الشيخ محمد الصالح رمضان
بقلم: محمد الأمين فضيل-
لقد كنت منذ صغري مولَعا بمطالعة كلما له صلة بالجزائر وتاريخها وعلمائها، ولعل من أسباب هذا الاهتمام:
- معرفة الوالد "عبد القادر فضيل" حفظه الله لكثير من أعلام الفكر والثقافة بالجزائر وحديثه لي عنهم.
- مكتبة الوالد التي نشأت بين كتبها واحتواؤها على عدد لا بأس به من كتب أعلام الجزائر وتاريخها.
- مشاركتي في مسابقة رمضان التي كانت تنظمها وزارة الشؤون الدينية وكان من بين أسئلتها أسئلة كثيرة تتعلق بتاريخ الجزائر وعلمائها. ورغم أني حصلت مرة واحدة فقط على جائزتها (وكانت لي الرتبة السادسة على ما أذكر) وكان ذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة، لكني استفدت منها فوائد علمية لا تقدر بثمن فقد دفعتني للمطالعة النافعة والبحث العلمي الهادف ...
وأذكر هنا أمرا قد يجهله كثير من الشباب اليوم وهو أن الذي كان يكتب أسئلتها ويصوغها في قالب سجعي جميل هو الشيخ أحمد حماني رحمه الله.
ومن بين تلك الكتب التي بدأت مطالعتها وأنا صغير السن، كتاب "العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية" وهي دروس في العقيدة كان الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله يمليها على تلاميذه، وحينها قرأت اسم الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله لأول مرة إذ كان الشيخ رمضان أول من نشر هذه الإملاءات وبثها في الناس. وقرأت المقدمة التي كتبها الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله وفيها الثناء العاطر على الشيخ.
وتمر الأيام والسنون ثم أسكن منطقة القبة التي يسكن فيها الشيخ وذلك منذ قرابة العشرين سنة. فرأيت الشيخ لأول مرة وكان الوالد يتردد عليه في بيته وكان هو أيضا يأتينا خاصة أنهما كانا آنذاك يعملان سويا في وزارة الثقافة أيام تولي الأستاذ العربي دماغ العتروس لها.
عند ذاك عزمت على الاتصال بالشيخ والاستفادة منه لكن الحياء والهيبة كانا يمنعانني، لكن لم ألبث أن تغلبت على هذه الموانع، وبدأت أتردد على الشيخ في بيته بمفردي فوجدت منه كل الترحيب والعطف وقد أكرمني غاية التكريم حتى صار يعتبرني بمثابة أحد أبنائه.
لذلك أرى أنه من واجبي أن أذكر شيئا من مناقب هذا الشيخ وفضائله قياما ببعض حقه علي.
نشأته وتعليمه بالقنطرة
ولد الشيخ محمد الصالح رمضان بمدينة القنطرة ونشأ بها وفيها تلقى مبادئ العلم الأولية. ومدينة القنطرة تقع في جنوب الجزائر تتوسط الطريق بين مدينتي باتنة وبسكرة، وقد سماها الفرنسيون "باب الصحراء".
ويذكر الشيخ أن عائلة سلطاني كانت تحتل الصدارة من الناحية العلمية بالقنطرة. فكان منها الشيخ عبد اللطيف سلطاني رحمه الله وهو لأشهر من أن يُعرّف به فقد عرفه أبناء الصحوة في الجزائر داعيا إلى الله على بصيرة صادعا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم. وقد درس عليه الشيخ رمضان شيئا من القرآن في صباه المبكر، وكان الشيخ عبد اللطيف لمّا يلتحق بعد بجامع الزيتونة، فكلفه جد الشيخ رمضان أن يعلم الصبيان القرآن ريثما يسافر للدراسة في الزيتونة. يقول الشيخ رمضان: كان الشيخ عبد اللطيف شديدا مع التلاميذ...
ومن هذه العائلة أيضا الشيخ الأمين سلطاني الأخ الأكبر للشيخ عبد اللطيف وهو أيضا متخرج من جامع الزيتونة، وكان شيخ القنطرة في زمانه محبوبا من طرف الجميع مسموع الكلمة لين الجانب، تنتهي عنده كل مشكلات القرية ولا يسمع بها أحد. يقول الشيخ رمضان: "أنا عرفت كثيرا من رجال جمعية العلماء لكن ثلاثة منهم لم أر مثلهم في الجمع بين التحصيل العلمي والتقى والصلاح وحسن معاملة الناس واللطف بهم، وهم الأمين سلطاني ومحمد العيد آل خليفة والطاهر ساحلي".
