تقنيات المدح في الخطاب الشعري عند مفدي زكريا
بقلم: د. إبراهيم طبشي-
ما علاقة مفدي زكريا بالمدح؟ هذا سؤال مهم يجهل كثير من الناس بل كثير من دارسي الأدب العربي الإجابة عنه ، ذلك أن الصورة التي رسمت لـ"مفدي" هي أنه شاعر الثورة وكفى . ولعل مجموعة من العوامل أسهمت في تكوين هذه الصورة ، منها على الأخص الاقتصار في طبع أعماله في الجزائر على ديوانيه "اللهب المقدس" و"إلياذة الجزائر" وخلوّ الساحة من ديوانيه الآخرين " تحت ظلال الزيتون" و"من وحي الأطلس"، كما أن هناك رغبة في أن تبقى هذه هي الصورة الوحيدة التي يحملها جمهور القراء وعامة الناس عنه . ولكن الحقيقة أن هذا جزء من الصورة لا الصورة كلها ، فالمتصفح لديوان "تحت ظلال الزيتون" و"من وحي الأطلس" يجد المدح قد استغرق مجموعة كبيرة من الأبيات، بل إن قصائد برمتها خصصها الشاعر لهذا الغرض .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل يعيب مفدي أنه كان شاعرا مدَّاحا؟ لعل أحسن إجابة عن هذا السؤال تأتي من الشاعر نفسه إذ يقول :
وقالوا مدحتَ المالكين، أجبتُـــــهم *** هـل المدحُ في غير المناجيد من شاني؟ 1
إنه يقرّ بهذا الفعل ولا يجد حرجا فيه ، ولعل استساغته لهذا الأمر هو ما دفعه لأن يضمّن اللهب المقدس ( الذي خصصه لتمجيد الثورة الجزائرية) بعض القصائد في المدح!
وإذا كان لا بد من تقديم تفسير لوجود هذا الغرض في شعره واحتلاله حيزا كبيرا منه فهو في رأيي يعود إلى ثلاثة عوامل أساسية هي كما يلي:
1- انتهاء الثورة التحريرية التي كان قد كرّس شعره وحياته من أجلها قبل استقلال البلاد ، أما وقد استقلت فلا عليه بعد ذلك أن بقول أشعارا في غير الغرض الثوري.
2-الخلاف الذي وقع بينه وبين السلطة الجزائرية ، وهو ما أجبره على الخروج من الجزائر متنقلا بين تونس والمغرب ، ولعله رأى من الوفاء لمن احتفى به وكرّمه في ديار الغربة أن يرد جميله بمدحه والإشادة بخصاله.
3-النزعة الاتباعية عند مفدي فهو شاعر محافظ يترسم خطى الشعراء الأقدمين في أساليبهم وفنونهم ، ولا غرو أن نجده يحذو حذوهم في غرض هو من أهم أغراض الشعر العربي القديم ألا وهو المدح.
ولنأت الآن إلى صميم الموضوع وهو الحديث عن التقنيات والطرائق التي انتهجها الشاعر في مدحه لممدوحيه :
المبالغة:
يعرّف أبو هلال العسكري المبالغة بقوله : "المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته وأبعد نهاياته ، ولا تقتصر في العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه ." 2 ولا شك أن سياقات معينة هي ما يقتضي اللجوء إلى هذا الأسلوب في الكلام ، ولعل من أهم هذه السياقات المدح ، وهو ما سعى إليه مفدي تحقيقا لغايات كثيرة. يقول في مدح الرئيس " بورقيبة" :
ياحبيبي يا حبيبَ الشعب يا *** صانعَ التاريخِ حبًّا واحتراما
فيكَ أصبحْنا حَيارى أتـرى *** أنتَ صوفيٌّ عن العرفِ تسامى؟
تُبرمُ الأمرَ فلا نفهمُه *** ونجازيكَ شكـوكًا واتهاما
فيرى التاريخُ ما لم نرَه *** ويحلُّ الفكرُ ما أعيى الحساما
أنتَ والغيبُ على وعدٍ ترى *** فتجنَّبْتَ مع الغيب اصطداما؟
أم جرى الغيبُ بما أُلهمتَه *** وابتغى مع سرِّ مغزاكَ انسجاما؟3
إن الشاعر يريد أن يصف ممدوحه ببعد النظر واستشراف المستقبل ، فلا يكتفي بمجرد إطلاق هذه الصفة عليه ، بل يلجأ إلى المبالغة فيجعل الغيب على وعد مع الممدوح، بل يجعل الغيب هو الذي يحرص على الانسجام مع كشوفات الممدوح وليس العكس
ويقول في الممدوح نفسه في قصيدة أخرى:
يا حبيبي جلَّ عيدُ النصر يا *** صادقَ الوعد إذا الغيرُ ادَّعى
عادت الروحُ لشعبٍ جئتَه *** منذ تسعٍ ما انثنى أو ضيَّعا
مثلَ روحِ الله تأسو جرحَه *** وتداوِي فيه قلبا مـــوجَعا
وكليمِ الله مذ كلمتـَـَّـه *** خفَّ كالمارد لمَّا أن وعى 4
يذكر الشاعر فضل الرئيس " الحبيب" على شعبه وكيف عادتْ إليه روحُه يوم تسلم قيادته ، ولكنه لا يقف عند هذا الحد ، بل يلجأ إلى المبالغة مشبها إياه بنبيين من الأنبياء هما عيسى روح الله وموسى كليم الله، ولا شك في أن هذا التشبيه الغرض منه الرفع من قدر الممدوح والإعلاء من شأنه.
