عبد لله حديبي.. وثنائية اللّغة والرياضيات (1966م/2020م)
بقلم: محمد بسكر-
رزئت الجزائر في سنتها الفارطة بفقد أجلاء من رجال الدّين والفكر والثقافة، أخصّ بالذكر منهم الأستاذ الأديب “عبد الله بن بوعدي حديبي” الذي تحل ذكرى أربعينية وفاته هذه الأيام، وسبق له (رحمه الله) أن كتب مقالة بعنوان ”العظماء لا يموتون”، اقتصر الحديث فيها عن طيف ” الوالد والمعلم” الذي يعود دائما، يملأ المكان والزّمان، والسّمع والبصر والفؤاد، وقد صدق في ذلك.. لأنهم باختصار دموع الأزل الباقية.. وكذلك طيف أمثال الأستاذ “عبد الله” من الأدباء والمفكرين سيبقى عالقا في أذهان المخلصين من أبناء هذا الوطن.
هو من مواليد بوسعادة سنة 1966م، تعلّم في مدارسها ونشأ في أزقة قصرها القديم، أعتق أحيائها، حيث جامع ثامر بن محمد بن عبد الله بن عريف بن زغبة الهلالي، مؤسّس بلدة بوسعادة، تدرّج في مراحل التَّعلُم حتى نال شهادة البكالوريا، فأكمل تعليمه بالمدرسة العليا للاقتصاد، ثمّ بجامعة القاهرة، عمل بعد تخرجه في الإدارة فتولى مناصب عدّة، ما شاع من أمره عند أهالي بلدته، هو سلامة صدره، ونزاهة يده، وعفّة روحه، وإخلاصه في العمل.
تفرغ بعد تقاعده للكتابة، لينفض ما في جرابه ويتدفق إبداع قلمه في الأدب القديم والحديث، فبدأ ينشر مقالاته في جريدة البصائر الأسبوعية التي أفردت له عمودًا خاصًا به، تميّز فيه بأسلوبه السّاكن، وخصوبة خياله، وعمق مقالاته المختصرة الجامعة بين العقلانيات والعواطف المتّزنة…حَديثهُ لا يخرج عن اللّغة والرياضيات، فإن لم يكن تحبيره فيهما، ففي فلسفة الحياة يَجد متَّسعه…مزيجٌ من التجانسٌ بين ذا وذاك، ودقةٌ في اختيار المواضيع، وسلاسةٌ في تَنضيد العبارات.
تسارع عطاؤه الأدبي في الفترة الأخيرة، لتشدّ انتباهنا مقطوعاته النّثرية الجميلة بعناوينها اللّافتة…”الحسد مرادف للحب “، “حلقات العلم”، “عوامل القوة”، “القواعد الذهبية”، “الخيال أساس الإبداع”، ” جورج فلويد العبسي”، ” الرياضيات الجميلة “،” عندما يرتدي الحلزون قوقعة السلحفاة “…وغيرها. كتبها بلغة ينبعث من جرس حروفها حنكة كاتب مبدع، لم تكن صناعة الأدب عنده وليدة منتصف العمر، فقد كان فيها مِبكارًا في مرحلة تعلميه الثانوي، فدفاتره القديمة تتضمن بعضها وإن لم ينشرها، وهو الشاب الذي يحب الانطلاق كما كتب في مقالته ( عودتين)(بتاريخ 12 أوت 1984م) ، يقول (رحمه الله):« إنّني أحب التّطلع إلى المستقبل، ولا أحب الالتفات كثيرا إلى الماضي». ومواضيعه – على قلّتها- جمعت بين الجدّ الصّرف، والعقل المحض، والمعاني الصعبة التي مازج فيها الشعر بميولاته الرياضية، فتخال نفسك وأنت تقرأ له، تسبح في عالم الافتراضات الرياضية والأشكال الهندسية، وفي الوقت نفسه تجذبك إلى الواقع المعاني الأدبية المزينة بالشعر القديم. يقول صاحبه الأستاذ البليغ “مدني حديبي” في شأنه:« غاص عمقا في الرياضيات الجميلة وشغفته حبا… يردد مقولة أرسطو ويجسدها…لا تجالس إلّا رياضي…فقد كان يستثمر الانسحاب والتحاكي والتحويلات النقطية والمتتاليات، والمخروط والتشاكل والتقابل، ويمزجها مزجا بالفكر والواقع ومدرسة الحياة وبالبيان العربي المبين..».
قراءته للّغة وحروفها:
كان (رحمه الله) يحسن قرض الشعر وإن لم يكن فيه مِكثارا، ورصيده من حفظه كبير، فهو يحفظ المعلقات وديوان المتنبي، ويستحضر من شعر البحتري وابن الرومي، ومن الحديث شعر نزار قباني ومحمود درويش وغيرهما، يقول ممازحا فتاة بضاعتها من الأدب مزجاة:«…قليل من الشعر الجاهلي، بقليل من الشعر العباسي، مع كمية معتبرة من الشعر الحديث، اخلطيها جميعا وخذيها على فترات متباعدة…ونظرا لأنّ صحتك الأدبية تهمني، فإنّ هناك ممنوعات تبطل مفعول العلاج، وتزيد في سوء حالتك، ألا وهي: كتابات طه حسين وشعر أحمد شوقي…لأنّ قيمة بسيطة من كتاباتهما تؤدي إلى نتائج غير متوقعة ».
