مع الدكتور أبو القاسم سعد الله لحظات لا تنسى
د. نجيب بن خيرة
في ذكرى وفاة العلامة أبو القاسم سعد الله رحمه الله، أنشر مقالي الموسوم بـ (مع الدكتور أبو القاسم سعد الله لحظات لا تنسى)، والذي كتبته بعد وفاته ونشرته في كتاب (أبو القاسم سعد الله بعيون مختلفة) .
مع الدكتور أبو القاسم سعد الله (لحظات لا تنسى)
بعد مسيرة تطول بطول الحياة، وعرض الزمان ..عايش فيها أيام الإستعمار والاستقلال ،ودرس فيها ودرّس ، ودوّن وكتب، وسافر وارتحل ، وأشرف وتابع، ونقد وحلّل ، ونشر وحقّق... ترجّل الفارس، وألقى سيفه و رمحه، وخلع لاَمَتَه، وهوى النجم، ومات المؤرخ الكبير الدكتور أبو القاسم سعد الله ..
لقد قضى عليّ شرع الوفاء أن أدوِّن في هذه السطور لحظات قليلة عشتها مع العلامة الراحل، جمعتني به في أزمنة متباعدة، ولكنها ظلت عالقة بالذهن ، متماسكة في الذاكرة، تأبَّت على النسيان، واستعصت على الضياع ....
1 ـ (سعد الله ...ينقذني في الامتحان.!)
تعود صلتي بشيخ المؤرخين الجزائريين إلى المرحلة الجامعية الأولى حيث كنا في قسم التاريخ الإسلامي بجامعة الأمير عبد القادر نقرأ كتبه ، ونتابع مقالاته ، ونتسقط أخباره من بعض طلابه في جامعة الجزائر ...
وعندما أنهيت مرحلة الليسانس تقدمت إلى مسابقة الماجستير في شهر أكتوبر 1990 ،وكنا يومها نربو على الأربعين طالبا ممن تقدموا إلى الإمتحان الكتابي ، ولم ينجح من الأربعين إلا حوالي خمسة عشر طالبا ، تقدموا إلى الامتحان الشفهي ليخرج من بينهم سبعة طلاب ...!!
ومن غريب الموافقات أني دخلت على لجنة الامتحان الشفهي في القاعة الشرفية بالطابق الأرضي في جامعة الأمير عبد القادر ، وكان أغلب الأساتذة السائلين من المشارقة ، ولم يكن بينهم إلا جزائري واحد . يسألون الطالب في قضايا متنوعة ، حتى في النحو و التفسير وحفظ القرآن مع أسئلة في التاريخ على اختلاف مراحله ..
وكان من ضمن ما سُئلت عنه كتاب تاريخ الجزائر الثقافي للدكتور أبو القاسم سعد الله فانطلقت أحدث السائل عن محتويات الجزأين الأولين اللذين طبعتهما الشركة الوطنية للنشر و التوزيع (ٍSNED) .واستطردت قائلا : أما الجزء الثالث فقد جمع الدكتور سعد الله مادته العلمية من مكتبات عالمية كثيرة ، ولكنها ضاعت منه حقيبته في مطار لندن ، وقد كتب عنها الدكتور مقالا في جريدة الشعب بعنوان " نكسة ثقافية " ورحت أسرد ما ذكره الدكتور في المقال ، فشدّ الحديثُ الحاضرين ، ودخلوا معي في نقاش جماعي حول موضوع المقال ، واندمجوا في دهشة وحيرة لما حصل للباحث الكبير الذي شرّق وغرّب ليجمع تاريخ بلده من خارج بلاده ومن مكتبات الآخرين...!!.
وأحسست حينها أن مقال الدكتور سعد الله أنقذني ، وأذهب عني هيبة اللقاء ، فاندمجت في الحوار معهم وكأني واحد منهم ...!!.
خرجت من قاعة الامتحان ،وودعت زملائي ، وعند باب الجامعة سمعت أستاذي الفاضل الباحث الدكتور خليفة حماش مدير معهد الحضارة الإسلامية يومها يناديني من خلف سياج الجامعة ويقول لي :" مبروك عليك النجاح ،فأنت الأول على القائمة ....".
2 ـ لقاء الكبار ..
بعد أن انطلقت الدراسة في السنة الأولى للماجستير شرعنا ندرس المواد قبل تسجيل البحث ، فأكرمنا الدكتور خليفة حماش بدعوة الدكتور سعد الله زائرا للجامعة ...
ألقى علينا الدكتور سعد الله جملة من المحاضرات في التاريخ الحديث و المعاصر ، وكم كان الرجل يتدفق علما وهو واقف تارة ، وجالس على طرف المكتب تارة أخرى ، فيغوص في أعقد القضايا التاريخية ، ويورد تفاصيلها من ذاكرته المُسعفة ، وحافظته القوية ، ويرد على شبهات المؤرخين،وأباطيل المستشرقين الفرنسيين ممن يرون العهد العثماني في الجزائر مرحلة احتلال واستعمار وسيطرة ....
وأثناء تواجده بالجامعة حدث ما لم يكن في الحسبان ، حيث تزامنت زيارته مع زيارة الأستاذ التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي رئيس مركز الدراسات والبحوث العثمانية والموريسكية والتوثيق والمعلومات ، وقد كان بين الرجلين كما يكون عادة بين الرجال الأكابر من اختلاف في الرؤى ، وتنازع في الفهم ، وتخاصم لا يفسد للود قضية ...وقد قرأت عن هذا الخلاف في بعض المقالات بعد ذلك ، فعلمت أنه خلاف بين الكبار لا دخل للصغار فيه ..!!.