ويقول في مدح الحسن الثاني:
ذروا عدَّ السنين فكلَّ يوم *** لعيد الأكرمين يقام حفلُ
ومَن سبقَ الزمانَ هل الليالي *** لضبط حسابه كفء وأهلُ؟
وما الحسَنُ العظيمُ سوى امتدادٍ *** لخلْقٍ فيه للخلّاق ظلُّ 5
إن الشاعر معجب كل الإعجاب بشخص ممدوحه ، وهو لذلك يبالغ فيما ينسب إليه من الخصال فلا يكتفي بمجرد ذكر أعماله ومنجزاته ، بل يعدّه من الذين سبقوا زمانهم ، ثم يذهب إلى أبعد من ذلك حين يجعله ظلا لله تعالى في الأرض
ويقول في تأبين محمد الخامس:
ويا محمدُ مَن أغراكَ فانفلتـتْ *** للقدس روحُك لم تحفلْ بداعينا ؟
ما ضرَّ من جعلَ الأرواحَ خالدةً *** لو نال جسمُك تخليدا وتأمينا ؟
أفي السماواتِ عرشٌ أنت تنشدُه *** فرحتَ تسألُ في الفردوس"جبرينا"؟
أم هل سمعتَ بأقمار مزيفـةٍ *** تغزو الفضاء فسفّهتَ المجانينا؟
أم إن قانونَ أهلِ الأرضِ مصطنعٌ *** فرحتَ تشرعُ في الخلد القوانينا ؟
أم تمّ ما كنتَ تبنيه وتصنعُهُ *** فرحتَ تنقل للعليا مبانينا ؟ 6
هذه الأبيات وإن كانت في الرثاء إلا أن موضوعها مدح الملك الراحل ، وقد اشتملت على مجموعة كبيرة من المبالغات ، فالشاعر لم يكتف بمجرد وصف كيفية خروج روح الراحل وعروجها إلى السماء ، بل يتحدث عن مآلاتها، فالراحل إما أن يكون قد أُعِدّ له عرشٌ آخر في السماء ، أو هو قد كُلِّف بتشريع القوانين في الجنة ، أو لعله أكمل إنجازاته في الأرض فنَقَلَ البناءَ إلى السماء
ويتحدث عن زيارة الحسن الثاني إلى تونس وكيف استقبلته فيقول:
فيـكَ هامتْ بماجدٍ عَلَويٍّ *** عـربيِّ الحجى كريم الجدود
قبسٌ من سلالة المصطفى الها *** دي وفخرُ الشباب رمزُ الصمود
نفحةٌ من أبيك أنتَ وفي رو *** حِكَ من روحِه معاني الخلود
فيكَ آمنتُ بالتناسخ لمَّا *** قيلَ هذا ابنُ يوسفَ من جديد7
لقد احتفتْ تونسُ بهذا الوافدِ إليها وكرّمتْه وأعلتْ من قدره ، ولكنَّ الشاعرَ لم يكتف بوصفِ ذلك كله، بل أراد أن يضفيَ عليه من ذات نفسه ما يلوّنه بطابعه الخاص ، ومن هنا جاءت مبالغته حين صرَّح بإيمانه بعقيدة تناسخ الأرواح - على الرغم مما في هذه العقيدة من مخالفة لعقيدة الإسلام ـــ لا لشيء إلا لأنه رأى شبها كبيرا بين الحسن وأبيه
ومن المبالغة أيضا هذه الأبيات التي وصف فيها عودة الرئيس "بورقيبة" إلى تونس بعد غياب طويل:
حبيبي تنزلْ بعـد خمسين ليلةً *** وقد كنتَ منا قاب قوسبن أو أدنى
وهذي جموعُ الشعبِ كالسيلِ أسرعتْ *** تباركُ فيكَ الصدقَ والمطمحَ الأسنى
وتحملكَ الأعناقُ شوقا وطالما *** حَملتَ على الأعناق عهدا فبايعنا
ولو أننا في الأمر نملكُ طاقة *** لكنَّا فرشْنَا في "عوينتنا" عينا
وكنَّا بسطْنَا في الرحابِ ضلوعَنا *** وكنَّا وضعْنَا دون سيارةٍ جَفْنا
حَسَدْنا جوادا غاصبا ولو أننا *** علمنا جعلنا من حشاشاتنا متنا 8
يمدح الشاعر الرئيس "بورقيبة" ويصور احتفاء التونسيين بعودته وكيف استقبلوه في المطار، فهم قد حملوه على الأعناق، ولو أنهم كان بإمكانهم أن يفرشوا له عيونهم لفعلوا ، ولو كانوا يقدرون على بسط ضلوعهم ، أو جعل حشاشاتهم ظهرا ليركبه لما توانوا في ذلك
ومن المبالغة أيضا استغلال الشاعر للأسطورة والاعتقادات الشعبية من أجل إضفاء القداسة على الممدوح، ومن ذلك قوله مخاطبا الملك "محمد الخامس" بمناسبة استقلال المغرب:
فانزلْ كريما في بلادٍ حرَّةٍ *** أخذ الزمانُ لشعبِها بالثارِ
واهبطْ من الملكوتِ أكرمَ هابطٍ *** وانشرْ قميصَ أبيكَ للأبصارِ
وافرشْ على قدسِ الرحابِ عيونَنا *** واصعدْ على مهجٍ هناك كبارِ
قمرُ الزمانِ انشقَّ عنك لأمة *** فكنِ الحقيقةَ للخيال السارِي
ورآكَ شعبُكَ في السماواتِ العلى*** فلكا فقامَ يطوف بالأنوار9ِ
اشتملت الأبيات على أكثر من مبالغة، فالشاعر يجعل من الملك هابطا من الملكوت أي من عالم آخر غير الذي ينتمي إليه الناس، وهو يدعوه لأن يفترش الأهداب والعيون ، وأن يكون مرتقاه فوق المهج والأرواح ولم يكتف الشاعر بهذا الحد من المبالغة، بل لجأ إلى الأسطورة مستمدا منها ما يؤكد انتماء الممدوح إلى العالم الآخر ، فقد سرى في اعتقاد العامة أن القمر انبجست عنه صورة الملك في ليلة من الليالي ، فجعل الناسُ ينظرون إليه وقد سما إلى العالم العلوي. ومن هنا فالشاعر يستغل الأسطورة ويتخذ منها أداة للمدح بل وسيلة لإضفاء القدسية على ممدوحه.