وقد تلقى الشيخ رمضان مبادئ العلم الأولية على الشيخ الأمين سلطاني وبقي يكن له كل الاحترام والتقدير إلى غاية وفاته رحمه الله.
ومما يبين مكانة هذا الشيخ (أي الأمين سلطاني) أن الشيخ رمضان شكى إليه مرة أن شيوخ الجمعية وعلى رأسهم الشيخ ابن باديس لا يزورون القنطرة ويزورون غيرها من المدن، فما سبب هذا؟ فكان الشيخ الأمين يعتذر لهم بكثرة المشاغل... فلم يقتنع شيخنا رمضان بهذا الكلام.
وفي يوم من الأيام سمعوا بأن مشايخ الجمعية سيأتون لزيارة البلدة، فرسم الشيخ رمضان رسما جميلا يصور مدخل القنطرة وكتب تحته عتابا للمشايخ عن عدم زيارتهم للقنطرة... فلما قدم الشيخ ابن باديس ومن معه ورأوا الرسم وقرأوا ما تحته، ذكر الشيخ ابن باديس سبب عدم زيارتهم وهو أن القنطرة بلدة ليس فيها مشكلات ولا تصلنا منها شكاوى كما هو الحال في بلدات أخرى نضطر للتنقل أحيانا لحل النزاعات وتهدئة الأجواء، فالقنطرة بلدة هادئة ليس فيها مشكلات وذلك بفضل الله ثم بفضل جهد الشيخ الأمين سلطاني رحمه الله.
ومن هذه العائلة الشيخ علي سلطاني والد الشيخين وهذا لم يدركه الشيخ رمضان، لكنه سمع عن علمه وفضله. يقول الشيخ رمضان: "وأبوهما (أي الأمين وعبد اللطيف سلطاني) شيخ كبير من أهل العلم درس على كبار أهل العلم في مدينة نفطة بالجنوب التونسي وذلك في زاوية الشيخ بن عزوز على الشيخ المصطفى بن عزوز والد الشيخ محمد المكي بن عزوز".
ومن فضائل الشيخ علي سلطاني أن الشيخ محمد المكي بن عزوز رحمه الله رحل من الأستانة حيث كان يقيم طلبا لرواية حديث عن أبيه المصطفى بالسند المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقدم إلى نفطة حيث زاوية والده يبحث عن تلاميذه، فقالوا له لم يبق من تلاميذه إلا واحد يدعى علي القنطري بالجنوب الجزائري، فأتى إلى مدينة القنطرة والتقى بالشيخ علي سلطاني وروى الحديث سماعا من الشيخ علي عن والده المصطفى إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد استمرت علاقة الشيخ رمضان بالشيخ عبد اللطيف إلى غاية وفاته خحاصة أنهما كانا يسكنان نفس المنطقة أي القبة.
ولما توفي الشيخ الأمين تغيرت القنطرة وتغيرت طباع الناس فيها وبدأ الناس يبتعدون عن الأخلاق الإسلامية قال الشيخ رمضان للشيخ عبد اللطيف: لم لا تعود إلى القنطرة وتقوم بواجبك في الدعوة إلى الله وتعليم الناس أمور دينهم كما كان أبوك من قبل ثم أخوك ؟ أجاب الشيخ عبد اللطيف: أنت تعلم أنه ليست لي مكانة أخي في حب أهل القنطرة وتقديرهم له.
بيت الشيخ رمضان مفتوح للشباب والباحثين وطلبة العلم
كان الشيخ رحمه الله يستقبل كل من يقصده مستفيدا سواء عرفه أم لم يعرفه، فبيته مفتوح للجميع. وكان متواضعا مع جلسائه يُلين الخطاب لهم ويزيل الكلفة التي قد تطرأ بينه وبينهم. وكان الشيخ يحب الشباب المتدين ويرى أنهم الأقرب لفهم مبادئ جمعية العلماء.
وكان الشيخ يجيب عن الأسئلة التي تُلقى عليه ويستطرد في الإجابة حتى ينتقل من موضوع لآخر دون أن يشعر وينسى السؤال الذي طُرح عليه أوّلاً، وكان كثيرا ما يشكو من هذا الشرود الذهني الذي أتاه على كبر ويقول للسائل إذا رأيتني خرجت عن الموضوع فردني إليه. أما أنا شخصيا فكنت أستحي أن أقاطعه وأدعه يتحدث وكنت أجد في ذلك الاستطراد الفوائد الغزيرة والعلم الجم.