وإذا كان تعلّقه بالرياضيات يرجع إلى مرحلة الشباب باعتبار تخصّصه، فإنّ هيامه باللّغة العربية وحروفها رديف لذلك التّعلق، فهي بالنسبة إليه « اكتملت لتحمل الكمال، وتزينت لتحتضن الجمال، وتميزت في ذلك»… لكل حرف منها عالم خاص به، « يجمع بين موسيقى النّطق، وتلون الشّكل، وروح المعنى، فيأخذ جمال الشّكل عند الخطّاط، وعذابة اللّحن عند الخطيب، وعمق المعنى عند المفكر، هي الحروف نفسها، هي الكلمات نفسها من زمن الجاهلية إلى يومنا هذا، فلماذا عندما يتغير ترتيبها، تتعدد معانيها، ويتباين جمالها، وكأنّها ذَهبٌ لا يزيده الزّمن إلّا جمالا وتوهجا ».
وهو يجزم بأنّ اللغة هي وليد البيئة، لا تخرج عن نطاقها، فالعربي في العهد الجاهلي في تصويره للأشياء إنّما يستمد ألفاظ مفرداته من الأبعاد الموجودة في الطبيعة، فأغراض الشعر من الوصف والغزل والخمريات و المدح والحماسة تنوعت بتنوع البيئة، فالإنسان « لا يستطيع توصيف الأشياء أو تمييزها خارج ذلك، وكانت العرب في الجاهلية توصِّف مشاهداتها توصيفا لا يبتعد عن محيطها من حيوانات وطبيعة صحراوية ».
مبدأ الثنائيات:
تُلَازم الثّنائية طَبيعة الإنسان ولا تنفصم عن حياته.. (الحسد والحب)( الجمال والقبح)( الحزن والفرح ) ( السعادة والشقاوة)( المنح والحرمان)… وتُلَازم محيطه؛ لأنّها جبلة في مخلوقات الله…(الإيجاب والسلب)(الحر والبرد) (الموت والحياة )، وفهم هذه الخاصية له تأثيره في استقامة الحياة وسلامة النّفس، ومقالاته فيها إيماء إلى هذه الظاهرة، يقول (رحمه الله): « الثنائيات قد نستطيع البدء في ذكرها ولا نستطيع الانتهاء من عدها، ولا تستقيم الحياة بغير وجودها، فيظلم اللّيل ليضيء النّهار، ويقبل الحرّ ليدبر القرّ ، ولا تكون حياة بعض الحيوانات إلّا بموت أخرى، ولا يفوز بعض النّاس إلّا بخسارة بعض آخر، عجبا…! موت يعطي حياة …! وحزن يرسم سعادة…!، تلازم لابد منه، وتلاحق لا تظهر نهاياته إلّا بتحقق بداياته..». وكما أجاد توظيف هذه الثنائيات في حديثه عن النّفس البشرية وما تحمله من متناقضات، فإنّه استطاع توظيف ثنائيةَ الشعر المبني على الأوزان والبحور، والرياضيات التي تعتمد على الأعداد، فكان ذلك النّمط الصّعب اِختيارهُ في كتاباته، « فالأعداد من أسس علم الرياضيات، ولا يمكن أن نتصور علم الرياضيات في غياب الأعداد، مثل الحروف بالنّسبة للّغة فهي بمثابة الرّوح من الجسد»، ولا يمكن تحليل أي صورة إلى أجزائها أو خصائصها دون استخدام الألفاظ، أو دون استخدام الرموز، وعُرف عن علماء الرياضيات والفلك قديما حبّهم للشعر، وعشقهم للمعاني البليغة، ووظف شعراء العهد الجاهلي الحساب في قصائدهم، لتأكّدهم بأنّ الشعر ما هو إلّا معادلات رياضية، وكانت زرقاء اليمامة أوّل من تفطن لذلك، يقول الأستاذ قدري حافظ في عدد مارس 1934 من مجلة الرسالة:« لا أعرف شاعرًا أو شاعرة، قبل زرقاء اليمامة نظم شعرًا وضمنه مسألة حسابية، ومما لا شك فيه أنها لم تكن تقصد وضع معضلة رياضية في قالب شعري، إنّما كل ما في الأمر أنّها كانت حادة البصر، وقد رأت سربًا من الطيور، فقالت: ( ليت الحمام ليه … إلى حمامتيه… ونصفه قديه … صار الحمام ميه)».
لا أستطيع أن أفاضل بين مقالاته، فلكلّ مقال وقعه الخاص به، ولعلّ أجمل ما أبدع فيه، هو ما كتبه عن ( همس الخلوات)..فالخلوة هي إمعان في الذّات، فيها تنجلي الإبداعات، وتسمو النّفوس، لقد أخذ – (عليه شآبيب الرحمة)- حظّه من خلوته الاختيارية ، فابتعد عن وساخة الدنيا، فعاش نقي النّفس واليد والقلم، وقد أحسن في توصيفه عندما قال: « في الخلوة خيط رفيع يفصل بين أقصى النّقاء، والقرب من الله..».