ولم يقتصر ذكر الشاعر لهذه الأسطورة على الموضع السابق فحسب، بل ذكرها في أكثر من موضع ، إذ يقول في رثاء الملك :
قالوا ابنُ يوسفَ ماتَ قلتُ وهمتُمُ *** أيموتُ من حفظَ البلادَ من الفنا؟!
قد عادَ للقمرِ الذي فيما مضَى *** قد كانَ عنه انشقَّ وضاحَ السنا 10
ويقول في مدح الحسن الثاني:
أيمزحُ " آبلو " أو ليسَ يدري *** بأن أباكَ قد هتكَ الحجابا؟
وأن أباكَ من قمرٍ منيرٍ *** تنزَّلَ يقلب الوضع انقلابا؟
أتى بالجاذبيةِ من عُلاهُ *** ليجتذبَ المقاديرَ اجتذابا؟
وجاءَ مع الصحابةِ من سحابٍ *** يعجّلُ للمغيرين انسحابا؟
فكان وكنتَ والشعب المفدَّى *** رسالاتٍ وأضلاعا صِلَابا 11
إن الشاعر يقرر في هذه الأبيات المضمون الأسطوري الذي كان ذَكَرَه في مواضع سابقة، وهو هنا يضيف إليه معنى آخر وهو أن الملك "محمد الخامس" قد تنزل من السماء مع جمع من الصحابة لطرد المحتلين الغاصبين
تجاهل العارف:
يعرّفه القزويني بأنه "سَوْقُ المعلوم مساق غيره لنكتة "12 ويعني ذلك أن المتكلّم يُظهر عدم المعرفة بالخبر لغرض من الأغراض. وقد وظّف مفدي هذا الأسلوب في إبراز مكانة ممدوحيه ، من ذلك مثلا قوله في مدح الحسن الثاني:
حسنٌ ذاك قائم أم ملاك ؟ *** جاء بالنّور يفتح الأبصارا
قائدٌ ذاك؟ أم هو الحسن الثّا *** ني وقد صفَّ جيشه الجرّارا؟ 13
يبدو الشاعر متسائلا عن طبيعة الممدوح ، أهو بشرٌ أم ملاك ؟ ولا ريب أن في هذا الأسلوبِ ما يرفع من قدره ، إذ يشعر المتلقي أن الباثّ يعقد تشبيها خفيا بين الممدوح والملاك.
ويقول في تخليد عيد العرش الملكي في فاس مادحا الحسن الثاني:
يا بهجةَ العيدِ في مغنى صبابتنا *** ويا ربوعَ الهوى والعيشُ ريانُ
ويا مراعي الظِّبى هل إن سيدَنا *** بفاسٍ مثلي مشغوفٌ وولهانُ؟14
إن الشاعر مغتبط مسرور بهذه المناسبة ، فهو يشعر ببهجة العيد وروعة الرجوع إلى مرابع الهوى الأولى، ولا يريد أن يكون هو وحده من يشعر بهذا الشعور، ومن ثم فهو يريد أن يشرك معه الممدوح ، ويسوق ذلك في شكل المتسائل عن إحساسه ، وهل هو مشغوف بفاس كما شغف بها هو؟ لا يمكن طبعا أن يفهم أن الشاعر يدّعي شغفه بفاس أكثر من شغف الملِكِ بها ، ولكن المؤكد أنه يتقرب إليه بحبه لبلاده وتعلقه بها.
ويقول متذكرا محمد الخامس بمناسبة عيد العرش:
ومَن الذي ينفي رسالةَ مصلح *** ما انفكَّ يصنع بالحفاظِ عقولا؟
ومَن الذي لا ينحنِي لمعلمٍ *** كشفَ الغموضَ وأرشدَ الضليلا؟
كلماته بالمعجزاتِ بواطن *** وحديثُه لا يقبلُ التأويلا
وكفاحُه للصامديـن عنايةٌ *** ضمنتْ لركبِ الزاحفين وصولا
هو بيننا فتبيَّنُوا تجـدوا له *** من صلبِه في المهرجانِ مثيلا
هو ذا هنا في شعبه فتأمَّلُوا *** تجدوا ابنَ يوسف ما استطابَ رحيلا
ماذا أرى أمحمدٌ في عرشه *** يتلـو البيانَ مفصـَّـلا تفصيلا؟!15
الشاعر معجب بالملك محمد الخامس وخصاله التي جعلت منه زعيما لشعبه، فهو مصلح ربَّى العقول، ومعلم أدى رسالته في وضوح تام، وهو كذلك مكافح عبَّد الطريق لمن وراءه . وينتقل الشاعر لمدح الابن بعد الأب ويدّعي أنه يجد شبها كبيرا بينهما ، ولكنه لا يسوق ذلك في صورة التشبيه المعروفة ، بل يلجأ إلى أسلوب تجاهل العارف في البيت السابع متسائلا عمن يبدو جالسا في العرش يتلو البيان ؟ من المؤكد أنه الحسن الثاني ولكن الشاعر يتظاهر باشتباه الأمر عليه ، ولعله أراد من خلال ذلك أن يعبر عن وفاء الابن لمنهج أبيه وسيره على سننه.
