العلامة ابن باديس قائدا…
بقلم: حسن خليفة-
ونحن في ظلال ذكرى التأسيس الـ 89 أحببتُ الإشارة إلى ملمح مركزي فذّ في شخصية ونفسية الشيخ الإمام عبد الحميد ابن باديس، وهو ملمح "القيادية "، وبيان أن ذلك، بعد الإخلاص لله تبارك وتعالى وتوفيقه، هو أحد الأسرار وراء ما صنعه ـ رحمه الله ـ من نهضة إيمانية ثقافية متعددة الأوجه.
والمقصود بالقيادية هنا تلك القدرة على الالتقاط ، والاستجابة الفورية لكل ما يشكّل خرقا في نسيج الأمة وتهديدا لدينها وخصوصيتها، كما أن من المقصودات أيضا:
التخطيط الدقيق، والعزم، والمثابرة، واستيعاب الموقف، والرؤية الواضحة، والمتابعة والمداومة، والتكليف والتسخير...لدرجة أنه لم يُهمل رسالة من شعبة بعيدة (ورقلة)، بل عمد إلى إيجاد حلّ عملي سريع لها وتكليف من يجب تكليفه بها حالا، وهذا ما يرويه الشيخ خير الدين رحمة الله عليه في مذكراته.
وأحسبُ أن في ذلك ما يدفعنا دفعا إلى استلهام رصيد هذا الرجل الرّباني الاستثنائي، وتحليل حركاته ومواقفه ومجموع أعماله وجهوده المنتظمة الدائبة المتعددة الأوجه ، والاستئناس بها في عمل الجمعية حاضرا ومستقبلا، بل وفي العمل التغييري المنشود في وطننا كله، وذلك بمراكمة النجاحات، وإعادة قراءة الواقع من خلال الاستثمار في حقول التغيير الجوهرية، وترتيب الأولويات، واعتماد الحزم والانبعاث السريع والمبادرة والفعالية، وتجديد وابتكار وسائل للعمل، وعدم الركون ـ أبدا ـ إلى التأجيل والإرجاء والتكاسل في العمل الإصلاحي والدعوي الذي تعظُم مسؤولياته وتكبر يوما بعد آخر.
******
يروي الشيخ محمد خير الدين في مذكراته (مؤسسة الضحى،ط3،ص 250)*واقعة مهمّة أعتقد أنها تتيح لنا قراءة المشهد قراءة عميقة، وبيان الإجرام الاستدماري في حق الدين والقرآن والتعليم واللغة، كما تكشف لنا عن الاستجابة الإيمانية السريعة لجمعية العلماء في كل ما يتصل بالعدوان على المباديء..يقول الشيخ خير الدين :
"في أوائل سنة1934 تلقّيت دعوة مستعجلة من الإمام عبد الحميد ابن باديس فتوجّهتُ إليه في قسنطينة، وبعد السلام عليه ناولني رسالة وردت من رئيس شعبة جمعية العلماء بورقلة... يستغيث بجمعية العلماء ويحثُّها على الإسراع قبلَ فوات الأوان، للدفاع عن الإسلام،وحماية المصلحين وأبنائهم،ويقول فيه (الرسالة):
"إن الحاكمَ قد خوّل السلطة لقساوسة الآباء البيض، في منع المسلمين من الصلاة في المسجد،ونقل التلاميذ من المدراس القرآنية إلى مراكز التبشير بإشراف رجل يُدعى يوسف صالح، كان يعلّم أبناء المسلمين القرآن في الكتاتيب حسب العادة المتّبعة، ثم تنصّر وصار يدعى (جوزيف لعور)كلّفَه القساوسة بتنشئة التلاميذ على الدين المسيحي وتقلينهم الأناشيد الدينية المسيحية "(انتهت الرسالة)
طلب منّي الرئيس ابن باديس السفرفورا إلى ورقلة، والاتصال بالشعبة هناك وكتابة تقرير مفصّل عن الأوضاع كما هي، حتى يتسنىّ للجمعية آن تقوم بواجبها في الاتصال بالمسؤولين في العاصمة وخارجها، وبالصحافة الوطنية والأجنبية لكي تقاوم هذه الظاهرة الخطيرة بكل ماتستطيع من وسائل وتحوُل دون انتشارها.
قلتُ له :إنك تعلم بالقرار الذي أصدره الوالي العام في الجزائرمنذ سنة والذي يقضي بمنع أعضاء جمعية العلماء من الدخول إلى الصحراء.
فأجابني: يجب أن تصل إلى عين المكان،ودعهم يردّونك تحت الحراسة مقيّدا بالإغلال .
