خطيب جمعية العلماء: الشيخ العباس بن الحسين
بقلم: محمد الهادي الحسني-
“خطيب جمعية العلماء(1)”، أن يفوز بهذا الوصف شخص من بين عشرات الأشخاص كلهم، أو أكثرهم، متكلم ماهر، ومتحدث تقوالة، فذلك هو التميز، بل الامتياز. وما نال هذا الوصف بهذه الصيغة- في ما نعلم- إلا الشيخ العباس بن الحسين- رحمه الله.
وأن يأتي هذا الوصف في “جريدة البصائر”، الناطقة بالحق، المتحرية للصدق، فذلك هو الوسام الذي ليس له ثمن. وأرى الجريدة في إطلاقها هذا الوصف على الشيخ العباس مصيبة كبد الحقيقة. ولست في هذا الرأي راويا عن غيري، وإنما أنا عليه من الشاهدين، حيث خطت الأقدار في صحيفتي أن أعمل تحت قيادة الشيخ العباس في مسجد باريس حولين كاملين، حضرت في أثنائها كثيرا من مجالس الشيخ ولقاءاته وندواته الصحفية مع أناس ذوي مقام معلوم، من العرب والعجم، مسلمين وغير مسلمين، واستمعت إلى كثير من دروسه المسجدية وخطبه الجمعية، فكان كالمغناطيس، هذا يشد المعدن شدا، وذلك يجذب المستمع إليه جذبا، ويأسره أسرا لا فكاك له منه، سواء كان الحديث في أمور الدين، أم في قضايا الاجتماع، أم في شؤون السياسة، أم في عالم الأدب العربي، نثره ونظمه..عمدته في ذلك ذاكرة عجيبة، سمعت عن مثلها، ولكنني لم أر مثلها، متنقلة بالمستمع من آي الذكر الحكيم، إلى أحاديث الرسول الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إلى أقوال العلماء وأشعار الشعراء.
ولد الشيخ العباس في عام 1912، في بلدة سيدي خليفة- ولاية ميلة- وكانت أسرته مشهورة في تلك النواحي، لأنها أسرة علم ودين، وكانت ذات نزعة إصلاحية، رغم أن لها زاوية.
بعد حفظه القرآن الكريم، تلقى مبادئ اللغة والعلوم الشرعية في زاوية أسرته، ومن الشيوخ الذين درس عليهم الشيخ بلقاسم منيع، وكان الشيخ العباس يكن للشيخ بلقاسم احتراما كبيرا.
لما بلغ مبلغ الشباب توجه إلى تونس، وانتسب إلى جامع الزيتونة، ولكن مكثه فيه لم يطل، ولسنا ندري سبب ذلك، ثم انتقل إلى المغرب الأقصى، فانخرط-في بداية الثلاثينيات- في جامع القرويين. ومن زملائه في ذلك الجامع، أحمد بن سودة، الأستاذ المناضل المغربي، الذي صار مستشارا للملك المغربي، الحسن الثاني.
لقد ترك لنا الأستاذ ابن سودة شهادة عن الشيخ العباس، وقد سجلها بمناسبة وفاة الشيخ العباس، ونشرها في جريدة “الشرق الأوسط” (2)، التي كانت تصدر في لندن. ومما جاء في هذه الشهادة القيمة، أن اسم الشيخ العباس “كان لامعا في القرويين، وكان من أنبغ التلاميذ… كما كان خطيبا بليغا”.
لم يكن الشيخ العباس من أولئك الطلاب الذين لا يهتمون بالنضال السياسي، ولذلك- كما شهد الأستاذ ابن سودة- “عمل معنا في الخلايا الوطنية، كأي مواطن مغربي، رغم أنه جزائري، وبخاصة داخل الجمعية، التي كانت تعمل لإصلاح نظام القرويين… وكان من أفصح الخطباء، ومن زعماء الطلبة، وظل بيته في مدرسة المصباحية هو مركز القيادة للإضراب”، حيث كان يمتاز بـ”قوة الإيمان وفصاحة الحديث، ويعيش الأحداث الوطنية بأحاسيسه وقلبه”. والشيخ العباس هو الذي سمّى الشاعر المغربي إدريس الجاي “عنترة القرويين”، الذي كان يلهب مشاعر الطلبة بأشعاره.. كما شهد ابن سودة.
