الأمير عبد القادر القائد الرائد: من مجالس العلم إلى ميادين الجهاد(1)

بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-

تأتي هذه الكلمة من وحي ذكرى إحياء جهاد الأمير عبد القادر - بطل الثورة الجزائرية الرائدة، وقائد المقاومة الوطنية الذائدة، وأحد أبرز عظماء الأمة في العصر الحديث- في حياتنا، واقتداء بسيرته في سلوكنا، وترسيخا لمفاخره في ذاكرتنا، ليكون من ذلك لأجيال أمتنا المرجعية الأساسية في عملية إحياء أمجاد الماضي، وبناء صرح الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل... 

لقد كانت الجزائر تعيش في أواخر العهد العثماني- كغيرها من بلاد العالم العربي والإسلامي ظاهرة التخلف الحضاري الموروث عن عصر الضعف. وفي هذا الوقت وفي الضفة المقابلة، كانت بلاد الغرب الأوربي قد دخلت عصر النهضة الحديثة، وطفقت تكسب بعض أسباب القوة : من علم ونظام وصناعة وعمران، فكانت هذه المفارقة ما بين الشرق والغرب من بين أبرز العوامل التي شجعت الفرنسيين على أن يوجهوا أنظارهم نحو الجزائر طمعا في خيرات أراضيها، والاسترزاق من (قمحها وشعيرها) وغيرهما من غلال حقول سهولها وجبالها وصحاريها، ورغبة في الاستجمام بجمال مناخها، والاستمتاع بإشراقة شمسها وزرقة سمائها. فأقدموا سنة 1830م، على احتلالها احتلالا استيطانيا : اجتماعيا واقتصاديا، لغويا وثقافيا وحضاريا ... 

وما كان من الشعب الجزائري الأبي عقب هذه الحملة الصليبية الجديدة إلا أن تنادى للجهاد ، فوحد صفوفه وجمع أمره وبايع الأمير عبد القادر العالم المجاهد والزعيم الرائد  والبطل القائد للمقاومة الوطنية ضد المحتلين ، فسارع الأمير  إلى تحمل هذه المسؤولية والنهوض بها  على أحسن ما يرام

وقد مر  الأمير خلال حياته بثلاث مراحل هي :

1- المرحلة الأولى (1807- 1830م) وتغطي فترة  النشأة والتكوين .

2- المرحلة الثانية ( 1830-1847م)  قضاها الأمير قائدا للمقاومة الوطنية .

3- المرحلة الثالثة( 1848- 1883) قضاها الأمير المجاهد أسيرا في سجون فرنسا، ثم مقيما مؤقتا في بروسة بتركيا، وأخيرا مقيما دائما في دمشق الشام

ولد الأمير ببلدة (القيطنة) قرب مدينة (معسكر )بالغرب الجزائري  يوم الجعة (23رجب 1222 هـ /26 سبتمبر 1807م) 
نشأ في أسرة متدينة تحت رعاية والده الشيخ محيي الدين بن مصطفى الذي كان عالما متدينا صوفيا تقيا مقدما للطريقة القادرية ومؤسسا لزاويتها بالقيطنة

استهل الأمير  تعلمه في (الكتاب ) بالزاوية القادرية ببلدته القيطنة فحفظ القرآن الكريم وهو في  السنة الرابعة عشر  من عمره، وتلقى بعض المبادئ من العلوم الدينية واللغوية وغيرها . ثم انتقل إلى مدينة (أرزيو ) فدرس على قاضيها الشيخ أحمد بن الطاهر . ومنها سافر إلى مدينة وهران فدرس على الشيخ أحمد بن خوجة ، بيد أنه لم يلبث بهذه المدينة إلا سنة واحدة رجع بعدها إلى بلدته 1823م . ثم واصل عملية الطلب هذه من بعد، في عدد من بلاد المشرق التي زارها خلال رحلته إلى البقاع المقدسة بالحجاز، صحبة والده   (1825م) لأداء فريضة الحج، وقد زار خلالها (تونس ومصر والشام والعراق) وغيرها. فالتقى ببعض علماء هذه البلاد وأفاد من علمهم .
ثم غادر الأمير ووالده بلاد الشرق عائدين إلى أرض الوطن، فقصدا- وهما في هذا الطريق- البقاع المقدسة فأديا بها فريضة الحج للمرة الثانية، ثم واصلا سيرهما إلى الجزائر عبر القاهرة فليبيا فتونس حتى نزلا ببلدتهما القيطنة 1828م
انتقل الأمير في المرحلة الثانية من حياته (1832-1847م)، في أعقاب الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830م) من طلب العلم إلى قيادة المقاومة الوطنية ضد المحتلين الفرنسيين  .