والتقى الرجلان في مكتب مدير المعهد لوحدهما ، ودخلتُ عليهما فسلمت وجلست ، ودخل الدكتور حماش واستدعاني خارج المكتب وفي الرواق قال لي وهو فرح مبتهج :" أسكت ...إن هذه اللحظة تاريخية ...و الخصومة بين الرجلين قطعت ما بينهما من تواصل وتعاون منذ أمد طويل " إلى درجة أن الدكتور عبد الجليل التميمي قال بعد ذلك :" لقد اعتقدت أن لا أدخل الجزائر مرة أخرى ، ما دام أبو القاسم سعد الله حيٍّا.." ولكن شاءت الأقدار أن يلتقي الرجلان دون سابق موعد ، وفي يوم واحد وفي مكتب واحد ..وقد كان اللقاء أخويا.. تصافت فيه القلوب ، وتبادلت الوُدَّ الخالص ، وأغْضَتْ عن التلاحي و التنازع و الخصام ...
3 ـ فلسطين..... في قلب سعد الله
في عام 1991 نظم مركز دراسات المستقبل الإسلامي الموجود في لندن ، احتفالية خاصة بالدكتور سعد الله في جامعة الأمير عبد القادر ، ومنحه جائزة عبد الحميد بن باديس ... ولما كان الرجل حارسا على عِرض الأمة وشرفها ، وغيورا على دينها ومقدساتها ، فقد أهدى جائزته إلى جامعة الأمير ، على أن يُشترى بثمنها كتبا توضع في جناح خاص يسمى " جناح الإنتفاضة الفلسطينية : ..!
كنت في تلك الفترة أتابع الدراسات العليا وفي نفس الوقت أعمل صحفيا متعاونا مع جريدة " العقيدة " في مؤسسة النصر بقسنطينة ، فكتبت في عمودي الأسبوعي ( فكرة وقلم ) مقالا حول المناسبة ...والتقيت الدكتور سعد الله رفقة الراحل الدكتور مولود قاسم في مدخل فندق البانوراميك ، وطلبت من الدكتور سعد الله أن يخصص لي وقتا لإجراء حوار مع الجريدة ، فقال لي بكل تواضع جم ، وأدب رفيع ، :" أكتب لي الأسئلة وابعثها لي على العنوان التالي ...وسوف أجيبك عنها إن شاء الله ، ولك الحق أن أنشرها لك في كتاب خاص خصصته للحوارات الصحفية بعنوان ( قضايا شائكة ) ..."، ولكن للأسف صدر الكتاب بعدها ولم أشارك في حواراته ، لأني كنت قد غادرت الصحافة إلى رحاب الجامعة، وتفرغت لإعداد الماجستير ...
4 ـ لقاء في ... آل البيت ...
شاءت الأقدار أن أسافر عام 2000 إلى الأردن في طريقي إلى العراق لحضور مهرجان المربد في بغداد، بدعوة من السفير العراقي في الجزائر، واغتنام الفرصة لجمع المادة العلمية لرسالتي للدكتوراه ...مكثت في الأردن أسبوعا كاملا زرت خلاله الجامعة الأردنية ومكتبتها العامرة في عمّان، والتقيت عددا من الأساتذة الباحثين وعلى رأسهم شيخ المؤرخين المعاصرين عبد العزيز الدوري رحمه الله ..
ومن حُسن الصُدف وأنا أتجول في شوارع عمّان ليلا التقيت بأستاذي وصديقي الدكتور ابراهيم بحاز وكان يومها أستاذا معارا في قسم التاريخ بجامعة آل البيت بمدينة المفرق ، فدعاني لزيارته وأخبرني أن الدكتور سعد الله معهم في الجامعة ، وقد كنت أحسب أنه لا يزال في أمريكا أستاذا زائرا .....
وفي الغد انتقلت إلى مدينة المفرق على بعد 70 كلم شرق عمان، وزرت جامعة آل البيت ، وكم دُهشت لتصميمها الجميل ، ومبانيها الفاخرة ، وأسماء أجنحتها التاريخية المميزة ....وقد كان مديرها في تلك الأيام المفكر و المؤرخ البارز الدكتور (محمد عدنان البخيت)... الذي علمت أنه كان يقدر الدكتور سعد الله و يُجلُّه و يُكبرُه و يُقدِّمه ...ويرى استشارته العلمية مُلزِمة لا مُعلِمة ....
زرت الدكتور بحاز في مكتبه، وفي المكتب المجاور له زرت الأستاذ المؤرخ فاروق عمر فوزي ( العراق ) الذي كانت تجمعني به صلات القربى في تخصص التاريخ العباسي ، وأهديته عددا من جريدة العقيدة كنت قد نشرت فيه الحوار الذي أجريته معه أثناء زيارته لقسنطينة عام 1991، وفي مكتبه تعرفت على المستشرق الأمريكي الشاب ( آدم جيزر ـ Adem Jaizer) أستاذ الفرق الإسلامية في جامعة فرجينيا. وقد ترافقنا في طريق العودة إلى عمان وعلمت منه أنه يحضر رسالته للدكتوراه حول (المذهب الإباضي ) ، بعد أن أنجز بحثه للماجستير حول (الفتوحات المكية ) لمحي الدين ابن عربي ..!!.وقد ربطتني به صداقة علمية ، ومراسلات كثيرة بعد ذلك .
