تسعون سنة على تأسيس جمعية العلماء.. ومازالت الرسالة مستمرة
عبد الحميد عبدوس

تسعون سنة على تأسيس جمعية العلماء.. ومازالت الرسالة مستمرة

بقلم: عبد الحميد عبدوس-

تحلّ يوم (5 ماي 2021) الذكرى التسعون لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (5 ماي 1931)، بنادي الترقي في الجزائر العاصمة، ويعتبر هذا الحدث التاريخي تتويجا لجهود الحركة الإصلاحية الجزائرية في التنظيم والتنسيق، ومحطة مجيدة ومضيئة في تاريخ الجزائر الحديث في جهود تعزيز مسيرة الشعب الجزائري في طريق التنوير والتحرير، فقد جاء التأسيس بعد سنة من احتفال المحتل الفرنسي بمضي قرن على احتلال الجزائر، وعبر فيها المسؤولون الفرنسيون عن رغبة فرنسا في الاحتفاظ الدائم بالجزائر التي اعتبرت مقاطعة فرنسية لغتها الفرنسية ودينها المسيحية، فكان تأسيس جمعية العلماء التي جعلت شعارها: الجزائر وطننا، والإسلام ديننا، والعربية لغتنا، ردا عمليا حاسما على المشروع الفرنسي الاحتلالي الصليبي. ففي 17 ذي الحجة 1349هـ الموافق 5ماي1931م عقد الاجتماع التأسيسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في نادي الترقي بالجزائر العاصمة الذي حضره أزيد من سبعين عالما من مختلف المناطق والمذاهب الاسلامية المعروفة في الجزائر. لم يجد المؤسسون للجمعية من هو أجدر وأقدر وأحق برئاسة الجمعية ومواجهة تحديات المرحلة الصعبة التي تمر بها الجزائر من العالم الرباني إمام النهضة الجزائرية الشيخ المصلح عبد الحميد بن باديس رغم غيابه الجسدي في الاجتماع التأسيسي.

