فضيلة الشيخ عبد القادر بن إبراهيم المسعدي العلاّمة المجهول في وطنه 1888 – 1956
بقلم : محمد رميلات-
الشيخ عبدالقادر بن إبراهيم المسعدي أحد أعلام الجزائر الأفذاذ الذين بسقت قاماتهم في مسعد بين بساتين النخيل والرمان وسواقي الجنّات المعروشات وغير المعروشات هناك ... وهو أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، حضر الاجتماع التأسيسي للجمعية المنعقد بتاريخ الخامس ماي سنة 1931 بنادي التَّرَقِّي بالجزائر العاصمة ، وكان يتردد على جل اجتماعاتها وندواتها ...
حارب البدع ، وجابه الخرفات ، وكافح الدجل والخزعبلات ، وكتب عبر صحف الجمعية في الشهاب والبصائر عديد المقالات ، وكان له عمود ثابت في جريدة الأهرام المصرية ... وفي إحدى المرات كتب مقال بعنوان " استَنَّتِ الفِصَال حَتَّى الجَربَاء " يَذُبُّ فيه عن عرض الشيخ عبدالحميد بن باديس ممن ناله بعتب وانتقاد ... المقال قطعة أدبية راقية بحق ، ولا أعلم أن في شيوخ جمعية العلماء رجل أديب أريب يشبه البشير الإبراهيمي في أسلوبه الرشيق الأنيق كالشيخ عبدالقادر بن إبراهيم المسعدي إلا أن أسلوب هذا يختلف عن ذاك في المزحة والملحة والنكتة التي لا يكاد يخلو منها حديثه ...
وكانت للشيخ المسعدي حلقات علم في الزاوية القاسمية ببلدية الهامل قرب بوسعادة وهو ما يدحض أقوال المرجفين الذين يزعمون أن الخصومة كانت على أشدها بين شيوخ الزوايا وشيوخ جمعية العلماء ... ويذكر قَيّمُ الزاوية القاسمية الشيخ أبو الأنوار دحية أن الشيخ عبدالقادر بن ابراهيم كانت له حلقة في شرح كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لا بن رشد ، وهو من كُتُب الفقه المقارن التي يعسر شرحها على الراسخين في العلم و ممن لهم باع طويل في علوم الفقه وعلوم اللغة ، فكيف بمن هم دونهم ؟ ...
فضيلة الشيخ عبدالقادر بن إبراهيم المسعدي أديب أريب ، وفقيه نبيه ، وداعية إلى الله على بصيرة ، وصاحب دراية ورواية في معقول العلوم ومنقولها ... يذكر الشيخ المولود الأمين قويسم رئيس المجلس العلمي لولاية الجلفة أن الشيخ عبدالحميد بن باديس ، والشيخ محمد البشير الابراهيمي ، والشيخ عطية مسعودي ، والشيخ العاشور الخنقي بن محمد ، والشيخ ابراهيم بيوض ، والشيخ عبدالرحمن الديسي أحد أعلام الزاوية القاسمية وكان صديق الشيخ وبينهما مراسلات ومناقشات ومساجلات ولقاءات .. كل هؤلاء شهدوا للشيخ عبدالقادر بن إبراهيم المسعدي بالتفوق ، وشهادة واحد من هؤلاء الأعلام تكفي ، فكيف بإجماعهم كلهم على مكانته العالية في العلوم الشرعية واللغوية ... وكان الشيخ محمد المكي بن عزوز قاضي الأستانة في تركيا يرجع في كثير من قضايا الإفتاء والقضاء للشيخ عبدالقادر بن ابراهيم كما هو مدون في الرسائل المتبادلة بينهما ...
أَلَّفَ الشيخ عبدالقادر بن ابراهيم المسعدي 10 عشرة كتب لا تزال مخطوطة لم تطبع بعد ، هي : " شرح لامية الأفعال لابن مالك ، شرح طرق البيان على نظم تحفة الإخوان ، البدعة في الإسلام ، الصلاة ، مظالم حاكم رباط مسعد المتوالية دكتاتورية غير متناهية ، شرح لامية العرب للشنفرى ، وديوان شعري ، ومجموع الفتاوى للشيخ عبدالقادر بن إبراهيم المسعدي ، الكلام عن الولاية في الإسلام ، تفضيل البادية بالأدلة البادية " كما خلف الشيخ رسائل لا تعد ولا تحصى مما كان يتبادله مع أعلام عصره ، وأعيان زمانه ، وهي نصوص أدبية أنيقة في أسلوبها ، رشيقة في معناها ومبناها ، لكن ضاع أغلبها مع الأسف ... وله كتابات راقية باللغة الفرنسية تحدث عنها قَيّمُ الزاوية القاسمية الشيخ أبو الأنوار دحية ...