ثم دخلت على الدكتور سعد الله في مكتبه ، وكانت أول مرة أجلس فيها إلى الدكتور على انفراد.. والرجل مع سمعته العاطرة ، وعلمه الغزير ، ومقامه المحمود ....لا يتكلف في حديث ، ولا يتقعّر في لغة ، ولا يتعالم على طلابه ومريديه ...بل يحدثك كما يحدث الوالد ولده ، و الصديق حميمه ، بلغة دارجة بسيطة مُترعَةً بالصدق و الوفاء ، مع ابتسامة وادعة لا تفارق وجهه ، ونُكتة لا تندُرُ في حديثه ..
راح الرجل يسألني عن الجزائر وأوضاعها، بعد مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة ، وواقع الجامعة الجزائرية، ومآسي الجزائريين بعد عشرية سوداء دامية أتت على الوطن اليانع فبددت خضراءه ، وأعطبت ثماره، وحولته إلى خرائب وأطلال .....
ولما علم الدكتور مقصدي من الزيارة إلى الأردن ومن ثم إلى العراق وأني بصدد جمع المادة العلمية لبحث الدكتوراه قال لي بكل تواضع: إن موضوعك ليس من تخصصي بل وبعيد عن اهتماماتي ، ولكني أهديك هذه الرسالة العلمية، وهي رسالة ماجستير لطالب إيراني ناقشها في جامعة آل البيت حول " الحياة الثقافية والاجتماعية و الاقتصادية في مدينة الري " وقد كان الدكتور عضوا في لجنة المناقشة ، ودوّن عليها جميع ملاحظاته وتصحيحاته ...وقال لي : " لعلها تفيدك في موضوعك الخاص بالحياة العلمية في خراسان وبلاد ما وراء النهر .." .
ثم ودعت الرجل الكبير على أمل أن ألقاه في الجزائر قريبا ....
5 ـ في جامعة الأمير...
لم ألتق الدكتور سعد الله بعد زيارة الأردن إلا عام 2003..وكان قد رجع حينها إلى الجزائر واستقر به المقام فيها .فزارنا في جامعة الأمير عبد القادر وألقى محاضرة عامة في القاعة الكبرى....وقد وجدت في مذكراتي الخاصة بعض ما جاء في المحاضرة دون الإشارة إلى سبب الزيارة أو مناسبتها ..!.
تحدث الدكتور عن الأسطول البحري الجزائري في القرن السادس عشر و السابع عشر ، وضعفه في القرن السابع عشر و الثامن عشر ، بعد ظهور الأساطيل الأوربية ( البريطانية و الفرنسية و الهولندية ) عليه .
ثم تحدث عن العهد العثماني في الجزائر وأشار إلى قبائل المخزن وقبائل الرعية وعن الأوقاف فيها :كوقف الحرمين الشريفين ووقف سبل الخيرات ووقف الغرباء ووقف الجامع الكبير .....
وركز حديثه عن مسيرة التعليم قبيل العهد العثماني ، وكم كان يُمتعُ عندما يتحدث عن التآليف و التصانيف في تلك الفترة ككتاب ( البستان في ذكر الأولياء و العلماء بتلمسان ) لابن مريم ، وكتاب ( عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية ) للغبريني . كما ذكر كتاب ( الدرر المكنونة في نوازل مازونة ) للإمام أبي زكريا المازوني التلمساني ...وكتاب ( المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن ) لمحمد بن مرزوق التلمساني . وذكر كتاب ( فيض العباب وإحالة قداح الآداب في الحركة السعيدة إلى قسنطينة و الزاب )لابن الحاج النميري .
ثم عرّج في محاضرته على ذكر عائلات ( العقباني و المقري و الونشريسي و المازوني و النقاوسي و الثعالبي ...) ، وبسط القول عن المكتبات وعائلة قدورة التي ملأت الفراغ العلمي الذي تركه العلماء المهاجرون إلى المشرق ...
وقال عن عائلة قدورة وابن جعدون وابن الشاهد أنها أشهر العائلات التي تولت الفتوى المالكية في الجامع الكبير ...
وأشار إلى كتاب ( كعبة الطائفين وبهجة العاكفين ) لمحمد بن سليمان الجازولي ...وكتاب ( النجم الثاقب فيما لأولياء الله من المناقب ) للعلامة محمد بن أحمد بن أبي الفضل المعروف ( بابن صعد) .
بعد المحاضرة التقيت الدكتور خارج الجامعة ، وأهديته كتابي حول " الأديب موسى الأحمدي نويوات حياته وآثاره " الذي تولت وزارة الثقافة في الجزائر طبعته الأولى ، فسُرّ بالكتاب ، وذكر لي طرفا من خصال الأديب الأحمدي وجهوده العلمية . ..ثم أعطاني عنوان بريده الإلكتروني لنبقى على تواصل ...
6 ـ في الطريق إلى القاهرة
لم أسعد برؤية الدكتور سعد الله إلا بعد سنتين في مطار الجزائر ، وأنا في طريقي إلى القاهرة رفقة زوجتي في شهر أفريل 2005...
ورأيت الدكتور ينتظم في الطابور ويتقدم لقطع تذكرة الركوب ، يحمل في يده محفظته القديمة ، وحقيبته الصغيرة ، ويملأ بيانات بطاقة الخروج في ركن منعزل عن الناس ...
