعماله على نشر دعوتها الإصلاحية.
القسم الرابع: مالية الجمعية
الفصل الرابع عشر: مالية الجمعية تتألف من معلوم اشتراكات الأعضاء بكافة أنواعهم المبينة في الفصول المتقدمة.
الفصل الخامس عشر: للجمعية أن تلتمس وتقبل من الحكام المحليين إعانات مالية.
الفصل السادس عشر: مبلغ الاشتراكات والإعانات يقبضه أمين المال ويسلم فيه وصلاً.
الفصل السابع عشر: مال الجمعية يوضع باسمها في أحد البنوك المحلية ولا يبقي أمين المال منه تحت يده أكثر من خمسمائة فرنك.
الفصل الثامن عشر: لا يجوز إخراج شيء من المال بقصد صرفه إلا بأمر كتابي ممضي من الرئيس والكاتب العام وأمين المال وذلك تنفيذاً لما يقرره المجلس الإداري.
الفصل التاسع عشر: يصرف مال الجمعية فيما تقتضيه مصلحتها ويوجبه الوصول إلى غايتها المبينة بالفصل الرابع من هذا القانون الأساسي.
القسم الخامس: الاجتماعات الإدارية والعامة
الفصل العشرون: المجلس الإداري يجتمع في الأوقات التي يراها مناسبة، ويجب أن تكون جلساته كلها مسجلة في دفتر محاضر الجلسات، وكل قرار يقرره المجلس ولا يكون مسجلاً بالدفتر المعد لذلك يعتبر لغواً لا عمل عليه، ويجب أن يمضي المحضر رئيس الجلسة وكاتبها.
الفصل الحادي والعشرون: ينعقد الاجتماع العام لسائر الأعضاء مرة في السنة وينعقد هذا الاجتماع بمدينة الجزائر إثر استدعاء من الرئيس، وزيادة على هذا الاجتماع السنوي يجوز عقد اجتماع آخر في أثناء السنة في الزمان والمكان اللذين يعينهما الرئيس، وبعد أن يتفاوض أعضاء الجمعية في أثناء الاجتماع العمومي العادي في برنامج الجمعية وتعرض عليهم أعمال الجمعية في السنة السابقة ؛ تنعقد جلسة ثانية يحضرها الأعضاء العاملون والمؤيدون والمساعدون ويعلمون بحالة الجمعية الأدبية والمالية، ثم يباشر الأعضاء العاملون فقط انتخاب الهيئة الإدارية.
الفصل الثاني والعشرون: إذا شجر خلاف بين عضوين أو أكثر من أعضاء الجمعية، أو تغيرت سيرة أحد الأعضاء بما تراه الجمعية ماساً بحياتها، فلمجلس الإدارة أن يعين لجنة بحث وتحكيم تشمل خمسة من الأعضاء العاملين وخمسة من الأعضاء المؤيدين، وهذه اللجنة تعرض نتيجة بحثها وما تراه في القضية على المجلس الإداري، وهذا الأخير يطبق العقوبات والأحكام المنصوص عليها في اللائحة الداخلية التي ستوضع للجمعية.
الفصل الثالث والعشرون: لا ينظر في طلب متعلق بحل الجمعية إلا إذا كان صادراً من ثلث الأعضاء على الأقل، ولا يعمل به ولا ينفذ إلا إذا صادق عليه أربعة أخماس الأعضاء العاملين، وإذا انحلت الجمعية ـ لا قدر الله ـ يسلم أثاثها ومالها إلى جمعية خيرية إسلامية يعينها المجلس الإداري.
4 ـ غاية الجمعية:
كانت الغاية التي أعلنت في القانون الأساسي للجمعية صريحة وواضحة فيما يخص محاربة الافات الاجتماعية كالخمر والميسر والبطالة والجهل والافات الدينية، كل ما يحرمه صريح الشرع وينكره العقل.
ويظهر الهدف التعليمي في الفصل السادس للجمعية أن تؤسس شعباً في القطر وأن تفتح نوادي ومكاتب حرة للتعليم الابتدائي.
وحتى عام 1931م كانت هذه هي الغاية التي أعلنتها الجمعية، ولكن بعد تصفية أنصار الإدارة الحكومية، وأعوان الطرق المشبوهة في الانتخاب الثاني الذي أجرته الهيئة العامة للجمعية عام 1932م أخذت غاية الجمعية تتوضح أكثر فأكثر، فضمن الإطار الديني دعا ابن باديس للعودة إلى سيرة السلف الصالح، فقال: خطتنا الأخذ بالثابت عند أهل النقل الموثوق بهم، والاهتداء بفهم الأئمة ـ المعتمد عليهم ـ ودعوة المسلمين كافة إلى السنة النبوية المحمدية دون تفريق بينهم، وغايتنا أن يكون المسلمون مهتدين بهدي نبيهم في الأقوال والأفعال والسير والأحوال، حتى يكونوا للناس كما كان هو (ص) مثالاً أعلى في الكمال.