ويقول في توديع الرئيس التونسي "الحبيب بورقيبة":
سلوا الطائرَ الميمونَ مَن فيه أودعنا؟ *** ومَن في بساط الريح للروح أسلمنا؟
سليمانُ أم بلقيس أم قلـبُ أمة *** وإنسانُ عين في "العوينة" أودعنا؟
ومن يا ترى يغزو الفضاءَ أروحُه؟ *** أم المركبُ المسحورُ أم نحنُ حلَّقنا؟
أبالملأ الأعلى يحلّقُ طائرٌ *** من اللوح منحوتٌ من الملأ الأدنى؟16
هذه الأبيات ولا شك في مدح الرئيس التونسي، ولكن الشاعر لا يسوق ذلك في الثوب المعتاد للمدح، بل يلجأ إلى أسلوب تجاهل العارف ، فهو يتساءل عمّن امتطى الطائرة : هل يكون النبيَّ سليمانَ أم الملكةَ بلقيس أم قلب الأمة أم إنسان العين؟ من المؤكد أن الشاعر يدرك أن الراكب ليس واحدا من هؤلاء ، ولكنه أراد أن يشبهه بهم إعلاء لقدره وإبرازا لمكانته.
ويقول مجاملا زوجة أحد أصدقائه:
ولستُ أدري أشمسٌ أنتِ أم قمرٌ؟ *** أنورُه منكِ أم بالنور جلَّاك؟
وهل جمالُكِ أصفاه وباركهُ؟ *** أم الجلالُ الذي زكاه زكاك؟17
يريد الشاعر أن يضفي على زوجة صديقه صفات منها الجمال والجلال والنور، وقد لجأ إلى أسلوب تجاهل العارف الذي يتيح له أن يقدم هذه الصفات ـــ لا في شكلها المباشرــــ بل بطريقة فيها الكثير من الطرافة.
الجناس:
يعرفه الميداني بقوله " هو أن يتشابه اللفظان في النطق ويختلفا في المعنى "18 وليس كلّ جناس يحقّق القيمة الجماليّة، وفي هذا المعنى يقول الجرجاني: " فإنّك لا تجد تجنيسا مقبولا ولا سجعا حسنا حتّى يكون المعنى هو الّذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتّى تجده لا يبتغي به بدلا ولا تجد عنه حولا، ومن ههنا كان أحلى تجنيس تسمعُه وأعلاه، وأحقُّه بالحُسْن وأولاه ما وَقَع من غير قصد من المتكلّم إلى اجتلابه وتأهّبٍ لطلبه"19 . وقد استخدم مفدي الجناس بطاقاته المختلفة وتنوعاته الكثيرة في مدحه لممدوحيه ، ومن ذلك مثلا قوله في مدح الملك محمد الخامس:
وإذا ابنُ يوسفَ كان أصدقَ معربٍ *** عن "مغرب" فبثاقبٍ بتَّـارِ
وإذا ابنُ يوسفَ كان أقدسَ مالكٍ *** في أمةٍ فبصالح الآثـار
ماذا أرى جناتِ عدنٍ فُتِّحتْ *** أبوابـها أم موطني ودياري؟
أم إن ربَّ العرش جلَّ جلالُهُ *** أولى لربِّ العرشِ عقبى الدارِ20
اشتملت الأبيات على جناسين: الأول بين "مُعرب" و"مَغرب" فالوحدة الأولى دالة على وصف للملك، والثانية اسم علم على بلاده ، وقد أتاح هذا الجناس للشاعر أن يجعل الملك أصدق من يعبر عن مطالب المغرب وآماله. وأما الثاني فتحقق بالمركب الإضافي "ربّ العرش" الذي دل على معنيين مختلفين الأول : وصفٌ لله تعالى والثاني وصفٌ للملك ، وواضح من خلال هذا الجناس ومن خلال السياق أن للشاعر رغبةً في إضفاء الصبغة القدسية على الملك ، ذلك أن مُلكه هدية من الله له وهِبة اختصه بها كما يرى الشاعر!
وقال محيّيا الحسنَ الثاني عند زيارته لتونس عام 1964:
أيها النازُل الكريم بشعبٍ *** عبقريِّ الإبداع والتجديدِ
جاء يهفو إلى لقاكَ ويا ما *** حنَّ شوقا إلى لقاكَ السعيدِ
وحبيبٌ يرعى ذمامَ حبيبٍ *** بالصفا بالوفا بحبٍّ شديد21
اشتمل البيت الأخير على جناسين ،الأول بين "حبيب" الأولى والثانية ، والثاني بين "الصفا " و" الوفا"، ونريد أن نركز على الجناس الأول، فالشاعر قصد بـ " حبيب " الأولى اسم الرئيس التونسي ، وقصد بالثانية معنى القريب إلى القلب، ولا ريب أن في اختيار الشاعر لهاتين الوحدتين ما يترجم رغبته في أن تكون العلاقة بين الزعيمين علاقة محبة ومودة.