وأثناء الدخول إلى قاعة الركوب سلمت عليه ، فسألني :" مسافر أنت أم مودع ؟" فقلت : بل مسافر إلى القاهرة ..فقال : على بركة الله ، وسوف نلتقي داخل القاعة ....
و الغريب أن الرجل جلس داخل القاعة في مقعد جانبي وأخرج قلمه ودفتره وبدأ يكتب ويسجل ....فلم أشأ أن أقطع عليه فكرته وخلوته ...ولما ركبنا الطائرة رأيته من بعيد وقد أخذه النوم ...
في مطار القاهرة سلمت عليه فأخبرني أنه قادم إلى القاهرة في إطار أسبوع علمي بمجمع اللغة العربية في الزمالك ....
وما هي إلا لحظات حتى حالت بيني وبينه إجراءات الدخول ، فتأشيرتي لم تكن مختومة في الجواز مما يستدعي مراقبة طويلة على الجهاز ، أما الدكتور فتأشيرته مختومة على جواز سفره ، فاعتذر عن الانتظار وودعني على أمل لقاء قريب .....
7 ـ جولة في قسنطينة
لما كانت للدكتور الراحل علاقة وثيقة بعميد كلية الآداب بجامعة الأمير الدكتور أحمد صاري فقد اقترح عليه أن يوجه دعوة للدكتورة المؤرخة الكبيرة ناجية عبد الله ابراهيم أستاذة التاريخ الإسلامي بجامعة بغداد كأستاذة زائرة لقسم التاريخ ..وقد كانت زميلة للدكتور في جامعة آل البيت طوال الفترة التي قضاها في الأردن . وهو وفاء منه ليس بغريب .
كلفني الدكتور العميد بالتواصل مع الدكتورة الزائرة وترتيب موعد الزيارة ومتابعة إجراءات السفر ، وقد أتممت جميع ما يلزم وتمت الزيارة ....،
ألقت الدكتورة ناجية ابراهيم سلسلة من المحاضرات على طلاب الليسانس وطلاب الدراسات العليا ، وقد رافقتُها طوال تواجدها في الجامعة مقدما لها ومعرفا بجهودها ...و الحق أني لم أكن أحسب أنه لا يزال في هذا العصر في مثلها غزارة علم بالتاريخ ، ومعرفة بمصادر التراث ، وإحاطة بالمخطوط .. ولا عجب فهي من بلاد العراق : مهد العلوم ، ومَرْبى العلماء .ومنبت العارفين على مر التاريخ ... ولا تزال تربطني بها إلى الآن وشائج علمية وثيقة .تنشر بحوثي في مجلات العراق ، وتهديني آخر ما تكتب وتُبدع وتُحقق .
تزامنت زيارة الدكتورة ناجية إلى جامعة الأمير مع زيارة الدكتور سعد الله إلى جامعة منتوري بقسنطينة لمناقشة رسالة دكتوراه على ما أذكر ....
وفي يوم الأربعاء 25 أفريل 2007 ألقت الدكتورة محاضرة على طلاب الدراسات العليا ...ثم توجهنا إلى مطعم ( الصنوبر ) في ضاحية قسنطينة وهناك التقينا بجمع من أساتذة التاريخ و الفلسفة بجامعة منتوري من بينهم الأستاذة الدكتورة بوبة مجاني ، والدكتور عبد العزيز بلحرش ، و الدكتور حسان مساعد يجلسون إلى مائدة الغداء على شرف الدكتور أبو القاسم سعد الله . .
لم يستطع الدكتور سعد الله أن يتناول طعام الغداء ، فكل ما يقدم في المطعم لا يتماشى مع الحمية التي التزمها بعد عملية جراحية أجراها من مدة قريبة ..
رجعنا إلى جامعة الأمير ..ورجع معنا الدكتور سعد الله ليحظر جلسة تكريمية للدكتورة ناجية ،بعد ما شرفتنا بزيارتها وألقت جملة من المحاضرات أفاد منها الطلاب العلم الكثير .
بعد انتهاء التكريم طلب مني الدكتور سعد الله أن نقوم بجولة قصيرة في مدينة قسنطينة رفقة الدكتورة ناجية ، فاصطحبت معي الأستاذة حبيبة ضيف الله من قسم اللغة العربية ، والأستاذة صابرة خطيف من قسم التاريخ وانطلقنا بسيارتي من جامعة الأمير متوجهين إلى قلب مدينة قسنطينة ...وكان الدكتور يجلس إلى جانبي صامتا وأنا أحدث الدكتورة ناجية عن مخطوطات الزوايا في الجزائر وما في الزوايا من كنوز ....فقال الرجل الخبير بهذه المخطوطات :" ليس كل ما في هذه الزوايا من مخطوط ذو قيمة علمية ..!"
وخطر لي سؤال حينها فقلت له : كيف تكتب يومياتك يا دكتور ؟هل تكتبها يوميا ؟ وهل لك وقت معين لكتابتها ؟ وهل تسجل كل شيء يمر بك وتحسه ..؟ فقال : "أنا أكتب يومياتي كل يوم ، وأقتصر في الكتابة على الحدث المهم في ذلك اليوم ، معلقا على خبر ، أو ناقلا لحدث ، وخاصة الأحداث التي تمر بالأمة عامة و بالجزائريين خاصة ..فمثلا :أكتب عن موقف الجزائريين من الانتخابات البرلمانية ؟ وما هو وقع إعدام الرئيس صدام حسين على الأمة ؟ وأحداث العراق ،وأحداث فلسطين ....،وما أثرُ هذه الأحداث على الجزائريين ؟ وما هي ردود الأفعال ؟ إلى غير ذلك ....وأنا أكتب في أوقات متباينة حين تتاح الفرصة ، ولكن قبل أن يطول العهد وتظل الأحداث متماسكة في ذاكرتي ولا أنساها ..." ثم حدثنا الدكتور عن كتابه ( مسار قلم ).