وذكر الشيخ العباس للشيخ عبد الرحمن بن العقون (3) أنه عمل لحساب “حزب نجم شمال إفريقيا”، منذ سنة 1931، وكان الواسطة بين الشيخ وهذا الحزب هو المناضل محمد قنانش، وهو مناضل من تلمسان، فكان هذا المناضل يرسل جريدة الأمة التي كان يصدرها النجم إلى الشيخ العباس الذي يتولى توزيعها على الطلبة الجزائريين.. ولعل هذا من أسباب حكم الإدارة الفرنسية على الشيخ العباس بالإبعاد من فاس، إضافة إلى نشاطه مع “الكتلة الوطنية المغربية” ثم مع “حزب بالاستقلال” المغربي، الذي انشق عن “الكتلة الوطنية”، وقد تم نفي الشيخ العباس، أو إبعاده، في سنة 1938.
استقر الشيخ العباس في بلدة “بني صاف”، القريبة من تلمسان، ولسنا ندري إن كان في ذلك مختارا أم مجبرا، كما لا نعلم إن كان الشيخ العباس اتصل في هذه الفترة بالإمام الإبراهيمي، المقيم بتلمسان ممثلا لجمعية العلماء، والراجح أنه اتصل به، إذا عرفنا أنه أسست شعبة للجمعية في بني صاف وأن رئيس هذه الشعبة هو الشيخ العباس (جريدة البصائر. ع 107 في 8-4-1938 ص3).
وفي بني صاف، أسس الشيخ العباس ناديا إسلاميا باسم الحركة الإصلاحية، وقد عثرنا للشيخ على أثرين في جريدة البصائر، يعودان إلى هذه الفترة. أولهما، عبارة عن قصيدة تحت عنوان “يا فلسطين الشهيدة”، وهي منشورة في العدد 157 بتاريخ 17-3-1939، وثانيهما، مقال تحت عنوان “كلمة صريحة”، (البصائر 5-12-1939).
لم يطل المقام بالشيخ العباس في بني صاف، وقد انزعج من نشاطه الفرنسيون والطرقيون، لما كان ينشره من الفكر الإصلاحي، ومحاربة البدع، فأخرج من مدينة بني صاف، فتوجه إلى مدينة قسنطينة، واتصل بالإمام عبد الحميد ابن باديس، الذي بعثه إلى مدينة عنابة ليشرف بها على الحركة الإصلاحية، بالإضافة إلى نشاطه ضمن “حزب الشعب الجزائري”، الذي خلف “حزب نجم شمال إفريقيا” بعد حله من طرف السلطات الفرنسية.
وفي منتصف سنة 1940، قبض عليه من قبل السلطات الفرنسية فسجن، وغرم، ثم برئت ساحته ولا ذنب له إلا أنه كان يعلم اللغة العربية، وينشر الدين الإسلامي الصحيح والفكر الإسلامي السليم.. ثم حاول الاستقرار بمدينة عزابة، فمنعته السلطات الفرنسية من العمل، سواء بمدرستها أم بمسجدها، فعاد إلى قسنطينة.
في سنة 1943، خفف الضغط عن الجزائريين بعد نزول الأمريكيين في الجزائر، استعدادا للهجوم على جنوب إيطاليا، فذهب الشيخ العباس إلى بلدة سيدي مزغيش، للإشراف على الحركة الإصلاحية بها، والتعليم بمدرستها.
وفي هذه الفترة، نشط الشيخ مع حركة “أحباب البيان والحرية”، وهو تجمع سياسي لأهم الحركات الجزائرية بقيادة كل من الإمام الإبراهيمي، وميصالي الحاج، وفرحات عباس.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سجن الشيخ العباس في من سجنوا، وتنقل بين سجون سكيكدة، وقسنطينة، والحراش، والأصنام- الشلف- وأخيرا، بوسوي في جنوب وهران.. وفي أثناء وجوده في هذا السجن، احتك ببعض مسؤولي “حزب الشعب”، فأنكر كثيرا من سلوكهم مما يتنافى- كما قال- “مع المبادئ الوطنية، التي ندعو لها في الحزب (4)”.