ويقول في تخليد عيد العرش المغربي العاشر:
وفي الرباطِ ارتبطْنا طوعَ مشورها *** فإنَّ أسوارَه للمجدِ أركانُ
أرسَى المحاسنَ في أعماقها "حسنٌ" *** وصانَ حرمتَها في البرج "حسانُ"
رأيتُ في فاسٍ كلَّ الحُسنِ مكتملاً *** كأنما انفتقتْ عن فاسٍ بلدانُ22
الشاعر مأسور لجمال كل من الرباط وفاس ، وهو يتخذ من الجناس أداة للتعبير عن هذا الإحساس ، فالجناس الأول بين "الرباط" و"ارتبطنا" ، وهو جناس اشتقاق أراد الشاعر من خلاله أن يظهر معنى التواشج والتعالق الذي نشأ بينه وبين هذه المدينة ومشورها الجميل . أما الجناس الثاني فكان بين وحدات "حَسَن" و"حسّان" والحُسْن" وقد أراد الشاعر من خلاله التأكيد على العلاقة بين "الحَسَن" وهو اسم الملك المغربي وكل ما هو جميل في بلاده ، ولا شك أن البعد الحجاجي حاضر في هذا الجناس .
ويقول في مدح الشعب المغربي:
كذا كُتِبَ البقاءُ لمجدِ شعبٍ *** تناوشُه الخطوبُ فلا يذلُّ
أليسَ من الخوارقِ أن نراه *** يلاقي النُّبلَ لا يلقاه نَبْلُ
ومَن وُهب العنايةَ لا يبالي *** أيخشى النَّبلَ من يغشاه نُبلُ؟23
يمجد الشاعر الشعب المغربي ويذكر تَأبِّيَهُ على الخطوب والمصائب ، ولعل السر في ذلك اتصافه بالنبل والمكارم ، وقد وظَّف الشاعر وحدتين تشتركان في الجذر(ن ب ل) ولكنهما مختلفتان في المعنى ، بل هما ــ كما يصور الشاعر ــ على طرفي نقيض ، فمن اتصف بـ " النُّبل" لا يمكن أن يصيبه " النَّبل" ، ومادام الشعب المغربي نصيبه وافر من الأول فلا يمكن أن يصيبه الثاني.
ويقول في مدح الرئيس التونسي:
أبعيدِ النّصر يا نسرُ أنا *** جئتُ أقريكَ التّهاني والدّعا؟
" الاختلاف الجزئي بين الوحدتين (النّصر) و(نسر) في حرفي الصاد والسين، فما وجه التّقارب الدّلالي بينهما؟ النّسر رمز القوّة، وبذلك كان وصف مفدي للرّئيس التونسي من باب المدح في هذا البيت. ولا يمكن أن يكون النّصر إلاّ عن طريق القوّة ، ولو كانّت هذه القوّةُ معنويّة ومع عدم التكافؤ في ميزان القوّة الماديّة. فالعلاقة إذن بين الوحدتين هي علاقة نتيجة بسبب."25
ويقول بمناسبة عودة الرئيس التونسي من رحلته إلى الشرق:
عادت الروحُ إلى الخضرا معكْ *** وتطلَّعنا نحيِّي مطلعكْ
وانتشى الشعبُ وفي أطوائه *** أضلعٌ حرَّى تناجي أضلعَكْ
أترى شعبَك يدري أنه *** ودّعَ الأحشاءَ لما ودَّعكْ
أودعَ الآمالَ والدنيا معًا *** في بساطِ الريحِ لمَّا أودعكْ 26
لقد جعل الشاعر عودة الرئيس إلى بلاده بمنزلة عودة الروح إلى الشعب ، فهو ما هنأ باله ولا سَرَتْ الفرحة في أوصاله إلا بعد أن رآه وحيَّاه ، ويلاحظ أن الشاعر وظف جناسين : الأول منهما بين وحدتي (تطلَّعنا) و(مطلعك) وتعني الوحدة الأولى (تشوَّفْنا) والوحدة الثاني(وجهك) . وأما الجناس الثاني فكان بين وحدتي (ودّع) و(أودع).
ويقول في ختام القصيدة نفسها :
والغدُ المأمولُ مأمونُ الخطى *** سِرْ حبيبَ الله والله معكْ27
ما أنسب أن يكون الختام مشتملا على هذا الجناس بين وحدتي (المأمول) و(مأمون) فالآمال من المعتاد أن تكون مرغوبة إلى النفوس ، ولكن من الممكن أن تساورنا الشكوك بشأنها ، ومن هنا كانت وحدة (مأمون) ـــ بالإضافة إلى الجرس الموسيقي الذي تنشئه مع الأخرى ـــ قد أدت وظيفة دلالية ، فهي تشيع الثقة والطمأنينة وتزيل كل أسباب الخوف والتوجس من المستقبل.
الالتفات:
لعلّ أول من نُقل عنه الكلام في هذا الأسلوب البلاغي الأصمعي إذ أورد صاحب " العمدة" " عن إسحاق الموصلي أنه قال : قال لي الأصمعي : أتعرف التفات جرير ؟ قلت : وما هو ؟ فأنشدني :
أتنسى إذ تودِّعُنا سليمى *** بعودِ بشامةَ ؟ سُقي البشامُ
ثم قال أما تراهُ مقبلاً على شعره إذ التفتَ إلى البَشامِ فدعا له"28 . ويعرفه الميداني بقوله: "هو التحويل في الكلام من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث "التكلم والخطاب والغيبة" مع أن الظاهر في متابعة الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أولا دون التحول عنها."29 وقد وظف مفدي هذا الأسلوب البلاغي في مواضع كثيرة منها قوله في توديع الرئيس التونسي:
ومن يا تُرى يغزو الفضاءَ أروحُه؟ *** أم المركبُ المسحورُ أم نحنُ حلقنا؟
أبالملأ الأعلى يحلِّقُ طائرٌ *** من اللوح منحوتٌ من الملأ الأدنى؟
هل النسرُ محمولٌ أم النسرُ حاملٌ؟ *** أم البحرُ يرجو المزنَ أم يصنعُ المزنا؟
على بركاتِ اللهِ طرتَ مشرقا *** ولو لم (تغرب) في جوانحنا طُرنا30
في الأبيات تحوّلٌ للصيغة من الغائب إلى المخاطب، فالشاعر يتحدث عن الرئيس "بورقيبة" وكيف استقل الطائرة ، وبعد أن يبدي تعجبه من هذا الطائر الحديدي الذي ينتمي إلى الملأ الأدنى ومع ذلك فإن له قدرة عجيبة على التحليق بالملأ الأعلى، بعد هذا يلتفت الشاعر من صيغة الغائب إلى المخاطب ليستحضر الممدوح أمامه ، ولعل ما سوّغ هذا الالتفات بوحُ الشاعر بما تكنُّه المشاعر تجاه الممدوح ، إذ لا يليق أن يكون هذا الحديث بطريقة غير مباشرة.