قطعنا الجسور المعلقة ووقفنا على وادي الرمال العميق ، وصعدنا التلة العليا وراء المستشفى الجامعي حيث يوجد تمثال ( المونيمون Monument) أو ما يسمى بالتمثال المجنح ،فتوقفنا ونزلنا وأخذنا صورا تذكارية في المكان .
في هذه الأثناء أخرج الدكتور من كيس عنده علبة فيها تمر ( غرس ) وأكل منها ، وقال :" هذا غدائي ...!، تمرات من الغرس يُقِمْن صُلبي ...!!" .
وعند رجوعنا ونحن ننزل من أعالي مدينة قسنطينة إلى سفوحها مررنا بتمثال ( قسطنطين ) الذي انتصب عند مدخل محطة السكك الحديدية ..فقال الدكتور بلهجة فيها حدة وغضب :" غريب أمر هذا البلد ، يخرج الزائر لمدينة قسنطينة من محطة القطار ليقابله مباشرة تمثال الرجل المستعمر لهذه البلاد ...!أفلا يُحمَل هذا التمثال ليوضع في متحف ، ويوضع في مكانه رمز من رموز الوطن ...؟؟" فقلت له :" كتمثال الأمير عبد القادر " فقال :" أو تمثال الشيخ عبد الحميد ابن باديس رمز قسنطينة، وباعث نهضة الجزائر .." ثم قال :" أنا لست مع تكسير التماثيل ، ولكني أتمنى لو يُكسَّر هذا التمثال ، ولتخرج الجماهير لتكسيره ...إن قسطنطين رجل طوَّع المسيحية لإمبراطوريته ، وحُرِّفت في زمنه ...." .وأضاف الرجل في حماسة المواطن الغيور على وطنه ودينه وأمته يقول :" أريد أن أكتب لوالي قسنطينة بهذا الموضوع ....وإن كنت قد كتبت من قبل عن هذا التمثال في أحد كتبي واستنكرت وجوده في هذا المكان العام ...!!" .
وعندما أشرفنا من الطريق الروماني النازل من أعالي المدينة على محطة المسافرين وملعب قسنطينة ...لاحت لنا جامعة منتوري المركزية ببرجها الإداري الشامخ ، فلمحه الدكتور وقال مخاطبا الدكتورة ناجية :" أنظري يا دكتورة ذاك البناء العالي ، إنه البرج الإداري لجامعة قسنطينة ، ومكتب مدير الجامعة في الطابق الأعلى منه ...وهو أعلى مكان فيها ، وفي هذا دليل على أن الإدارة هي أعلى سلطة في الجامعة ، وليست السلطة للعلم ، فالإداري يتسلط على أهل العلم ، والأستاذ مقهور دوما من الإدارة ، ضائع حقه ـ في الأغلب ـ بين مسؤوليها ...". فقلت له مداعبا :" إنني مثلك أكتب مذكراتي ، وسوف أثبت هذا الكلام فيها ، فقال ضاحكا :" هذا كلام ليس للنشر ..." .
نعم : بمثل هذا المنطق الراشد يفكر الدكتور سعد الله ويزن الأمور بميزانها الصحيح ، وهو الذي عاش طول عمره صافحا عن موائد الحاكمين ، زاهدا في مناصبهم ، متعبدا في محراب العلم ، متنسكا في معبد التاريخ ..حتى غدا مؤلفا كثير الإنجاب ، وافر الكتاب ، أبدع في زمن القحط بسخاء ، وأرغم حاسديه على أن يُخلوا له الطريق ...!!.
صحبت الدكتور إلى فندق ( البانوراميك ) لينتظر الدكتورة ناجية حتى تهيء أغراضها للسفر ، ثم ينطلقا إلى المطار ليسافرا معا إلى العاصمة ، ومن ثم تسافر الدكتورة ناجية يوم الخميس إلى عمان ومنها إلى بغداد ....
وفي استراحة الفندق حيث كنت أتبادل الحديث مع الدكتور ، دخلت الأستاذة (صابرة خطيف) لتودع الدكتور ..ثم سألته : إسمحلي أستاذي أن أسألك سؤالا واحدا فقال : تفضلي ، فقالت له :" كيف استطعت أن تؤلف كل هذا الكم من التآليف و التصانيف ,,," فقال دون تلكأ أو تلجلج :" منذ أيام طبعت دار الغرب الإسلامي أعمالي الكاملة في واحد وعشرين مجلدا ....واعلمي يا ابنتي أنني اخترت طريق العلم الذي أشعر فيه بالسعادة و الرضا ، ولم أقبل جميع العروض التي قدمت لي من الوزارة أو الدبلوماسية ...بل إنني توليت إدارة قسم التاريخ أربع سنوات فقط وندمت عليها ....لأني أشعر أنني لا أصلح لهذه المهمة ، وأنا للعلم و التعلم و البحث وفقط ..." .
فقلت في نفسي :" هذا هو الطريق ......!!" وفهمت من الرجل العملاق : أن هذا الطريق طويل الشُقة ، وعْرُ المسالك ، فادحُ الأعباء .....!!.
