الأمير عبد القادر القائد الرائد: من قيادة المقاومة الوطنية في الجزائر إلى قيود الأسر في فرنسا (2)
بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-
لقد توالت وقائع الأمير وانتصاراته، وتعددت مفاخره وبطولاته، وكثرت مواجهاته وتضحياته، وطالت سنوات جهاده، وامتدت آماده . إلا أن موازين القوة بينه وبين أعدائه لم تكن متكافئة، فقد كان الفرنسيون يفوقونه عددا وعدة، بينما كان الشعب الجزائري يواجه هؤلاء المعتدين- وهو يئن تحت ثقل أعباء عهد طويل مليء بالأمراض الاجتماعية، والاضطرابات السياسية، فأضعفت هذه الأوضاع قدرات الأمير على الاستمرار في عملية الجهاد بالقدر الذي ظل يجود به طوال سبعة عشر عاما من الصراع والمواجهة والفداء.
فاستطاع العدو عقب ذلك أن يفتح ثغرة في خطوط دفاعات جيش الأمير ويتسلل منها ليخترق صفوفه ويستولي على مدينته الحربية المتنقلة (الزمالة) في (16 ماي 1843م) . إلا أن هذه الضربة الخطرة التي أصابت جيش الأمير لم تستطع أن تنال من عزيمة الأمير، فاستمر في كفاحه ونجح في تطويره والانتقال فيه من أسلوب حرب المواجهة المفتوحة إلى أسلوب حرب العصابات التي تقوم على المفاجأة والضربات الخاطفة المباغتة السريعة.
وفد وجد الأمير نفسه بذلك أمام ثلاثة خيارات :
1-الاستمرار في المواجهة
2- التوجه إلى داخل الصحراء
3– توقيف المقاومة والاستسلام.
فعزم الأمير أمام ذلك على أن ينظر في أمره لإيجاد مخرج منه، فجمع أهل العلم والرأي والمشورة من قومه، وأطلعهم على ما أمسى عليه حال كفاحه من جراء طوق الخناق الشديد المضروب حوله، الذي اشترك في صنعه الغاصبون بتفوق قدراتهم وتطور خططهم وساعدهم على ذلك الجيران الأقارب بتقاعسهم وتخاذلهم، وفي مثل يقول طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
فتم الاتفاق - برضى قومه- بينه وبين المحتلين الفرنسيين على أن يغادر هو ومن يشاء من أتباعه وخاصته أرض الوطن إلى مدينة الإسكندرية بمصر، أو مدينة عكا بفلسطين، ولم يكن الأمير قد أقدم على ذلك عن جبن أو تخاذل أو فرار من أرض المعركة، أو تراجع عن مبدأ الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، وإنما كان قد أقدم على ذلك عن حكمة وبصيرة، نتيجة عدم تكافؤ القوة بينه وبين المعتدين و تقاعس الأقارب عن مناصرته.
لقد مر الأمير في هذه المرحلة الثالثة من حياته( 1848- 1883م) بمحطات ثلاث :
1- المحطة الأولى ( 1848-1852م) قضاها أسيرا في سجون فرنسا.
2- المحطة الثانية (1852- 1855م) قضاها بمدينة (بروسة) بتركيا.
3- المحطة الثالثة (1855- 1883م) قضاها مقيما بدمشق الشام .
سار الأمير (يوم 23ديسمبر1847م) في بداية المحطة الأولى بمعية أهله وخاصته من جامع الغزوات إلى المرسى الكبير بمدينة وهران، والناس من حوله يبكون وينتحبون فركب البارجة الحربية قاصدا : الإسكندرية أو عكا . إلا أن هذه البارجة قد انحرفت عن قصدها فأرست في ميناء طولون بفرنسا في الفاتح من جانفي 1848م). فاستاء الأمير لهذه الخديعة، واشتد غيظه وتفاقم كمده، وكاتب المحتلين مستنكرا عليهم خداعهم، ولكنهم ظلوا-كدأبهم- ينكثون المواثيق ولا ينفكون يختلقون الأعذار الواهية والمبررات الكاذبة؟
فحاولوا - عبثا- أن يهدؤوا من روعه، فعرضوا عليه الإقامة في فرنسا، فرفض ذلك فأقدموا على نقله (يوم 21 أفريل 1848م) إلى مدينة(بو) ثم( أمبواز) فقضى في هذه الأخيرة حوالي خمسة سنين أسيرا بسجنها.
وقد قام بعد هذه المدة الطويلة من سجن الأمير رئيس الجمهورية الفرنسية لويس نابليون الثالث بفك أسره (يوم 16 أكتوبر 1852م)، فنقل إلى (إسطمبول) عاصمة تركيا. (يوم الجمعة 07 جانفي 1853م)، ومنها إلى جزيرة (بروسة) بتركيا نفسها فأقام بها مؤقتا (من 1853-1855م)، فأقبل فيها على العبادة والذكر والمطالعة وفعل الخير.
ثم انتقل الأمير إلى سورية (1855م) ليقضى بدمشق بقية حياته، إلى وفاته 1883م. وكان له بالشام جهود علمية ونشاطات اجتماعية ، ومواقف إنسانية تاريخية، ومما يسجل له من ذلك : موقفه من الفتنة الطائفية التي نشبت بين المسيحيين والمسلمين في لبنان وسوريا 1860م، وسعيه بدافع شعوره بالواجب الشرعي لإطفاء نار هذه الفتنة، وقيامه بحماية المسيحيين، وإنقاذهم وإيوائهم تحت جناحه .
وقد زار الأمير في هذه المرحلة من حياته (1862م) بيت المقدس الشريف، وبعض المدن السورية، ومدينة الإسكندرية ثم جدة فمكة المكرمة، فحج واعتمر للمرة الثالثة، ثم سافر إلى المدينة المنورة، فزار بها مقام الرسول صلى الله عليه وسلم .
وفي سنة (1865م) توجه الأمير إلى إسطمبول مرة أخرى، ومنها قصد باريس فلندن . ثم سافر في سنة(1869م) إلى مصر تلبية لدعوة وجهت إليه لحضور حفل افتتاح قناة السويس.