ولما أسس الإمام الإبراهيمي معهد الإمام ابن باديس، اصطفى له خيرة أساتذة الجمعية، وكان الشيخ العباس أحدهم. وقد شهد طلبته بعلمه الواسع، وشخصيته القوية، وشجاعته. ومن ذلك، أنه عندما ضاق المعهد بالطلاب طلبت إدارة المعهد من السلطات الفرنسية السماح باستعمال “الجامع الكبير”، القريب من المعهد- فرفضت السلطات الفرنسية، فما كان من الشيخ العباس إلا أن اتفق مع الطلبة على “احتلال المسجد” بالبقاء فيه عقب صلاة الفجر..
وتقديرا من الإمام الإبراهيمي لعلم الشيخ العباس وتجربته عيّنه في “لجنة التعليم العليا”، التي أنشئت في سنة 1948، وهي كما سماها الشيخ عبد الرحمن شيبان “وزارة تربية شعبية (5)”، حيث عهد إليها بالإشراف على شؤون التعليم، من وضع البرامج، وإصدار اللوائح، وتعيين المعلمين، ووضع الدرجات لهم، واختيار المفتشين، وتنظيم ملتقيات تربوية دورية لمناقشة مشكلات التعليم.
في أكتوبر من عام 1951، عقدت الجمعية مؤتمرها العام، وكان مؤتمرا متميزا، حيث جاء بعد الحرب العالمية الثانية، وجرائم 8 ماي 1945، وسجن قيادة الجمعية عقب تلك الحوادث الإجرامية، وكانت الفترة من 1946، فما بعدها عرفت توسعا في نشاط الجمعية، وتعددا في مدارسها، وتعميما لشعبها في أنحاء الوطن، وفتحا لمكتبين لها في خارج الوطن، هما مكتب القاهرة ومكتب باريس، وكان على الجمعية أن تراعي ذلك كله، فكان انتخاب نائبين للرئيس، (الشيخين العربي التبسي ومحمد خير الدين) بدل نائب واحد، وانتخاب ثلاثة نواب للكاتب العام (أحمد سحنون، وحمام حماني، وعبد الوهاب بن منصور) بدل نائب واحد. وفي هذا المؤتمر، انتخب الشيخ العباس عضوا في المكتب الإداري للجمعية، وهو مكتب يشبه المكتب السياسي في الأحزاب السياسية، فهو الذي يدير شؤون الجمعية بين مؤتمريها.
وفي بداية عام 1951، استحدثت في الجمعية مهمة هامة هي مهمة “ملحق بمكتب الرئيس”، يقوم من تسند إليه ببعض ما كان يقوم به الرئيس من الأعمال التي كثرت فأكلت أوقاته كلها، وقد وقع الاختيار على الشيخ العباس “لكفاءته”، واقتداره، ونشاطه، فأعفي من التدريس بالمعهد،وألحق بمكتب الرئيس ليستعين به على تصريف الأمور، وليكون نائبه في كل ما يوجهه إليه من شؤون المدارس، والجمعيات، والشعب، والمعملين، والجمهور (6)”. ويدل هذا الاختيار على مكانة الشيخ العباس وقيمته، وعلى ثقة الإمام الإبراهيمي فيه.. وقد مكّنت هذه المهمة الشيخ العباس من التنقل في جميع أنحاء الجزائر، ومعرفة عادات سكان كل منطقة، وظروف المعلمين فيها، واقتراح الحلول لما يستجد فيها من أمور تعليمية أو إرشادية، أو اجتماعية، فكوّن بهذه المهمة شبكة كبيرة من المعارف.
وفي نهاية 1951، عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة دورتها العادية في مدينة باريس، وذلك قبل بناء مقرها في مدينة نيويورك.
اهتبل الإمام الإبراهيمي هذه المناسبة، وعرض الأمر على مكتب الجمعية للذهاب إلى باريس للاتصال بمندوبي الدول العربية والإسلامية وشرح القضية الجزائرية لهم، وطلب عرضها على الأمم المتحدة، فوافق المكتب على ذلك، واختار الإمام لمرافقته في هذه المهمة كلا من نائبه الثاني الشيخ محمد خير الدين، وممثله الشيخ العباس، وانضاف إليهم الزعيم فرحات عباس وبعض معاونيه.
لقد دل هذا الاختيار- مرة أخرى- على ثقة الإمام الإبراهيمي في الشيخ العباس.. وقد نشط هذا الوفد على هامش تلك الدورة نشاطا هاما، ومنه إنجاز ما عرف باسم “ميثاق أحزاب شمال إفريقيا” لتنسيق العمل بين هذه الأحزاب لتحقيق الهدف الأكبر، وهو تحرير شمال إفريقيا.. وقد “أسند الرئيس الشيخ الإبراهيمي إلى الشيخ محمد خير الدين والشيخ العباس ابن الشيخ الحسين… ومعهما وفد من أحزاب شمال إفريقيا تسليم هذه الوثيقة إلى السيد ترفيلي، الكاتب العام لجمعية الأمم (7)”.
عندما أعلن الجهاد في 5 ربيع الأول من عام 1374 هـ (1 نوفمبر 1954) كان رئيس الجمعية- الإمام الإبراهيمي- في القاهرة، وقد غبّر في وجوه قادة الأحزاب الجزائرية، عندما أصدر في العشر الأوائل لقيام الثورة المباركة بيانا يؤيد فيه تلك الثورة، ويحث الشعب الجزائري على مساندتها ومؤازرتها، وقد اعتبر أولو النّهى ذلك البيان “فتوى شرعية”، توجب على كل الجزائريين نصرتها بجميع أنواع النصرة.
وبعد فترة قصير من ذلك البيان، بدأت ألاعيب السياسيين- الجزائريين وغير الجزائريين- رأت قيادة الجمعية في داخل الجزائر أن تطلع رئيسها في القاهرة على ما عندها من معلومات عن الثورة وقيادتها، فوقع اختيار قادة الجمعية في الداخل على الشيخ العباس للقيام بتلك المهمة، فسافر إلى القاهرة والتقى الإمام الإبراهيمي، وأطلعه على الأمور، ثم توجه تلقاء بيروت، حيث كان الأستاذ الفضيل الورتيلاني مقيما (8)، لأنه صار من المغضوب عليهم من نظام “الثورة المصرية”، وإن كان عند ربه مرضيا- إن شاء الله.
وقد أخبرني الشيخ العباس أنه وجد الأستاذ الفضيل الورتيلاني يعيش في “غرفة”، يستنكف من هم أقل من الورتيلاني علما ومكانة أن يسكنها، لقد كانت المسؤولية عند أمثال هؤلاء تكليفا لا تشريفا، وغرما لا غنما.
وفي أفريل من عام 1956، طلبت قيادة جبهة التحرير الوطني من بعض قادة الجمعية أن يلتحقوا بالوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني، تعزيزا للنضال الدبلوماسي، فكان الشيخ العباس أحد هؤلاء (9)، إضافة إلى الشيخ محمد خير الدين، نائب رئيس الجمعية، والأستاذ أحمد توفيق المدني، الأمين العام للجمعية..
وبعد مدة، رأت قيادة الثورة أن تعين الشيخ العباس ممثلا للثورة في المملكة العربية السعودية. والسعودية بما لها من إمكانات مالية، وبمكانتها المعنوية في العالم الإسلامي تحتاج فيها الثورة إلى وجود شخصية متميزة، فكان الشيخ العباس، الذي صار سفيرا للجزائر في السعودية في السنتين الأوليين بعد استرجاع الاستقلال.
لابد من أن أشير إلى أن السعودية هي أول دولة عرضت القضية الجزائرية على الأمم المتحدة، وذلك في شهر ديسمبر من عام 1954 (10)، كما قدمت السعودية مساعدات مالية مهمة للثورة، وقد أخبرني الشيخ العباس أنه كان يتحرج من تدخلات أحمد بن بلة- رئيس الجزائر- ضد السعودية التي كانت تناصر الملكيين في اليمن في صراعهم مع الجمهوريين، الذين كان يؤيدهم جمال عبد الناصر. وكان من رأي الشيخ العباس ألا تنحاز الجزائر إلى أي طرف. ولعل هذا هو سبب انتهاء الشيخ العباس في السعودية.