وبعد مضي خمس سنوات على تأسيس الجمعية حدد البشير الإبراهيمي غاية الجمعية في المجالات التالية:
أ ـ موقفها من الطرق:
بما أن الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرق المسلمين، وأنها هي السبب الأكبر في ضلالهم في الدين والدنيا، وأن هذه الطرق هي أظهر اثاراً وأشنع صورة في القطر الجزائري، لذلك يجب محاربتها ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كل شر، وأننا حين نقضي عليها إن شاء الله نقضي على كل باطل ومنكر وضلال، ونعلم زيادة على ذلك أنه لا يتم في الأمة الجزائرية إصلاح من أي فرع من فروع الحياة مع وجود هذه الطرقية المشؤومة، ومع ما لها من سلطان على الأرواح والأبدان ومع ما فيها من إفساد العقول وقتل للمواهب.
ب ـ موقفها من التعليم:
بما أن التعليم العربي الحر يدور في دائرة ضيقة من أمكنته وأساليبه وكتبه، فإن غاية الجمعية هي أن توسع دائرة الأمكنة بإحداث مكاتب حرة للتعليم المكتبي للصغار، وتنظيم دروس في الوعظ والإرشاد الديني في المساجد، وتنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة في النوادي، وإصلاح أساليب التعليم بالقضاء على تلك الأساليب العتيقة العقيمة.
ج ـ موقفها من البدع والمنكرات العامة:
غاية الجمعية في هذا المجال هي محاربة البدع المرتبطة بالمساجد والجنائز والمقابر والحج والاستسقاء والنذور، والتي أصبحت تشوه هذه المظاهر المقدسة لدى المسلمين.
د ـ موقفها من الإلحاد:
في اعتقاد الجمعية أن الإلحاد حلّ في الجزائر عن طريق الثقافة الأوروبية، والتعليم اللاديني أو التقليد الأعمى، وأن غفلة اباء وأولياء الطلاب الجزائريين غذت قيم هذه الناحية، كذلك فإن الإلحاد قد تمكن في نفوس الشبان المتعلمين في رأي الجمعية، كما يقول البشير الإبراهيمي بسبب نفور رجال الدين الجامدين منهم، وأن انتشار الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة جعل أبناءنا المتعلمين تعلماً أوروبياً الجاهلين حقائق دينهم يحملون من الصغر فكرة أن هذه الأضاليل الطرقية هي الدين، فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل، فأنكروها حقاً وعدلاً وأنكروا معها الدين ظلماً وجهلاً، لذلك فإن خطة الجمعية تقضي بمخالفة هذه الطائفة وجذبها إلى المحاضرات والدروس الدينية لتقويم زيفها واعادتها لحظيرة الدين.
ه ـ موقفها من التبشير:
بما أن الجمعيات التبشيرية المسيحية في الجزائر التي تعتبر أداة من أدوات السياسة في ثوب ديني وشكل كهنوتي ؛ قد انتشرت في كثير من المناطق التي تكثر فيها طروق المجاعات، محاولة التأثير بالمال والإغراءات على الوضع الديني للسكان، لذلك فإن على الجمعية مقاومة التبشير بقدر المستطاع.
وبالنتيجة يعرف لنا الشيخ البشير الإبراهيمي الجمعية بأنها جمعية علمية دينية تهذيبية، فهي بالصفة الأولى تعلم وتدعو إلى العلم وترغب فيه وترغب على تمكينه في النفوس بوسائل علمية واضحة لا تتستر، وهي بالصفة الثانية تعلم الدين والعربية لأنهما شيئان متلازمان وتدعو إليهما وترغب فيهما، وتنحو في الدين منحاها الخصوصي وهو الرجوع به إلى نقاوته الأولى وسماحته في عقائده وعبادته، لأن هذا هو معنى الإصلاح الذي أسست لأجله ووقفت نفسها عليه، وبمقتضى الصفة الثالثة تدعو إلى مكارم الأخلاق التي حض الدين والعقل عليها لأنها من كمالها، وتحارب الرذائل الاجتماعية التي قبح الدين اقترافها وذم مقترفيها، وسلكت في هذه الطريقة أيضاً الجادة الواضحة.
وأما الغاية السياسية للجمعية، فقد وضعها ابن باديس قبل تأسيس الجمعية ووضع الإطار العام للغاية الوطنية السياسية التي يستهدفها الإصلاحيون بقوله: ولأننا جزائريون نعمل للمّ شعب الأمة الجزائرية وإحياء روح القومية في أبنائهم، وترغيبهم في العلم النافع والعمل المفيد حتى ينهضوا كأمة لها حق الحياة والانتفاع في العالم، وعليها واجب الخدمة والنفع للإنسانية.