واشتغل الشيخ بالإمامة والتدريس في المسجد العتيق بمسعد وكان المرجع الأول في الفتوى بالمنطقة ، وقد تخرج على يديه عباقرة جهابذة من أمثال الأستاذ محمد بن عبدالرحمان ، والأستاذ محمد لبقع بن بشطح المسعدي ، والإمام سي أحمد بن عطية ، والإمام سي احمد بن دحمان ... كان قادة الاحتلال الفرنسي يصفون الشيخ بالرجل الخطير على الأمن العام وعلى فرنسا في مراسلات مكتوبة مرقونة وهو ما جعل حاكم مسعد يُبادر بنَفيّه إلى الجلفة سنة 1925 بعد ما سجنه مرة ، وفرض عليه الإقامة الجبرية مرة أخرى ...
وتوالت على الشيخ المواجع والفواجع فقد توفي والده إبراهيم ، وأخوه محمد ، في أقل من شهرين ... ولمّا غادر مدينة مسعد واستقر به المقام في الجلفة أنشأ مدرسته الخاصة التي باركها الشيخ البشير الإبراهيمي برسالة مؤرخة في 20/07/1947 تحمل رقم 373 مختومة بختم جمعية العلماء ، ومن منفاه بالجلفة كان يتردد بين الحين والآخر على الزاوية القاسمية في الهامل لزيارة صديقه الشيخ عبدالرحمن الديسي تارة ، وتارة أخرى يتردد على الشيخ البشير الإبراهيمي في منفاه بآفلو ... الشيخ عبدالقادر بن ابراهيم المسعدي صاحب قلم دافق وذاكرة لا تكاد تنسى ... فبعدما حفظ القرآن الكريم وعمره لا يتجاوز السابعة ، التحق بمقاعد الدراسة ثم ما لبث أن غادرها بعد حصوله على شهادة الأهلية ، وراح يكّون نفسه بنفسه ، تكوينًا عصاميًا محضًا ، فحفظ أشعار العرب ، والمعلقات ، وقرأ لامية الأفعال لبن مالك ، والقاموس المحيط للفيروز أبادي ، والسيرة النبوية لابن هشام ، والعقد الفريد لابن عبدربه ، وشذور الذهب للمسعودي .. وغيرها من كتب التراث الإسلامي التي نهل منها بنهم وشغف كبير ... فأكسبته هذه المطالعات معارف جمة ، لكنه لم يكتفي بذلك ، فقد شدَّ الرّحال سنة 1912 إلى مدينة تقرت ومكث هناك زهاء عام ونيف يتلقى المعقول والمنقول من علوم شتى عن الشيخ الطاهر العبيدي وهو أحد أعلام الجزائر في عصره ، وقد أظهر الشيخ إبراهيم خلال هذه المدة الوجيزة نجابة وذكاء تحار فيها العقول ، وأبان عن تفوق فاق به جميع أقرانه ، وهو ما جعل الشيخ العبيدي يخاطب تلميذه بسيدي عبدالقادر ...
كان الشيخ عبدالقادر بن ابراهيم المسعدي شاعرًا بالعامية والفصحى ، وله قصيدة عصماء عارض بها بردة كعب بن زهير " بانت سعاد فقلبي اليوم متبول " .. القصيدة تعتبر واحدة من عيون الشعر العربي بلا مبالغة ، كما قام بتشطير القصيدة الحُمَيدية لصديقه الشيخ عبدالرحمن الديسي عن سقوط الخلافة الإسلامية ، والتشطير فن أدبي عزيز المنحى ، صعب المنال ، إلا على أديب ذكي ، ونبيه ألمعي ، من أمثال الشيخ عبدالقادر بن ابراهيم ... ففي كل بيتين يُبقي على الشطر الأول والشطر الرابع لصاحب القصيدة ، بينما يأتي بالبقية من بنات أفكاره ، ولعل ميلاد القصيدة من صاحبها أهون من تشطيرها من غيره ..
ولمّا اندلعت ثورة التحرير تحوّلت دروس الشيخ ومواعظه إلى دروس تعبئة وشغب ولغب ضد المحتلين ، وتحريض علني على الجهاد والقتال ضد الفرنسيين الكفرة الفجرة ، وكان يقول لطلبته إن الدرس الآن ليس هنا في هذه الدار ، وإنما هو هناك في مدرسة جبال بوكحيل ...
عاش الشيخ عبدالقادر بن ابراهيم المسعدي في دنيا الناس هذه ثمانية وستون عامًا ، كدح خلالها كدحًا متواصلاً بالليل والنهار في مكابدة طلب العلم وتعليمه والعمل به ...
ولد سنة 1888 وتوفي في الثالث أوت من عام 1956 ، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته ، وجزاه الله خير ما جزى به العلماء العاملين ، والأتقياء المخلصين المنافحين المدافعين عن دينهم ووطنهم .