رجع الشيخ العباس إلى الجزائر، ولم يكن راضيا عن سياسة المسؤول الأول آنذاك- أحمد بن بلة- خاصة أنه أبدى سوءا للإمام الإبراهيمي، الذي أصدر بيانا في 16 أفريل 1964، ينتقد فيه سياسة ابن بلة، وقد وقف الشيخ العباس إلى جانب الإمام الإبراهيمي، إلى أن انتقل إلى جوار ربه، وأطيح بابن بلة في 19 جوان 1965، من طرف هواري بومدين ومن سانده في ذلك. وكان الشيخ العباس في هذه الفترة يعمل في مكتب مقاطعة إسرائيل في رئاسة الدولة.
بعد تشكيل حكومة هواري بومدين الأولى، تداعى ثلة من العلماء إلى تأسيس ما سموه “المجلس الإسلامي الأعلى”، ليكون ردءا لوزارة الأوقاف في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه ضد خصومه من التيارات السياسية والتغريبيين، وقد عين على رأس هذا المجلس الإسلامي الأستاذ الصديق سعدي، الذي لم يستمر طويلا في رئاسة هذا المجلس واستقال، فعهد برئاسته إلى الشيخ العباس الذي استقال هو أيضا ليعين على رأسه مؤقتا الشيخ سعيد صالحي، الذي خلفه بعد فترة الشيخ أحمد حماني.
في بداية الثمانينيات، رأت الحكومة الجزائرية أن تتولى الإشراف على مسجد باريس، وأجرت اتصالات مع عميده آنذاك- حمزة بوبكر- الذي كان من معارضي الثورة، ومن المتآمرين عليها في قضية “فصل الصحراء”، وقد أرضته الحكومة الجزائرية- لأسباب سياسية- ببعض الأمور المادية، وإعادة الجنسية الجزائرية إليه، فسلّم إدارة المسجد والإشراف عليه ماديا ومعنويا إلى الدولة الجزائرية التي اختارت الشيخ العباس ليكون المسؤول الأول لذلك المسجد.
وأشهد، ولا أشهد إلا بما رأيت وعلمت، ويشهد كثير غيري، أن الشيخ العابس نفخ من روحه في ذلك المسجد فأحياه، وصار ليس قبلة لمسلمي فرنسا فقط، بل أصبح مرجعا لأغلب المسلمين في أوروبا، ويمكن إطلاق صفة “العهد الذهبي” لمسجد باريس في عهد الشيخ العباس، وممن اختارهم لمساعدته في تسيير شؤون المسجد، الدكتور عبد الرزاق قسوم، والأستاذان عبد الرحمن بن غمراني ومصطفى بوغابة- رحمهما الله.
كما أشهد أنه بالرغم من علو سنه وتعدد أمراضه، كان- بنشاطه- يتعب “الشبان” العاملين معه، وقد كسب احترام أكثر سفراء الدول الإسلامية، والمسؤولين الفرنسيين، ورجال الدين النصارى واليهود غير الصهيونيين.. كما وقف في ائتلاف قلوب كثير من “الحركى” الذين استنزلهم الشيطان فوقفوا إلى جانب فرنسا الاستعمارية، وعندما يعبرون له عن حنينهم إلى الجزائر التي لم يسمح لكثير منهم بزيارتها لما ارتكبوه من جرائم، كان الشيخ العباس يخفف من لوعتهم وحزنهم بقوله: “ضيعتم وطنكم فلا تضيّعوا دينكم”.
لم تكن إدارة الشيخ العباس لمسجد باريس سهلة، فقد كان يواجه عدة خصوم وأعداء منهم:
“الحركى” الذين لا يزالون يصرون على خيانتهم لدينهم ووطنهم.
“الأقدام السوداء”، وهم الفرنسيون الذين كانوا في الجزائر، ولا يزالون يحلمون بما سماه الجنرال دوغول “L’Algérie de papa” أو “الجزائر الفرنسية”.
“اليمين الفرنسي المتعصب”، الذي يؤمن بـ “فرنسا البنت البكر للكنيسة”، وتضيق صدورهم من وجود مسجد في قلب عاصمتهم في الحي اللاتيني، وغير بعيد من كاتدرائية باريس.
اليهود الصهاينة، وما يمثلونه من ثقل مالي وإعلامي، وحقد متأصل في أنفسهم على الإسلام والمسلمين.
الفرنسيون الأصليون الذين أسلموا، ويعتبرون أنفسهم الأولى بالإشراف على مسجد باريس، وربما يسميهم البعض “ممثلي الإسلام الفرنسي”.
المغاربة، والتونسيون، والمصريون، والسعوديون، والإيرانيون، وآخرون من دونهم وكل له “دعواه” في أهليته للإشراف على مسجد باريس، لرمزيته وأهميته في نظر مسلمي فرنسا وأوربا عموما، وفي نظر السياسيين الفرنسيين.
المعارضة الجزائرية للحكومة، خاصة بعدما استقر ابن بلة في الخارج، ونزع عنه لباس “ماوتسي تونغ” الشيوعي، و”تمسلم” فصار يدعو- لغرض سياسي- إلى “إسلام”.
“ودادية الجزائريين”، وهي تنظيم تابع لحزب “جبهة التحرير الوطني”، مكلف بمراقبة الجزائريين، وكان أكثر العاملين في هذا التنظيم من أسوأ العناصر، وكانوا يريدون أن يرفعوا خسيستهم ويبيضوا وجوههم وأعمالهم، بعدما ساءت أعمالهم وسمعتهم عند أغلب المغتربين.
لقد ساعد الشيخ العباس على أداء مهمته التي عهد بها إليه مجموعة من الصفات منها: العلم الواسع. الذكاء المتوقد. العمل الدائب. الدهاء. الذاكرة القوية. الأخلاق الإنسانية السامية؛ من رأفة، ورحمة، وسماحة، ونجدة، ومساعدة الغير في حدود الإمكان.
كان الشيخ العباس ممن لا يغرقون في جزئيات القضايا، خاصة في الأمور الدينية، فقد كان من أصحاب النظرات الكلية للإسلام، والبعد المقاصدي فيه، ومما كان يردده على الأسماع في دروسه ولقاءاته قوله: “إن الدين كالدواء، إما أن تأخذه كما ينص الطبيب توقيتا وكمية، فيشفيك بإذن الله، وإما ألا تأخذه، أو تأخذه بفوضى وحسب هواك فيرديك”.
ومن أقواله في خطبة منقولة على “إذاعة الشرق في باريس، مخاطبا اليهود: “إن أوربا التي أنجبت هتلر وموسوليني قادرة على أن تنجب مثليهما- إشارة إلى اليميني المتطرف جان ماري لوبان، ولن تجدوا في هذه المرة الحضن الذي آواكم من قبل، وهم العرب والمسلمون”.
ومما يدل على مكانة الشيخ العباس في عيون كثير من وجهاء الفرنسيين، ما قصّه عليّ الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي من كون الرئيس الفرنسي جاك شيراك قال له ما معناه: “إن من أكثر ما أسفت عليه، أنني لم أستطع أن أتواصل بشكل جيد مع الشيخ العباس بسبب حاجز اللغة”.
وأما أنا- كاتب هذه السطور- فآسف على أنني لم أسجل بقلمي ما سمعته من الشيخ، ولم أسع لتجسيد ما اقترحته على الشيخ من تسجيل صوتي له لما علمه من أمور، ولمن عرفهم من أشخاص.
لبّى الشيخ نداء ربه، فالتحقت روحه بعالمها الأسمى يوم 3 ماي 1989. ومن عجائب الأقدار، أن الشيخ العباس كان يرجو لقاء المناضل ياسر عرفات، فلما قدّر له أن يلقاه في باريس بمناسبة أول زيارة له إلى باريس دهمته أزمة قلبية فكانت القاضية.
رحم الله الشيخ العباس رحمة واسعة، وجميع علمائنا العاملين.
الهوامش:
1) البصائر في 22-5-1953.
2) جريدة الشرق الأوسط في 20-5-1989 ص5.
3) عبد الرحمن بن العثون: الكفاح القومي والسياسي، ج2 ص 2018-2019.
4) المرجع نفسه، ج2 ص 220.
5) شيبان عبد الرحمن: جريدة الشرق الأوسط في 21-5-1989.
6) البصائر في 8-1-1951.
7) محمد خير الدين: مذكرات، ج2. ص 51، مؤسسة الضحى.
8) البصائر في 30-12-1955 و24-2-1956.
9) أحمد توفيق المدني: حياة كفاح (مذكرات) ج3.
10) مولود قاسم: ردود الفعل الأولية عن ثورة نوفمبر ص203، (نشر دار البعث – قسنطينة).