هذه كانت غاية الإصلاح في الجزائر إحياء الروح القومية والحض على محبة الوطن والانفتاح على الإنسانية العالمية، إننا نحب الإنسانية ونعتبرها كلاًّ ونحب وطننا ونعتبره منها جزءاً، ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها ونبغض من يبغضها ويظلمها، بل إن ابن باديس صرّح بأبيات من الشعر أصبحت يتغنى بها كل الشعب عندما قال:
شعب الجزائر مسلم * وإلى العـروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله * أو قال مات فقد كذب
أو رام ادماجاً لـه * رام المحال من الطلب
إن غاية الجمعية تبدو واضحة في إطار هذه الأبيات الجميلة المعبرة عن الهوية والعقيدة والثقافة والانتماء الديني لشعب الجزائر المسلم وتحديد انتسابه القومي إلى العروبة التي هي أصله ولا يمكن أن يحيد عنها، ومن قال بأنه انتهى وتم تحويله عن شخصيته فقد كذب، فمن المحال دمجه في كيان غير كيانه الطبيعي لأنه شعب عربي مسلم.
هذه هي الغاية التي سعت إليها جمعية العلماء وعرضتها فيما بعد كمطالب وطنية، وهي ليست بعيدة عن الأهداف السياسية التي ينسبها المفكر الفرنسي «أوغستاف بيرك» إلى جمعية العلماء والتي تتلخص بما يلي:
ـ تخليص الجماهير الجزائرية من محاولات دمجها في المجتمع الغربي.
ـ المشاركة في الدعوة إلى إقامة الوطن العربي.
ـ تكوين الشعب الجزائري الذي عانى من الرزوح تحت الأوامر القاسية والفوضى.
ـ العمل على جعل الجزائر دولة مستقلة مرتبطة باتحاد فدرالي مع الأقطار العربية.
كان من غايات جمعية العلماء العمل على فصل الجزائر عن فرنسا تحت راية الإسلام في إطار الوطنية الجزائرية، ووسيلته في تحقيق ذلك الهدف تنشئة جيل جزائري جديد مسلح بثقافة وطنية إسلامية وروح وثابة، ليتمكن في المستقبل من تحقيق الأمنية العزيزة الغالية: الاستقلال، ولقد قاد جمعية العلماء منذ نشأتها وحتى حلها عام 1956م نخبة من العلماء ناضلت بكل الوسائل الفكرية والعملية، كتابة وخطابة وتنظيماً للوصول إلى الغاية المرجوة، فكان هؤلاء بحق أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
5 ـ من أهم رجال الجمعية:
ـ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي «1889 ـ 1965م».
ـ الشيخ الطيب بن محمد العقبي «1890 ـ 1960م».
ـ الأستاذ محمد الأمين العمودي «1890 ـ 1957م».
ـ الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي «1895 ـ 1957م».
ـ الشيخ مبارك بن محمد الميلي «1897 ـ 1945م».
ـ محمد خير الدين «1902 ـ 1993م».
ـ الشيخ أبو اليقظان إبراهيم بن عيسى حمدي «1888م ـ 1973م».
ـ الشيخ ابراهيم بيوض «1899 ـ 1981م».
ـ الشيخ الفضيل الورتلاني «1900 ـ 1959م».
ـ الشيخ أحمد توفيق المدني «1889 ـ 1983م».
ـ الشيخ محمد العيد ال خليفة «1904 ـ 1979م».
ـ الشيخ أحمد حماني «1915 ـ 1998م».
ـ الشيخ أحمد سحنون «1907 ـ 2003م».
ـ الشيخ عبد الرحمن شيبان «1918 ـ 2011م».
6 ـ مدح ابن باديس لرجال الجمعية:
وقد أثنى ابن باديس على رجال الجمعية فقال في حقهم: إن الذي قام به للرجال الجمعية وضربوا به المثل الرفيع للناس، هو تضامنهم في الشدة وفي الرخاء، وثباتهم على يقينهم رغم كل زعزعة وإعصار، وتضحيتهم بالمصلحة الخاصة في سبيل الصالح العام، وثقتهم التامة بالله ثم بأنفسهم، ومن ثم كانت هذه الجمعية من الأمة وإلى الأمة وكل ما لها أو عليها فهو للأمة وعليها.
والجمعية تفخر بأنها قامت بإحياء فريضتي الإسلام التي نسيها المسلمون وعلماؤهم وهي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللذين هما مرجع عظمة الدولة الإسلامية وحضارتها. لقد كان رجالها مستضعفين يوم كانوا فرادى فمدوا أيديهم إلى بعضهم البعض فأصبحوا متعاونين أقوياء، ثم سمعت الأمة كلمتهم فاستجابت ولها الفضل ولها البشر من الله. لقد ضربوا الأمثال بأعمالهم وحملوا الأمانة الإسلامية وأدوها، وكل شيء عندهم بدليله وكل شيء يطلب من سبيله، وهذا ما جعل عملنا يملك علينا حواسنا وأوقاتنا.
وقال في حق صديقه وأخيه ورفيق دربه محمد البشير الإبراهيمي: عجبت لشعب أنجب مثل الشيخ البشير أن يضل في دين أو يخزى في الدنيا، أو يذل للاستعمار.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)