الفضيل الورثلانــي أستاذ التضحية والتواصل والجهاد
أول من لفت انتباهي إلى الفضيل الورثلاني هو شاعر الإنسانية المؤمنة ـ كما يلقب ـ صاحب ديوان مع الله، وأمي، وقصيدة أب؛ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله، كنت في بيته بالرباط سنة 1991، فقال لي: سأخبرك بشيء ظل سرا لم أحدث به أحدا قبلك، بعد الحكم على الفضيل بالإعدام من قبل النظام اليمني، ظل حبيسا في السفينة لا يستقبل من أي بلد، فراسلني، وطلب مني مساعدته، فدخلت على رئيس لبنان آنذاك، وقلت له: هل تذكر يوم كنت مطاردا متخفيا؟ غضب الرئيس، وقال لي: لمَ تُذكرني بذلك؟ قلت له: لأن هناك صديقا مشتركا بيننا يعيش الآن مثل مأساتك التي عشتها من قبل، قال: من هو؟ قلت: الفضيل الورثلاني، فأمر أن يُدخل بيروت سرا، فدخل جنود لبنانيون السفينة بقصد المراقبة، ظاهرا، ومعهم بدلة جندي، ألبسوها الفضيل، وأخرجوه معهم كأنه واحد منهم.
ثم نسيت الفضيل إلى سنة 2012؛ حيث ألقيت عنه محاضرة في سكيكدة أبهرت المستمعين وأخجلتهم، وكان معظمهم يردد جملة واحدة: كيف جهلنا هذا الرجل العظيم كل هذه السنين، وأحسوا مثلي، بالظلم الفادح لهذه الشخصية النادرة المثال.
وفي سنة 2014 نظمنا يوما دراسيا حوله في المركز الثقافي الإسلامي بسكيكدة، حضره الأستاذ الدكتور مولود عويمر والدكتور أحمد من البليدة والأستاذ سعيد بورنان من تيزي وزو وكان ضيف الشرف مسعود حسنين ابن الفضيل الورثلاني.
ثم تتابعت محاضراتي عن هذه الشخصية في سكيكدة وولايات أخرى، أذكر منها: باتنة وأم البواقي والوادي والبليدة… والقاسم المشترك دائما عند المستمعين: الدهشة والانبهار والشعور بالذنب!
كان الفضيل الورثلاني ملازما لأستاذه ابن باديس في الدرس والرحلة، وكان يشرف على تلاميذ الشيخ؛ يحمسهم، ويدربهم على الخطابة، ويوقظ نائمهم، ويذكر غافلهم. وكان يكتب في صحف الجمعية ويوزعها. ثم أرسله ابن باديس إلى فرنسا، لأنه قبائلي، وجل من كان في فرنسا من الجزائريين يومها كان قبائليا، ولأنه يتقن الفرنسية (كان «يبلبل» بها كما حدث عنه فرحات عباس)، فافتتح في ظرف عامين 30 ناديا ومركزا، 15 منها في باريس وحدها، وملأها نشاطا ومحاضرات ودروسا، بمن كان يستقدمهم من علماء ودعاة كانوا يَدرُسون في فرنسا، منهم: محمد عبد الله دراز، وعبد الرحمن تاج، وعمر بهاء الدين الأميري، والعلامة محمد عبد القادر المبارك…
يحكي مرافقُه محمد الصالح بن عتيق أنه ذات ليلة كان مع الفضيل، فدخلا حانة، وأعطى الفضيل لصاحبها مالا مقابل أن يحدث الناس، فخاطب الجزائريين السكارى بالفرنسية والقبائلية والعربية، وهز نفوسهم بشدة وحرك ضمائرهم، وهم في دهشة، حتى انهمرت دموعهم، ولحقوا به خارج الحانة، وتابوا على يديه، وافتتح بهم ناديا جديدا!
ضاقت فرنسا به ذرعا، فأراد البوليس اعتقاله، وأرادت منظمة اليد الحمراء اغتياله، فخرج منها خائفا يترقب.
وفي القاهرة افتتح مكتبا لجمعية العلماء، وأنشأ اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، وجمعية الجالية الجزائرية سنة 1942، وجبهة الدفاع عن شمال إفريقيا سنة 1944م، وكان هو أمينها العام، ورئيسها محمد الخضر حسين، ومن أعضائها: الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي المغربي، وحفيد الأمير عبد القادر الأمير مختار الجزائري.