ويقول متحدثا عن رحيل الملك محمد الخامس وخلافة الحسن له:
فلبَّى للخلود قريرَ عينٍ *** نداءَ الله قِبْلَتُهُ الصعودُ
ومن ألِفَ السماءَ وجـاء منها *** إلى ملكوتِها شوقا يعودُ
ومن تركَ الأمانةَ وهي عُظمى *** لشهمٍ لا يميلُ ولا يحيدُ
فقد وضعَ الرسالةَ في أمينٍ *** لديه من خلائقه الرصيدُ
أميرَ المؤمنين علوتَ عرشا *** دعائمُه الوثائقُ والعهود31ُ
خصص الشاعر الأبيات الأولى للحديث عن رحيل الملك محمد الخامس ، وكيف عادت روحه إلى السماء التي جاء منها ! انتقل بعد ذلك إلى مَن استخلفه الراحل من بعده فوصفه بالشهامة والأمانة وثباتِه على الحق ، وأنه جمع رصيدا كبيرا من الأخلاق . ولكن الشاعر لم يرض أن يسترسل بالحديث بصيغة الغائب ، ذلك أن هذه الصيغة قد تكون مناسبة لمن مضى ورحل عن هذا العالم ، أما من هو ملء سمع الدنيا وبصرها فلا يليق إلا أن يكون الحديث عنه بصيغة المخاطب ، ومن هنا وجدنا الشاعر يلتفت مستعملا النداء مخاطبا الملك "الحسن" بوصفه أميرا للمؤمنين.
ويقول في ختام قصيدة مدح بها الحسن الثاني:
سيظفرُ الشعبُ مذ لبَّاه معتصمٌ *** فعزةُ الشعب في صدقِ القياداتِ
إنا أردنا ..وفي مجرى إرادتنا *** إرادةُ اللهِ علّامِ الخفيَّاتِ
ذر الزمانَ يحدثْنا وسِرْ قدما *** فأنت أعلمُ منا بالثنياتِ
واسلمْ لشعبكَ تسلمْ فيه عزتُه *** ويقتبسْ منك إبداعَ البطولات32
إن الشاعر واثق من انتصار الشعب المغربي ، وهذا لأنه سلَّمَ قيادته لمن هو في مثل نخوة المعتصم وقوته وحزمه ، وهو هنا يقصد الملك الحسن . وإذا كان الشاعر قد أخذ بصيغة الغائب لأنها الأنسب لتعداد أعمال الممدوح وخصاله، فإنه وجد في الالتفات إلى صيغة المخاطب ضرورة ذلك أنه أراد أن تكون كلماته موجهة إلى الملك مباشرة ، كما أنه أراد أن يختم له بالدعاء ، ومن المؤكد أن هذا كله لا تناسبه صيغة الغائب.
ويقول في تكريم الشيخ البشير الإبراهيمي في تونس:
التحياتُ باعثَ الرجةِ الكبـ *** رى تهاوى حيالَها الأصنامُ
والذي ألهبَ العزائمَ فانقـ *** ضتْ تبارى يسوقها الإقـدامُ
والذي فك طلسمَ الشعب فارتـ *** ــدّ بصيرا وانجابَ عنه الظــــلامُ
والذي أنقـذَ العروبةَ لما *** نُصِبَتْ للعروبة الألغامُ
وحمى "دولةَ الكتاب"وكانتْ *** في الحمى "دولةُ الكتاب" تُضامُ
علمًا لحْ بأرض تونس واسطعْ *** بسماها تحفّكَ " الأعلامُ " 33
يوجّه الشاعر تحياته لأحد رواد النهضة الجزائرية وهو الشيخ البشير الإبراهيمي، ثم يسترسل في ذكر خصاله التي ذكر منها شحذ عزائم الجزائريين وهممهم ، وبث الوعي في عقولهم وتمزيق حجاب الجهل عنهم، كما ذكر إنقاذ العروبة من المكائد التي نصبت لها وحماية العلم والمعرفة. ولكن الشاعر ينعطف بالأسلوب بعد ذلك إلى المخاطب، وهذا أنسب للمقام ذلك أنه بعد ذكر الخصال شرع في الترحيب به في أرض تونس ، وإنما يكون الترحيب بالحاضر المخاطَب لا بالغائب.
ولا يقتصر أسلوب الالتفات على التحول من صيغة الغائب إلى المخاطب، بل نجد من أنواعه في الخطاب الشعري عند مفدي زكريا التحول من المفرد إلى المذكر، من ذلك مثلا قوله في استقبال الرئيس التونسي:
تحيَّرَ في عينيكَ دمعٌ فأسلمتْ *** مآقيكَ ما يخفي الحنان فأشفقنا
تجلَّيتَ في أبصارنا فتشابكتْ *** دموعٌ وأبكيتَ العيونَ وأبكينا
فلا تدَع المنديلَ يخفيه إننا *** عهدناكَ لا تخفي دموع الهوى عنَّا!