وقد حدثني أن الشيخ محمد العيد آل خليفة رحمه الله كان يشكو من الشرود الذهني وكان يقول للشيخ رمضان ستفهم هذا الأمر إذا بلغت الكبر، ثم قال الشيخ رمضان: فأنا الآن فهمت ما كان يقع للشيخ محمد العيد.
والشيخ رحمه الله من الشخصيات التي تُحسن التحدث عن الماضي وسرد الوقائع مرتبة مفصلة كأنها عقد منتظم. وكم كنت أتمنى لو سجّلَتْ معه قناة المجد لقاءً في برنامج "صفحات من حياتي" ولو فعلت لشاهد المشارقة عجبا من حسن العرض وفصاحة اللغة وكثرة الفوائد.
وكان الشيخ رمضان كثير الإعارة لكتبه لمن يعرف ولمن لا يعرف ويكتفي بتسجيل تلك الإعارة في كناش صغير لديه، وضاعت له بسبب ذلك كتب كثيرة ووثائق مهمة، ورغم ذلك بقي على منهجه لا يستطيع أن يرفض طلب مستعير ويرى ذلك من كتم العلم. وهو في هذا الأمر مختلف عن كثير ممن ينتسب إلى العلم في بلدنا فأكثرهم لا يمكن أن تطمع في زيارة مكتباتهم فضلا عن أن تستعير منها.
وأذكر أني كنت أستعير منه جرائد جمعية العلماء الشهاب والبصائر والسنة والصراط قبل أن تطبع وكانت حينذاك كنزا لا يقدر بثمن، وكان الحصول عليها من الصعوبة بمكان.
وذات مرة قدمت له خدمة بسيطة لا تكاد تُذكر فأصر أن يدفع لي مبلغ ماليا فرفضت، ولما رأيت إصراره قلت له مداعبا: أريد ثمنا من نوع آخر، فقال: ما تريد؟ قلت: أريد الكتب، فأجاب رحمه الله: وما المانع: تأخذ هذا وهذا.
ومرة أخرى وجدت عنده أعدادا مكررة من مجلة الشهاب التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس وكان ذلك قبل أن تطبعها دار الغرب الإسلامي. فهممت أن أطلبها منه، ثم ترددت، وأخيرا تشجعت وطلبتها منه، فلم يجبني. وبعد أيام قدم إلى بيتي ومعه المجموعة فوهبها لي قائلا: لقد طلبها مني الشيخ علي المغربي لكني فضلت أن أعطيها لك... وكم كان فرحي كبيرا بهذه الأعداد التي لم يكن لي سبيل آخر للحصول عليها...
إنصاف الشيخ وعدله في أحكامه على الأشخاص
من مميزات الشيخ رمضان إنصافه في أحكامه على الأشخاص، فإذا رأى من أحدهم خطأ لم يحمله ذلك على نسيان فضائله. وظهر ذلك جليا في رده على الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله عند تأليفه لكتاب: "حياة كفاح".
وكان الشيخ رحمه الله أول من رد على الأستاذ توفيق في سلسلة مقالات عنوانها: "من غربل الناس نخلوه" وكان رده قويا شديدا، ومع ذلك قدم لهذه المقالات بمقدمة تُنصف الرجل وتبين فضله:
"الأستاذ أحمد توفيق المدني علم من أعلام الثقافة والصحافة في مغربنا العربي بالخصوص، لا يكاد يجهله أحد من القراء والمثقفين، معروف بكثرة إنتاجه، ووفرة نشاطه في ميادين مختلفة. وهو من الرواد الذين رافقوا سير الحركات السياسية والثقافية والدينية في شمالنا الإفريقي، له أسلوب أدبي مشرق يمتاز بالسلاسة والسهولة، لا تعقيد فيه ولا إبهام ولا غموض".
وقد أنكر الشيخ رمضان على الأستاذ محمد الطاهر فضلاء رحمه الله حذفه لهذه المقدمة لما نقل مقالاته في كتابه "التحريف والتزييف في كتاب حياة كفاح"...(انظر صفحة 301 من كتاب "التحريف والتزييف")، لأن خلاصة رأي الشيخ رمضان أن كُتبَ الأستاذ توفيق المدني الأخرى نافعة ومفيدة ما عدا هذا الكتاب "حياة كفاح" فلم يرض الشيخ أن يُساء فهم كلامه ويسقط الأستاذ توفيق المدني بالكلية.
وعندما عقدت وزارة الشