الشيخ التبسي
بسام العسلي

الشيخ التبسي

بقلم: بسام العسلي-

هو العربي بن قاسم التبسي، من كبار علماء الإصلاح بالجزائر، عاش حياته مجاهدا (بتبسة) وقد سبقت الإشارة إلى بعض مواقفه في عرض سيرة (ابن باديس). وبقي في كل مواقفه ملتزما بمواقف (جمعية العلماء). مؤيدا لها، منفذا لمنهجها، وكان له فضل كبير في إيقاظ الوعي الإسلامي الصحيح. وقد يكون من المناسب اختصار كل صفحات جهاده المشابهة لكل صفحات إخوانه من أجل الوقوف على الصفحة الأخيرة منها:

(في مساء يوم الخميس 4 رمضان 1376 هـ الموافق 4 نيسان - أبريل - 1957، وعند الساعة 11 ليلا. اقتحم جماعة من الجند الإفرنسي التابعين لفرق المظلات، المتحكمين اليوم في الجزائر، سكنى فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ العربي بن قاسم التبسي، الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية، بعد أن حطموا بعض نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت شقته (بحي بلكور) طريق التوت، وذلك شأنهم في اقتحام ديار المسلمين. لا يأتونها غالبا من أبوابها، وإنما من السطوح أو النوافذ، لتتم - حسب زعمهم - المفاجأة، أو ليشتد الإرهاب والنكال. ثم طرقوا باب الشقة، ففتحت لهم، وكانوا يرتدون اللباس الرسمي للجيش الإفرنسي، ومسلحين بأسلحتهم التي يحاربون بها الشعب، الجزائري والمدنيين المسلمين. وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له. وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر آذار - مارس - 1957. وأخذت نوباته تتوالى عليه

عنيفة عدة مرات في الأسبوع. فلم يرعوا حرمته الدينية، ولا سنه المتقدمة، ولا مرضه الشديد، وانتزعوها من فراش المرض بكل وحشية وفظاعة. ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكنى والملفات والكتب والرسائل، بعد أن حجزوا عائلته، وفصلوه عن أبنائه وبناته. وانهالوا بالضرب على أكبرهم لما حاول مساعدة والده المريض، ثم أخرجوه حاسر الرأس، حافي القدمين غير متدثر بشيء من لباسه المفضل، وأرغموه على ارتداء سروال ولده - البنطال الإفرنجي - ومعطفه، وكلاهما لا يصلح لباسا له لصغره. وكان من المحقق لدى العائلة أنهم ذهبوا به للتحقيق معه، وإنما عومل هاته المعاملة لأنهم لم يشاؤوا أن يميزوه بشيء عن أفراد شعبه، زيادة في النكال والاستفزاز، وكان هذا شأنهم منذ التحصيل على التعويضات الخاصة في آذار - مارس - 1956. وخصوصا منذ أن (حجزت) الجزائر إلى قائدي فرق المظلات (ماسو - و - بجارد). ولكن المفاجأة كانت عندما سئل عنه، من الغد والأيام التالية، في الإدارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطة والعدلية، فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو من مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه. حتى وصل الأمر إلى الإدارة العليا بمقر الوزير المقيم والوالي العام، فتظاهرت بإنكار العلم، واستنكار (الفعل) ووعدت بالبحث. وقد بقيت المسألة كذلك إلى أن أرسل مراسل جريدة (لوموند) الباريسية بالجزائر، بخبر صغير، نشر في زاوية مهملة، يعلن فيه أن رجال المظلات، قد اعتقلوا الشيخ العربي التبسي، وهو عضو هام في جمعية العلماء، وأنه تحت أيديهم لأجل التحقيق والاستجواب. وكان

ذلك بعد يومين من الاعتقال. وإذا بمؤسسة الصحافة الإفرنسية، وهي هيئة رسمية - تبادر بإذاعة بلاغ على العالم تزعم فيه أن الشيخ العربي التبسي قد اختطف من قبل مجهولين. ويظهر من هذا البلاغ المضلل - أنها محاولة لتبرئة فرنسا من القضية.

وجمعية العلماء، تذيع على العالم أجمع أن الإدارة الإفرنسية، المدنية والعسكرية، مسؤولة مسؤولية كاملة في قضية فضيلة الشيخ العربي، وتخشى أن تكون قد اغتالته يد العدوان أو مات تحت التعذيب، ولم يمكنها أن تدعي أنه حاول الفرار، أو افتكاك السلاح من يد الجنود فقتل. كما لم يكن بمقدورها أن تدعي أنه انتحر، وهو مقيد اليدين والرجلين، بعد افتضاحها في قضية الشهداء: ابن مهيدي وبو منجل والعمران، فاخترعت هذه الدعوى لتبرر تنصلها من المسؤولية وعدوان أعوانها. وتلاحظ الجمعية أن فضيلة الشيخ العربي، كان في الزمن الأخير قبلة أنظارهم، ومحط آمالهم، لعلهم يجدون منه لينا أو تفهما يشجعهم على اتخاذه المفاوض الصالح للفت من عضد الثورة، وتشتيت شمل الشعب. فما وجدوا فيه إلا الصلابة والحزم والتضامن الكامل مع شعبه المجاهد وجيش التحرير المحارب وجبهة التحرير المناضلة.

لقد زعم بعض المسؤولين، أن الشيخ ربما اختطف من قبل رجال الإرهاب المضاد ثم زعموا في بلاغ أنه اختطف من طرف مجهولين. ثم بدأت بعض التعليقات الصحافية تزعم أن الذين اختطفوه هم الإرهابيون (وهي الصفة التي كانت تطلقها الإدارة

الاستعمارية على رجال جيش التحرير الوطني الجزائري). وإن جمعية العلماء تكذب كل تضليل في الموضوع، وتعلن للرأي العام الإفرنسي، وللرأي العام العالمي، أن الإدارة الإفرنسية المدنية والعسكرية هي التي اعتقلته، وأن رجالها الرسميين هم الذين أخذوه، وأنها تتحمل مسؤوليتها كاملة والأمة الجزائرية، تهيب بكل ضمير حي في العالم، وبكل الهيئات الدولية والمنظمات الإنسانية والمذاهب الدينية، أن يتدخلوا في الموضوع، وأن يسألوا الحكومة الإفرنسية، ويجبروها على فتح تحقيق محايد، لكشف النقاب عن هذه القضية) (1).

وتلك كانت الصفحة الأخيرة في حياة الشيخ العربي بن قاسم التبسي.


(1) جريدة المقاومة - الجزائرية - 22 نيسان - أبريل - 1957.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.