رجعتُ إلى بسكرة وركبتُ منها القطار إلى تقرت؛ حيث ينتهي خط السكة الحديدية، وهي تبعد عن بسكرة (أكثرمن 150 كلم)، كنت متنكّرا في زيّ تاجر بسيط.
ومن تقرت ركبتُ حافلة عمومية. وصلتُ إلى ورقلة في حدود الرابعة مساء. وعند المغادرة وجدت شرطيا يراقب المسافرين القادمين إلى المدينة ليقود كل أجنبي عن المدينة إلى مكتب الحاكم العسكري قبل دخول المدينة.
سألني الشرطي: من أين أتيتَ؟.قلت :من بسكرة.فقال :"اتبعني لمقابلة الحاكم، فقلتُ له :إنني جئتُ لزيارة صديقي (الأب جوزيف)رئيس الآباء البيض"شارل دوفوكو" .فقال: هل صديقك الأب جزيف؟. قلت: نعم.
قال: اسمح لي إذن يا سيدي، وامض إلى مقصدك فحمدتُ الله الذي ألهمني هذه الحيلة ودخلت المدينة، واتصلت ُ برئيس الشعبة فيها، وتجوّلنا سويا في المدينة فرأيتُ المساجد خالية من المصلين، والكتاتيب القرآنية معطّلة.ومرّ بي على مركزالمبشّرين وكنائسهم لنرى ونسمع كيف يُلقّنون المئات من أبناء المسلمين مباديء الدين المسيحي في فضاء واسع يلتفّون وقوفا حول رجل أسود يُلقي عليهم الكلمة فيردّدونها بأصوات شجية في حماس. وكان هذا الرجل هو الذي ذكرته آنفا استغلّه المبشرون (المنصرون) للطعن في الإسلام بإيهام البسطاء :أن هذا الرجل الذي كان يعلّم أبناءهم في الكتاتيب القرآنية قد عشق المسيحية واعتنقها وترك دين المسلمين .
واصلنا التجوّل في شوارع المدينة حتى حان وقت صلاة العصر، فرأيت في المكان الذي نسير فيه بناء له باب مطليّ باللون الأخضر اللامع مكتوب عليه"نصرمن الله وفتح قريب". قلتُ لرفيقي رئيس الشعبة: هيّا بنا ندخل هذا المسجد لنؤديّ صلاة العصر، فانفجر الرجل بقهقة. وقال :أتدري ما هذا يا سيدي ؟ هذا محل فساد، هذا بيت دعارة. ولشدّ ما أحزنني ما رأيتُ من استشراء الفساد،وتحويل المسلمين عن دينهم بشتى الوسائل ومختلف الأساليب،لكن ذلك لم يفت في عضدي أو يوهن من عزيمتي ومواصلة مهمتي،وطلبت من رئيس الشعبة أن يهيء لي اجتماعا مع أعضاء الشعبة في داره ليلا،وتم الاجتماع، وحصلتُ منهم على ما أحتاجه من المعلومات، وأعدتُ تنظيم صفوفهم ،وشجعتهم على الصبر وعدم اليأس،وطمأنتُهم أن ا لجمعية ستبذلُ قصارى جهدها في الوقوف إلى جوارهم، وريثما يتمُّ ذلك لابد من مواصلة الأعمال الإصلاحية،والعودة إلى الصلاة في المساجد، وإعادة فتح الكتاتيب،واتفقت معهم على طريقة سرية لنقل الأخبار وتبادلها مع مكتب الجمعية.ثم ودعتهم وعدتُ في الصباح ا لباكر إلى قسنطينة ،وتوجهتُ إلى الإمام ابن باديس وقدمتُ له تقريرا مفصّلا عن المهمة التي كلفني بها.
بادرـ رحمه الله- إلى رفع الاحتجاجات إلى الدوائرالرسمية في الجزائر وفرنسا والصحافة المحلية والأجنبية،وكان لهذا العمل صدى عميق في شتى الأوساط ، وتحققت منه نتائج إيجابية؛ حيث توقّف المدّ الصليبي في هذه الجهة وعاد المسلمون إلى صلواتهم في مساجدهم ،وعاد أبناؤهم إلى الكتاتيب القرآنية يلهجون بالقرآن وترتفع حناجرهم بترديد آيات الله ."
المرجع: أنظر أيضا:"قراءات في التكامل والتواصل في منهج الإصلاح بين ا لباديسية والمزابية" للأستاذ محمد الصبيحي ، دار الهدى ، مؤسسة ابن باديس ط1،ص324