8 ـ شهادة غالية... أعتز بها
ظلت علاقتي بالدكتور سعد الله واشجة واثقة عبر وسائل الإتصال وبالتلفون... أكلمه في مناسبة ومن غير مناسبة أسأل عن صحته وأحواله ...وفي يوم أرسلت إليه أطلب منه تزكية أُضَمِّنُها ملفا أعددته قبل زيارتي الأولى سائحا لدولة الإمارات عام 2006، فكتب إلي بشهادة تزكية ..صنعت في نفسي ربيعا مُبهج الورد، مُنعش العطر ، مُمتد الأفق ، يقصُر دونه الطرف ، ويعجز عن وصفه بيان .....
فكتب في شهادته يقول ( بالحرف الواحد ) :
" تعرفت على الدكتور : نجيب بن خيرة عندما كنت أستاذا بجامعة آل البيت بالأردن ، وقد جاء عندئذ باحثا في موضوع الدكتوراه التي كان يعدها عن الحياة العلمية في الولايات الإسلامية بالمشرق خراسان ويلاد ما وراء النهر .
ثم عرفته في الجزائر ، وخصوصا في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية عندما جئتها محاضرا وأستاذا زائرا ..
وأثناء هذه اللقاءات عرفت الدكتور ابن خيرة باحثا جادا ودارسا متواضعا . ففي الأردن قابل بعض الأساتذة المعروفين ببحوثهم المتخصصة مثل الأستاذ الدكتور فاروق عمر فوزي ، ولدي انطباع بأنه استفاد منه ومن غيره ، ثم من مكتبات الجامعات الأردنية ، وأعتقد أنه زار ايضا العراق و الشام للغرض نفسه .
وفي الجزائر علمت أنه بالإضافة إلى أداء وظيفته كأستاذ تولى عدة مناصب إدارية أيضا في جامعته( ) ، وقد كان في الجميع مواظبا متواضعا مكرسا جهده لخدمة الجامعة و العلم و الطلبة ، ويشهد سجله الأكاديمي والإداري على ذلك .
الدكتور ابن خيرة أستاذ دمث الأخلاق، مُرحبا، مستنير العقل ، ناشط الذهن ، وهو ابن بيئة ( مدينة بوسعادة جنوب الجزائر ) عُرفت بحب الأدب العربي، وطلاقة اللسان العربي، والمحافظة على الموروث الحضاري العربي الإسلامي، رغم تدخل الاستعمار الفرنسي في المس بالهوية الوطنية .
لذلك أزكي الدكتور نجيب بن خيرة لمن يهمه الأمر متمنيا له كل النجاح، وللمؤسسة التي ستستقطبه حظا سعيدا معه، إيمانا مني بأنه سيكون لها نعم المنشط و المساهم في أداء رسالتها العلمية" .
أ. د. أبو القاسم سعد الله (مع التوقيع )
جامعة الجزائر
وسوف أظل أفخر بهذه الشهادة ما حييت، لأنها من رجل زكي النفس، متجرد الغرض ، صادق الشعور ، وهي في نفسي تناهض الزمن، وتقارع الخطوب ، وتتخطى العقبات ، وتمضي إلى الغاية المنشودة بعزم وإيمان وثبات .....
9 ـ من بعيد ....
بعد سفري إلى الإمارات مدرسا في جامعة الشارقة، ظل اتصالي بالدكتور سعد الله لا ينقطع ، وأذكر أنه طلب مني يوما أن أسأل عن أعماله الكاملة هل وصلت هدية إلى صديقه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة؟ . وعلمت بعد ذلك أن جُلّ كتبه موجودة في دارة الشيخ سلطان وفي مكتبة الجامعة ...
وفي سنة 2010 صدر لي كتاب (تنوير المسيرة بأنوار السيرة) وكتاب ( أبحاث في الفكر و التاريخ ) فبعثت بنسخة منهما إليه فبعث لي يقول : لقد سررت بهديتك، وأبارك لك جهدك ، وقد وضعتهما في مكتبتي الخاصة في جناح"الإسلاميات" . ...
وعندما صدر كتابي الأخير ( لله ثم للتاريخ ) وهو مجموعة مقالات كتبتها ونشرتها في الصحافة على مدى عقدين من الزمن في الفكر و السياسة والأدب و الرحلة. أعلمته بصدوره عبر البريد الإلكتروني، فكتب إلي يوم 2 أكتوبر 2012 :" أهنئكم بصدور كتابكم الجديد (لله ثم للتاريخ) ولا شك أنه ثمرة بحوث معمقة، تلقي الضوء على صفحات من تاريخنا العربي الإسلامي... هنيئا..."سعد الله .
ظل الدكتور سعد الله في سنواته الأخيرة يتردد كثيرا على مدينة بوسعادة فهي مدينة أصهاره ، وزوجته المصون هي الأستاذة (حفصة بن سالم) ابنة فقيه بوسعادة ومفتيها الأول وإمام مسجدها العتيق الشيخ ( سي عبد الله بلحاج بن سالم ) رحمه الله .