كان كثير التردد على المركز العام للإخوان المسلمين، وناب عن البنا في درس الثلاثاء مرتين، واختاره البنا من بين جميع العلماء والدعاة والساسة والقادة المصريين وغير المصريين ليقود ثورة تحرير اليمن، وهذا دليل قاطع على أن الفضيل رجل لا نظير له بحق، قالها من قبلُ الشاعر اليمني الشهيد محمود الزبيري: «لا أظن أنه يوجد للفضيل الورثلاني نظير في العالم الإسلامي؛ علماً وكمالاً وإخلاصا وهيبة وجلالاً».
قال عنه رفيقه وتلميذه عبد الله الشامي الشاعر ووزير الخارجية اليمني الأسبق: «إن العالم المجاهد الجزائري السيد الفضيل الورثلاني هو الذي غير مجرى تاريخ اليمن في القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي)، وأنه حين وضع قدمه على أرض اليمن كأنما وضعها على «زر» دولاب تاريخها، فدار بها دورة جديدة في اتجاه جديد، لأن ثورة الدستور سنة 1367هـ 1948م هي من صنع الورتلاني».
قام الورثلاني سنة 1950 و1951 بجولتين كبيرتين زار في الأولى سوريا وتركيا واليونان وإيطاليا وسويسرا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال والمغرب، وعاد إلى بيروت بعد سبعة أشهر من الطريق نفسها. وبعد راحة قليلة قام برحلة مشرقية أطول إلى الكويت وإيران والسعودية والبحرين وباكستان والهند وبنغلاديش وبورما وتايلاند وماليزيا فإندونيسيا، وكان يستقبل حيثما حل من الرؤساء كسوكارنو ومُصدَّق، ومن الأمراء كأمير الكويت والبحرين… وفي كل بلد يخطب ويحاضر ويعقد الندوات الصحفية معرفا بالقضية الجزائرية، وكان بحق الصوت الجزائري الأقوى والأعلى الملعلع في جنبات العالم.
وفي 17 فبراير1955م شارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر، والتي تضم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، وممثلي جبهة التحرير الوطني: أحمد بن بلة، وحسين آيت أحمد، ومحمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب السياسية الجزائرية كالشاذلي مكي، حسين لحول، عبد الرحمن كيوان وأحمد بيوض.
وبعد جهد جهيد، وجهاد مرير، في سبيل الإسلام والجزائر وفلسطين وتحرر العالم الإسلامي؛ تعب، وأنهكه المرض الذي كثيرا ما أجل علاجه، حتى استسلم أخيرا لإجراء عملية في القلب، فشلت، فمات على إثرها في أنقرة يوم الخميس الثاني من رمضان 1378 هـ الموافق لـ: 12 مارس 1959. والعجيب أن هذا الرجل الذي شغل الدنيا، وملأ الأسماع، وكان أستاذا في التواصل؛ مات وحيدا غريبا، لم يجد حتى من يتلو عليه آيات الله، فتلاها بنفسه، وكان ذلك آخر عمله في الدنيا، ويا له من حسن ختام!
ضحى الفضيل في سبيل دعوته بهكتارات شاسعة من أرضه، استولى المحتل على كثير منها، وضحى بزوجه التي خيرها فاختارت الانفصال، وضحى بولده الذي لم يره منذ كان في الثانية من عمره، ولما كبر ابنه كتب إليه يطلب منه أن يلحقه به في القاهرة، يراه ويعيش في كنفه ويطلب العلم، فكان رد الفضيل عجيبا غريبا لا نظير له في التضحية؛ رد على فلذة كبده قائلا: لا! فالسيف الآن أصدق أنباء من الكتب … إذا كنت ابني، لك من دمك خصائص أبيك، فما عليك إلا أن تبادر بإراقة دمك على تربة وطنك، وحينذاك يمكنني أن أغمض عيني هانئا عندما يحين أجلي، بأني ختمت حياتي ورسالتي بأحسن ما يختم به امرؤ حياته!!
هذا غيض من فيض..
رحمة الله تعالى على الفضيل، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.