ففي كلِّ ما ترويه عيناكَ قصةٌ *** تأثرتَ منها قَبْلـنا فتأثـّرْنَا
ومهما ذَرفتمْ عَبرةً فهي عِبرةٌ *** تنيرُ دياجينا إذا نحـنُ أدلجـنَا34
يصف الشاعر روعة اللقاء بالرئيس عند نزوله إلى أرض الوطن ، وكيف كان المشهد مؤثرا جدا ، فقد امتزجت الفرحة بالدموع ، وكان الرئيس يحاول إخفاء دموعه ، ولكن الشاعر طالبه بألا يخفيها لأن فيها من المعاني ما ينير للشعب طريقه. ويلاحظ أن الشاعر استعمل ضمير المفرد في الأبيات الأربعة الأولى ( عينيكَ ــ مآقيكَ ــ تجليتَ عهدناكَ ...)، ولكنه التفت بعد ذلك مستعملا ضمير الجمع (ذرفتمْ) ، ولعل السبب في ذلك الرغبة في تبجيل الرئيس وتقديره .
الطباق:
وهو ينتمي إلى المحسنات المعنوية كما يقول علماء البلاغة ، يقول القزويني:" المطابقة وتسمى الطباق والتضاد : وهي الجمع بين المتضادين أي معنيين متقابلين في الجملة."35 وقد استغل مفدي هذه التقنية البلاغية في سياقات المدح تحقيقا لغايات معينة ، من ذلك قوله في مدح الملك المغربي:
ذُبْتَ في الشعبِ فارتضاكَ وليًّا *** ومضى للحياة خلفَ رِكابكْ
مذ تناسى الملوكُ حرمةَ شعبٍ *** ضيَّعوهُ ، لم تَنسهُ من حسابكْ36
يحدد الشاعر العلاقة بين الحسن الثاني وشعبه ، فهي علاقة اندماج وذوبان ، وقد أقام الشاعر تقابلا بين موقفين رآهما متناقضين ، موقف غيره من الملوك الآخرين ممن نسوا شعوبهم ، وموقفه هو الحافظ لشعبه وحرمته، ولا شك أنه مما ساعد الشاعر على إقامة هذا التقابل الطباق بين " تناسى" و" لم تنسه" وهو طباق سلب كما يسميه البلاغيون.
ويقول في مدح الأسرة الحاكمة في المغرب:
ولولا كفاحٌ ما مدحتُ "محمدا" *** ولا جئتُ بالآيات في الحسنِ الثاني
من العلويينَ الأماجدِ طهرتْ *** أرومتَهم في الكونِ أصلابُ عدنان
هما شَرَّفا مُلكا وما شَرُفَا به *** فشتانَ ما بين المحطِّم والباني37
إن الباعث للشاعر على مدح على الأسرة المالكة في المغرب كما يقول هو ما خاضوه من كفاح مرير من أجل حرية بلدهم وشعبهم، ولا عجب في ذلك فهم ينتمون إلى السلالة الشريفة من أصلاب عدنان ، ويلاحظ أن البيت الثالث اشتمل على طباقين: الأول بين"شَرَّفا" و"ما شَرُفا" وهو طباق سلب، والثاني بين "المحطِّم" و"الباني" وهو طباق إيجاب ، وفائدة هذين الطباقين إجراء مقارنة بين الأسرة المالكة المغربية وغيرها من الملوك الآخرين ، فهذه الأسرة هي التي شرَّفت المُلك وليس العكس، ومن هنا فإن الشاعر شبَّه عملها بالبناء ، في حين أن غيرها لا يرى في الملك إلا المغانم ، والنتيجة أن يكون سلوكه التحطيم والتخريب.
ويقول مخاطبا الحسن الثاني في مهرجان عيد العرش المغربي سنة 1962 :
ونزلتَ معركـــةَ الجلاء فلم تلن *** للغاصبينَ ولا أجَـرْتَ دخيلا
وحملتَ شعبكَ فوق تاجكَ عزَّةً *** فغدوتَ فيه الحاملَ المحمولا38
من الخصال التي يذكرها الشاعر في الملك المغربي أن موقفه كان حاسما مع المستعمرين الغاصبين فهو قد أجلاهم ولم يُبق منهم دخيلا ، ومن ذلك أيضا حمله لهموم شعبه. ويلاحظ أن الشاعر ضَمَّن البيت الثاني صفتين متضادتين وصف بهما الحسن الثاني وهما "الحامل" و"المحمول" ، ولعل تفسير ذلك أنه لما كان الملك حاملا لهموم شعبه ، بادله الشعب بما يستحق فحمله فوق الأعناق والرؤوس.
ويقول مخاطبا الرئيس التونسي:
ومهما ذرفتمْ عَبرةً فهي عِبرةٌ *** تنيرُ دياجينا إذا نحن أدلجْـنا
وألهمتَنَا وعيًا بمختلفِ اللُّغى *** وعن لغةِ العينينِ عنـكَ تعلّمْنا
وأنت العصيُّ الدمع إن حلَّ طارقٌ *** ألستَ الذي لا ترهبُ الإنسَ والجنَّا؟ 39
يعتبر الشاعر دموع الرئيس عبرة لمحبيه ، فهي تنير لهم دروب الحياة حين تنزل المصائب والخطوب، ولقد تعلموا منه ــ فيما تعلموا ــ مغزى هذه الدموع ودلالاتها. ولكن الشاعر يستدرك فيصف الممدوح بالعَصِيِّ الدمع في مواقف الحزم ، فهو الذي لا يرهب الإنس والجن. ولا شك أن بين وحدتي " الجن " و"الإنس" طباقا ، ولعل فائدته هنا تتمثل في المبالغة فالممدوح ليس يرهب الإنس وحدهم بل هو لا يرهب الجن أيضا، وإذا كان الأمر كذلك فهو لا يرهب شيئا في هذا الكون المشهود!