وقد توثقت صلة الدكتور بالأستاذ ( رضا رحموني ) مدير دار عالم المعرفة ، وذا الأصول البوسعادية، والناشر الحصري لكتب الدكتور سعد الله وقد قرّبه الدكتور إليه وجعله بمثابة ابن له ،لما رأى فيه من الصدق والوفاء والتجرد ومحبة العلماء والتقرب إلى الله بخدمتهم...، كما علقت نفسه بالأستاذ (عماري بلحاج) صاحب دار كردادة للنشر والتوزيع ببوسعادة لخفة روحه، ولطف معشره ، وبارع ظرفه، وحضور نُكتَته ....مع شبكة من العلاقات الاجتماعية الكبيرة التي أحسّ الدكتور أنه يحتاجها في هذا الظرف ،ويأنس إليها في هذا السن ، ويخرج إليها من رهبانية علمية ألزم بها نفسه أمدًا ليس بالقصير ...!.
ومن حسن حظنا وطالع سعدنا أن الدكتور سعد الله اشترى بستانا على بعد أمتار من بيتنا، في المنطقة الخضراء من المدينة (جنان لُبطُم)... وكلّف مقاولا خاصا ببناء بيت له فيه . كان يأمل أن يخلو فيه ويتأمل ويكتب ويحقق... ولكن شاءت الأقدار أن يرحل عن الدنيا قبل أن يسكنه.. وقد شارفت أشغاله على الانتهاء ....!.
وما كل ما يتمنى المرء يدركه... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
كنت أتابع أخبار الدكتور سعد الله من بعيد، وكم كنت أغبط إخواني في بوسعادة بزيارته لهم يتابع بناء بيته الجديد ، ويجلس إليه المثقفون من أهل البلدة و أعلامها .
وعلمت أنه زار بيت عمي الشيخ (محمد الصغير بن خيرة) أحد أئمة المدينة وأعيانها البارزين، وحضر مجلس الجمعة الذي يعقده العم في بيته منذ ما يقرب من الثلاثين عاما يحضره الأخلاء والظرفاء والأصدقاء من مختلف الطبقات ..وتزدان جلسة القهوة و الحليب بطبق ( لمذكر ) الذي أكله الدكتور وأُعجب به .
10ـ في بيت الأردن ....كان اللقاء الأخير
في العشر الأواخر من رمضان عام 2010، قضيت جل إجازة الصيف في مدينة بوسعادة، وتواعدت مع أخي الأستاذ بلحاج عماري والأستاذ رضا رحموني لزيارة الدكتور سعد الله في بيته قبل سفري إلى الشارقة الذي كان وشيكا .
وصلت العاصمة صباحا وبعد العصر اتصلنا بالدكتور فوجدناه خارج بيته، ولما علم بمقدمي لزيارته قبل السفر رجع و استقبلنا أحرّ استقبال .
وفي أعالي العاصمة وفي حي دالي ابراهيم وصلنا إلى الفيلا الجميلة، ولفت انتباهي قطعة من حجر الرخام مثبتة على جنب الباب الخارجي مكتوب عليها (بيت الأردن)، وأعلمني أخي بلحاج أن الدكتور سعد الله فك اللغز لهم في زيارة سابقة، حيث ذكر لهم أن هذا البيت الجميل بُني بالمال الذي جمعه الدكتور من عمله بالجامعة في الأردن، فأراد أن يرد الفضل لأهله ويعترف بالجميل لأصحابه ....وهو الذي عاش أغلب عمره في شقة بحي بن عكنون ضيقة الغُرف ، مكتومة النفس ، لا تليق بمقام الرجل وقدره ....
صعدنا الدرج لندلف إلى صالون البيت الجميل ..وجلست إلى جنب الدكتور الذي أبدى بي ترحيبا خاصا لطول العهد الذي لم أره فيه ....وازدادت أُلفة اللقاء عندما قلت له :لقد قضيت أيام رمضان كاملة في قراءة القرآن ، ومطالعة كتابكم (يوميات 3) الذي صدر حديثا في دار عالم المعرفة .....
تعجب الدكتور وأنا أذكر له بعض تفاصيل حياته في مرحلة الستينيات وبداية السبعينيات ، أي منذ سفره إلى أمريكا ورجوعه منها ودخوله جامعة الجزائر مدرسا ورئيس قسم التاريخ فيها...
سألني الدكتور أثناء الجلسة عن جامعة الشارقة فحدثته عنها وعن فرعها بمدينة خورفكان في المنطقة الشرقية من دولة الإمارات حيث كنت أعمل وأقيم... وشعرت أن الدكتور لا يعرف المنطقة فقال: أن الفرصة لم تتح له لزيارتها ، ولا حتى زيارة الدول الأسيوية في جنوب شرق آسيا ، ونصحني بالكتابة حول تاريخ تلك البلاد واغتنام سهولة السفر إلى الدول القريبة منها كالهند وباكستان وإيران وعمان ....وأُدوِّن رحلاتي إليها ومشاهداتي فيها .
ثم تطرق الحديث إلى الحركة الاستشراقية، ودور المستشرقين في تزوير التاريخ، والدكتور سعد الله يحمل على المستشرقين الفرنسيين ويرى أنهم كانوا أشرس في تعاملهم مع تاريخ بلاد المغرب العربي عموما وتاريخ الجزائر على الخصوص ...وأنهم كانوا أضعف في فهم النصوص واستيعابها وفهم أسرار لغتها ...
وقال : " إن المشارقة أكثر انبهارا بالحركة الاستشراقية من المغاربة ، وأعطى مثالا عن الدكتور فاروق عمر فوزي ورأى أنه تأثر تأثرا واضحا بأستاذه( برنارد لويس Bernard Lewis) عندما أشرف على رسالته للدكتوراه ...
