أبو القاسم سعدالله أسهم في وضع معالم مدرسة للتاريخ المكتوب بالعربية
بقلم: محمد مفلاح -
يشرفني ونحن نستقبل الذكرى الأولى لوفاة الدكتور أبي القاسم سعد الله، أن أسهم بكلمة عن مسار هذا الأديب المبدع، والعالم الموسوعي، والمؤرخ الشهير. لقد سخر فقيدنا جهودا جبارة لتاريخ الجزائر ودراسته في ضوء المناهج العلمية الحديثة، وكان واعيا برسالته في هذه الحياة، مؤمنا بدوره في كتابة تاريخنا برؤية وطينة أصيلة، ولم يكن من السهل عليه وعلى كل باحث جاد مواجهة "الغنيمة المسمومة" التي خلفتها المدرسة الاستعمارية في كتب متنوعة ودوريات ومجلات متخصصة ومن أهمها "المجلة الأفريقية". وأستطيع القول أن استاذنا المثابر أسهم في وضع معالم مدرسة للتاريخ المكتوب بالعربية في الجزائر، وهو ما يجعلنا نفجر بجهوده التي أثمرت مؤلفات هامة أعطت للتاريخ معناه العميق وأبرزت روح الجزائر الحضارية. ومن يقرأ موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي" المكونة من عشرة مجلدات، يدرك هذه الحقيقة. وبهذا العمل العلمي تحمل مؤرخنا مسؤولية تصفية تاريخنا الوطني من "روح الاستعمار" مستعملا في مهمته الشاقة أدوات المنهجية والعلم الحديث.
ولكن مؤلفاته المتميزة التي أصبحت مرجعية أساسية لأبحاث جل المؤرخين والباحثين الجزائريين، يوجه إليها بعض النقد، فمؤرخنا بسبب تكوينه وخلفيته الفكرية اتخذ بعض المواقف الصارمة من قضايا نعدها من صميم ثقافتنا الجزائرية ومنها الشعر الشعبي، وتراث الطرق الصوفية وزواياها المنتشرة في كل التراب الوطني، والتعددية الثقافية واللغوية والتاريخ المحلي، إلى جانب قراءته وهي موجهة بقصد، في أحداث ووقائع من تاريخ الجزائر وأذكر منها على سبيل المثال الفتح الإسلامي والأمازيغ، وهجرات بني هلال، والتواجد العثماني. إن التاريخ باعتباره أسمنت الأمة الجزائرية في فضائها الحضاري العربي الاسلامي لا ينفي تناول وجهات أخرى لفهم التاريخ الجزائري، كما رأيت ذلك في تاريخ العلامة عبدالرحمن بن خلدون، ولكن مؤرخنا الكبير تفطن إلى هذه الحقيقة واستدرك ذلك في موسوعته الخالدة "تاريخ الجزائر الثقافي."
وهذه الآراء التي ذكرتها عن مواقفه الفكرية التي نجدها مبثوثة في جل كتبه ومنها "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر"، تدل على أهمية هذا العالم الموسوعي الذي استطاع أن يخلف مؤلفات خالدة. ولا ريب أن علاقة الدكتور أبي القاسم سعدالله بالباحث الكبير الشيخ المهدي البوعبدلي الذي كان واسع الاطلاع على تراثنا الروحي وثقافتنا الشعبية، سمحت له بالتعرف على مصادر جديدة تعود إلى العهد العثماني، استغلها في موسوعته التي أشرنا إليها آنفا.
كان الدكتور أبو القاسم سعد الله يدرك الصعوبة التي يواجه كل باحث في مجتمع لا يقرأ التاريخ الذي يكتبه علماء بلاده، بل كان يرى أن الكتابة في بلادنا معجزة في حد ذاتها لأننا نريد نبقى في ظل التاريخ. لهذا كان الفقيد يشجع الباحثين على الكتابة، كما ظل ينتصر بحماسة للثقافة التي جعلها من قضية أساسية رَفَع رايتها عاليا في مجتمع يهيمن عليه الخطاب السياسي فقط، ولا يلتفت إلى المثقفين وخطابهم النقدي.
وأستاذنا النابغة أبوالقاسم سعد الله من صنف الكتّاب الكبار الذين رفضوا المناصب العليا، سياسية كانت أو إدارية، وهو في هذا الأمر يختلف عن عبد الرحمن بن خلدون الذي تولى عدة مناصب في قصور الملوك قبل أ ينأى بنفسه عن السياسة ويتفرغ للكتابة. كما كان الفقيد سعد الله يتهرب من الأضواء الإعلامية لأنه كان يؤمن بأن مهمته في الحياة هي البحث والكتابة والإبداع لتبليغ رسالة نبيلة.
والدكتور أبو القاسم سعد الله الذي وهو بحق عالم موسوعي، ألف في عدة تخصصات ومنها التاريخ الذي مال إليه أكثر بالنظر إلى أهميته في تشكيل هوية الجزائر في زمن التحديات الكبرى.
إن الجزائر اليوم نعتز بجهود هذا الكاتب المبدع والباحث المفكر الذي قعد للبحث العلمي في دارسة تاريخ الجزائر، ورسخ في بلادنا معالم المنهج الأكاديمي لكتابة هذا التاريخ، وأثرى بذلك مكتبتنا الوطنية بمؤلفات تعد من أمهات الكتب.
رحم الله شيخ المؤرخين الدكتور سعدالله.