ويقول مخاطبا الممدوح في موضع آخر:
وفي مصرَ أكبادٌ تذوب صبابةً *** لخلاق شعبٍ شاد من عزمَه ركنا
فكم كنتَ في أحيائها ودروبِها *** تناشدُ في أحرارها العطفَ والعونا
فعدتَ تُوفِي الشكرَ شعبا محببا *** ترى كلَّ حـرٍّ في معاقلها خِـدنا
وأنتَ الوفيُّ الحبِّ إن كان صورةً *** لبعضهمُ قد كنتَ حقا لهُ معنى 40
يذكر الشاعر العلاقة الأخوية المتينة بين الشعبين التونسي والمصري ، وقد ترجم ذلك تضامن المصريين مع إخوانهم في كفاحهم ضد المستعمر، وها هو الرئيس يزور مصر إقرارا بذلك الفضل ووفاء لتلك العلاقة . ويغتنم الشاعر الفرصة ليشيد بهذه الصفة في الرئيس ، فإذا كان الوفاء في بعض الناس صورة شكلية فهو في "الحبيب" معنى مجسد . ولا شك أن الطباق بين وحدتي "صورة " و"معنى" هو ما أتاح للشاعر إجراء المقارنة بين الممدوح وغيره.
ويقول بمناسبة عيد الملك والشعب سنة 1971 :
أميرَ المؤمنين نظمتُ شعرا *** خطابَك مذ غمرتَ به جناني
خطابُكَ سيدي للشعب هديٌ *** تفيضُ به الصرامةُ بالحنانِ
وقصدُك حكمةٌ وسـدادُ رأي *** تفورُ به الحماسةُ في اتزانِ41
يشيد الشاعر بخطاب الملك فهو في نظره يجمع بين صفات " الصرامة / الحنان" و"الحماسة / الاتزان" ولا شك أن هذه الصفات وإن كانت في ظاهرها متناقضة إلا أنها ضرورية في شخص القائد ، فبعض الناس لا تصلحهم إلا الصرامة والبعض الآخر لا يصلحه إلا الحنان ، كما أن الخطاب لا يمكن أن يكون بليغا مؤثرا إلا إذا جمع بين مخاطبة العواطف والعقول إلا إذا جمع بين الحماسة والاتزان.
وبعد فعسى أن يكون هذا المقال قد ألقى الضوء على جانب خفيّ من شخصية الشاعر مفدي زكريا ، وهو الجانب المتعلق بغرض المدح لديه، فهذا الغرض لا يشكل جزءا قليلا من خطابه الشعري، بل هو يستغرق ديوانين كاملين من دواوينه بالإضافة إلى بعض القصائد في اللهب المقدس . ومفدي ــ كما يتبين لمن اطّلع على هذين الديوانين ــ ليس شاعرا يقول المدح في بعض الأحيان فحسب ، وإنما هو شاعر مدّاح من طراز كبار الشعراء المعروفين بهذا الغرض، ولعل تقنية المبالغة ــ بالإضافة إلى التقنيات الأخرى ـالمستعرضة في هذا المقال ــ أصدق دليل على ما ذهبنا إليه.
الإحالات والمراجع:
1 اللهب المقدس ص 322
2 كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري ، المكتبة العصرية صيدا ـ بيروت ، طبعة 2004 ص 365
1 تحت ظلال الزيتون ص 84 ـ 85
4 المصدر نفسه ص 96 ــ 97
5 من وحي الأطلس ص 92
6 المصدر نفسه ص 21
7 تحت ظلال الزيتون ص 132 ــ 133
8 المصدر نفسه ص 160
9 من وحي الأطلس ص 11
10 المصدر نفسه ص 24
11 المصدر نفسه ص 60
12 الإيضاح ص 545
13 من وحي الأطلس ص 30
14المصدر نفسه ص 82
15 المصدر نفسه ص 49
16 تحت ظلال الزيتون ص 148
17 من وحي الأطلس ص 214
18 البلاغة العربية، الميداني ج2 ص 485
19 أسرار البلاغة، عبد القاهرالجرجاني، تحقيق محمد الفاضلي ، المكتبة العصرية بيروت ، ط 2003 ص 12.
20 من وحي الأطلس ص 12
21 المصدر نفسه ص 55
22 المصدر نفسه ص 83
23 المصدر نفسه ص 94
24 تحت ظلال الزيتون ص 98
25 انظر جماليات الإنشاء الطلبي في الخطاب الشعري عند مفدي زكريا ، إبراهيم طبشي ص 127 وهي رسالة دكتوراه مخطوطة بمكتبة جامعة الجزائر2
26 تحت ظلال الزيتون ص 145
27 المصدر نفسه ص 147
28 العمدة ج 2 ص 46
29 البلاغة العربية ، الميداني ج1 ص 479
30 تحت ظلال الزيتون ص 148 ــ 149
31 من وحي الأطلس ص 154 ــ 155
32 المصدر نفسه ص 147
33 تحت ظلال الزيتون ص 56 ــ 57
34 المصدر نفسه ص 160 ـ 161
35 الإيضاح ص 495
36 من وحي الأطلس ص 37
37 المصدر نفسه ص 40
38 المصدر نفسه ص 49
39 تحت ظلال الزيتون ص 161
40 المصدر نفسه ص 150
41 من وحي الأطلس ص 78
د. إبراهيم طبشي: أستاذ محاضر- جامعة قاصدي مرباح ورقلة (الجزائر)