ثم امتد الحديث مع الدكتور الراحل إلى مشاكل الطبع، والحقوق الزهيدة التي يأخذها المؤلف من وراء عمله وجهده، وقد جرنا الى هذا الموضوع احتجاج الدكتور ناصر الدين سعيدوني على حقوق طبع رسالته للدكتوراه والتي استغرق في إنجازها أربعة عشر عاما ...!!وعندما رأى الدكتور سعيدوني أن حقوق طبع رسالته لاتتجاوز (6 مليون سنتيم) قال: "هذه البلاد... لا تقدر العلم ولا العلماء... ولن أرجع من الكويت ما دام هذا هو وضع المثقف والعالم في هذا البلد ...!!".
راح الدكتور سعد الله يستذكر الماضي ويستحضره بعقلية المؤرخ الناقد الحصيف فتحدث عن شريف مساعدية والرئيس الراحل هواري بومدين.. وأشار إلى ما حصل له عندما انتخب غيابيا رئيسا لاتحاد الكتاب الجزائريين، وكيف تواردت عليه التهاني من كل جهة، لأن اسمه ورد في النشرة الإخبارية الرسمية لتلفزيون الجزائر يوم 14\1\1974،فرفض بشدة، لأنه ببساطة لا يريد أن يكون الإتحاد تحت عباءة الحزب ( ).
وتحدث الدكتور عن المحاولات الكثيرة لديناصورات الحزب الواحد لإدخاله في الحزب ( حزب جبهة التحرير الوطني ) وكيف تأبَّى على الحزبية، وكان يراها قيدا لحريته الفكرية ومواقفه الحرة ، وصموده العنيد ...
وفي تلك الأثناء أخرج الأستاذ (رضا) عرضا لعقد يقضي بتكفل دار عالم المعرفة بجميع مصاريف رحلة الدكتور إلى أمريكا رفقة زوجته لمدة أربعة أشهر يستكمل الدكتور الباحث فيها إنجاز الجزء الخاص بتاريخ الجزائر الثقافي خلال العصر الإسلامي الوسيط مع منحة شهرية طوال المدة المذكورة ...وذلك بعدما يئس الدكتور من وعود وزارة المجاهدين ووزارة التعليم العالي التي وعدته بتمويل البحث عن طريق المركز الوطني للبحوث ، ولكنها كانت وعود كاذبة.. لم تستطع الدولة (الثرية) أن تفي بها ...ولم تستطع أن توفر لهذا العلامة المؤرخ هذه المنحة الزهيدة ولمدة قصيرة لكتابة أنفس فترات الجزائر في التصانيف والتآليف والمدارس و العلوم ...!!، إنه عقوق العظماء ...وجحود العباقرة ...!!.
وعلمت بعد ذلك أن الدكتور الزاهد رفض عرض دار عالم المعرفة أيضا وسافر على حسابه الخاص ....!!
كنت أنظر إلى رجلَي الدكتور وهما محمرّتان ومنتفختان ...وقد ذوى عوده، وانخرع متنه، وصار مثقلا بالأسقام ...!!.ولكن رغم ذلك يصارعها بصبر وجلد ، فيكتب ويبدع ويصنع مواقف عزَّ بها وبزَّ ، وأقعد غيره عن أن يلحق به أو يدانيه ....!!.
وفي أثناء الجلسة كان الأستاذ بلحاج يتثاءب لما غلبه النعاس من تعب السفر ورَهَقِ الصيام ..فقلّ كلامه على غير عادته ...فالتفت الدكتور إليه وقال له : أين أنت يا .بلحاج ؟ ! لست على عادتك اليوم في النشاط والمشاركة في الحديث والنكتة والنادرة...؟! فقال: أنتما مؤرخان تتحدثان مع بعضكما وأنا أسمع منكما وأستفيد ....
وعلى عادة أخينا بلحاج في التندر العذب والنكتة المُحببة قال لي بعد ذلك:" كنت مرهقا جدا، وكاد النوم يخطف بصري مرتين، ولكني خفت أن أنام فيدونني قلم الدكتور سعد الله في يومياته، ويسجلني في عِداد النائمين ....!!" .
وفي آخر الجلسة اختتمنا الحديث عن المستوى العلمي في جامعات المشرق والمغرب.. وما أحدثه الترف في أبناء الجيل الجديد من عزوف عن التحصيل و التعلم و الطلب .....
فقال لي ضاحكا :" الآن جاء دورك لتكتب أنت أيضا يومياتك ...."!!
ودعنا الدكتور على أمل أن نلقاه في زيارة قادمة.. ولكن لست أدري لماذا شعرت حينها أني لن أره مرة أخرى...؟!!.
وكم كنت أحاول في مرضه الأخير الاتصال به على رقمه الخاص ـ وهو نزيل المستشفى العسكري ـ ولكن الهاتف تصَامَمْ، والمرض القاهر منع الرجل الكبير من أن يرد على السائلين... إلى أن فُجعت بالخبر الأليم بوفاة الدكتور أبو القاسم سعد الله علاّمة الجزائر، وأديبها العظيم، ومفكرها المبدع، وشيخ المؤرخين فيها بلا منازع... يوم السبت 14 ديسمبر 2013.
وإذا كان مصابنا أليما في وفاته ـ رحمه الله ـ فعزاؤنا أنه ترك عيونا من آثاره الباقية ستكون منهلا عذبا ترده الأجيال الضامئة لتاريخها وتراثها وحضارتها ...