وكان الشعب الجزائري قد تنادى على إثر تلك الحملة الصليبية الجديدة في العصر الحديث لتنظيم عملية الجهاد ضد الغزاة  الفرنسيين، واجتمعت كلمة العلماء وعلية القوم ورؤساء القبائل على القيام بهذه المهمة، فرأوا أن يتقدموا من أحد علمائهم : والد الأمير الشيخ محي الدين يطلبون منه أن يقودهم في هذه المواجهة، وكان رجل علم ودين وحكمة وتدبير، فأدرك من خلال مقابلته ما بين ما تتطلبه هذه المهمة ممن ينهض بها من استعداد نفسي وقوة بدنية وكفاءة عقلية وقدرة متميزة، وبين إمكاناته الذاتية وهو شيخ كبير أن يقدم اعتذاره لأهل الرأي والمشورة من أفراد شعبه على عدم قدرته على القيام بهذه المسؤولية، واقترح عليهم ولده الأمير للقيام بها، وكان يومئذ في مقتبل العمر (23 سنة) شابا يافعا، متدينا متعلما، متحليا بالفضائل، مكتملا في صحته الجسمية، كريما شجاعا، متمرسا بأساليب الفروسية، وغير ذلك مما تقتضيه الإمارة من الخصائص الدينية والعلمية والخلقية والخِلقية، مما جعل والده يرى أنه مستكمل ما تستوجبه الإمارة من شروط، فتقدم الجماعة من الأمير وعرضوا عليه رغبتهم بأن يكون قائدهم في عملية الجهاد ضد المحتلين، فاستجاب الأمير لطلبهم وقبل دعوتهم وهو يقدر حق التقدير خطورة مسؤوليتها.  

فتمت البيعة الأولى للأمير في مدينة (معسكر) بتاريخ 27نوفمبر1832 .

ثم كانت البيعة الثانية في:(14 فيفري 1833م).

سارع الأمير فشكل حكومته، ثم شرع في وضع أسس الدولة الجزائرية الحديثة

ثم انطلق على رأس المقاومة الوطنية يجوب أرجاء البلاد غربا وشرقا، جنوبا وشمالا، يختبر أحوال الرعية، ويتدبر أمورها، وينظم شؤونها، ويتفقد حاجياتها، ويعمل على رفع معنويات الشعب، ويجمع كلمته، ويوحد صفوفه، ويحثه على الثبات والصمود،  ويحضه على المحافظة على وحدته الوطنية. وما لبث الأمير أن نظم ضد فلول المعتدين سلسلة من الهجومات والمعارك، وتوالت على هذا النهج غزواته وتعددت معاركه ومن أولها : معركة خنق النطاح التي أرخ الأمير لها وصور شجاعته وبطولته فيها،  ومن ذلك قوله :         

ألم ترى في خنق النطاح نطاحنا                 غداة التقينا كم شجاع لهم لـوى؟
        
وكم هامة ذاك النهار قددتها              بحد حسامي والقنا طعنــه شوى ؟
        
وأشقر تحتي كلمته رماحهـم                        ثمان ولم يشك الجوى بل وما التوى
        
شددت عليهم شدة هاشمـية                      وقد وردوا ورد المنايا  على الغـوى
      
ومازلت أرميهم بكل مهنـد                  وكل جواد همه الكر لا الشـوى (ديوانه29)

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.