من الجدير بالذكر التنبيه إلى أن تاريخ 17 ذي الحجة 1349هـ الموافق 05 ماي 1931 المعتمد كتاريخ لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين هو في الحقيقة التاريخ الإداري للتأسيس أما فكرة الجمعية أو المشروع الحضاري للنهوض بالجزائر بواسطة الجمعية فقد نضج في سنة 1924 عندما عهد الشيخ ابن باديس لرفيق دربه الشيخ الإبراهيمي بوضعه القانون الأساسي للجمعية، وعندما تأسس نادي الترقي بالعاصمة في سنة 1927 كان ابن باديس من بين أشهر الخطباء وألمع العلماء الذين صنعوا مجد هذا النادي الذي لعب دورا في غاية الأهمية في الحياة الفكرية والثقافية والسياسية للجزائر المعاصرة.
عن تأسيس جمعية العلماء يقول الشيخ محمد خير الدين أحد المؤسسين الذي حضر الجلسات العامة والخاصة لتأسيس الجمعية،: ”كنت أنا والشيخ مبارك الميلي في مكتب ابن باديس بقسنطينة يوم دعا الشيخ أحد المصلحين محمد عبابسة الأخضري وطلب إليه أن يقوم بالدعوة إلى تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العاصمة وكلفه أن يختار ثلة من جماعة نادي الترقي الذين لا يثير ذكر أسمائهم شكوك الحكومة، أو مخاوف أصحاب الزوايا، وتتولى هذه الجماعة توجيه الدعوة إلى العلماء لتأسيس الجمعية في نادي الترقي بالعاصمة حتى يتم الاجتماع في هدوء وسلام، وتتحقق الغاية المرجوة من نجاح التأسيس. ويضيف الشيخ خير الدين: ”وأسر إلينا ابن باديس أنه سوف لا يلبي دعوة الاجتماع ولا يحضر يومه الأول حتى يقرر المجتمعون استدعاءه ثانية بصفة رسمية، لحضور الاجتماع العام، فيكون بذلك مدعوا لا داعيا، وبذلك يتجنب ما سيكون من ردود فعل السلطة الفرنسية وأصحاب الزوايا، ومن يتحرجون من كل عمل يقوم به ابن باديس”.
وعن الهدف من تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وطبيعة رسالتها الحضارية فيقول العلامة الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق للجمعية: “إن رسالة جمعية العلماء التي تأسست لتحقيقها، هي ترشيد الشعب الجزائري إلى فهم ذاته، والتكيف بها إلى ما ينهض به من كبوته، وتحريره من الاحتلال الفرنسي الجاثم على صدره منذ قرن، وذلك ببث الوعي الإسلامي الوطني في صفوفه، بإحياء مقومات شخصيته بالتربية، والتعليم، والوعظ والإرشاد؛ فيعتصم بعقيدته الإسلامية مطهرة من الخرافة والإلحاد، ويُحي لغته العربية في لسانه وقلمه، ويستنير بتاريخه الحافل بالأمجاد، ويتسلح بوحدته الوطنية، ويطرد من نفسه الخوف من قوة العدو المحتل، واليأس من رحمة الله ونصره، ويُشمر على ساعد الجد بتوفير كل ما يقدمه ويُرقيه في جميع المجالات الحياتية، ويرفع شأنه في العالمين، وَفقا لقولة الإمام ابن باديس في افتتاحية الجزء الأول من “الشهاب الشهري”: «تستطيع الظروف تكييفنا ولكنها لا تستطيع -بإذن الله- إتلافنا» فمن طبيعة الشعوب والأمم أن تتعرض لمختلف الأمراض في حياتها الجسمية، فتحتاج إلى أطباء يعالجونها لتُتعافى وتشفى، فتستأنف نشاطها في صمودٍ وأمل؛ فكذلكم الشعوب والأمم تحتاج إلى أطباء ماهرين، من المصلحين الاجتماعيين، يداوونها مما تتعرض له من الأمراض المعنوية التي تصيب طاقاتها بالشلل والتعطيل، وهذه هي رسالة جمعية العلماء، نحو الشعب الجزائري، انطلاقا من الآية القرآنية 104من سورة آل عمران:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}. في المقابل استعملت إدارة الاحتلال الفرنسي كل الوسائل الإدارية والإجراءات الزجرية لمحاربة جهود العلماء وعرقلتهم عن تأدية مهمتهم الإصلاحية، فلجأت إلى وسائل الحبس والنفي والتغريم، بالإضافة إلى الاستنطاقات البوليسية والمداهمات لمساكن العلماء، وتهديد أنصار الجمعية ومتابعتهم، والتضييق عليهم في وظائفهم وتجارتهم… وسنت القوانين التعسفية الظالمة مثل قانون شوتان الصادر في 8 مارس 1938 والذي يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر، وبالتالي فإن كل من يعلم اللغة العربية بدون رخصة إدارية من فرنسا يتعرض إلى السجن، ولكن الرخصة لا تعطى في الغالب لمن يطلبها. أما المساجد فقد كانت ممنوعة على العلماء، ولذلك اضطر العلماء لتأسيس المساجد الحرة ليتمكنوا من التواصل مع جماهير المؤمنين فيها وتبليغ خطابهم، وتعرضت صحف الجمعية إلى التعطيل في عدة مرات، ولهذا يمكن القول أن فرنسا قد استعملت كل الوسائل لمحاربة الجمعية وعرقلتها عن أداء مهامها “.
للدفاع عن عقيدة الجزائريين وحماية مرجعيتهم الدينية بنت الجمعية عددا من المساجد الحرة، وفي إطار مجهودها التعليمي قامت جمعية العلماء بتأسيس عشرات المدارس الحرة، منها مدرسة الحديث بتلمسان ومعهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، التي ساهمت في محاربة الجهل وتخريج إطارات الجزائر وعدد من قادة ثورة التحرير، ولنشر الوعي الديني والوطني والدفاع عن القضية الجزائرية أصدرت عددا من الجرائد التي عبرت عن فكرها وبرنامجها كجريدة السنة وجريدة الشريعة وجريدة الصراط السوي وجريدة “البصائر” التي مازالت تصدر حتى اليوم.
لتحضير الشباب لمعركة التحرير وشحذ هممهم لمواجهة تحديات المستقبل ساهمت الجمعية في تشجيع الفرق المسرحية والأندية الرياضية الجزائرية، وأشرفت على تأسيس عدد من الأفواج الكشفية من أشهرها: فوج “الرجاء” ثم فوج: “الصباح” في مدينة قسنطينة في 1936. كل هذه الوسائل وظفتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للحفاظ على الهوية الجزائرية والدفاع عنها ضد حملات المسخ الثقافي واللغوي والتغريب الفكري والتنصير الديني التي شنها الغزو الاحتلالي الفرنسي على الشعب الجزائري طوال قرن وثلث قرن من الزمن.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.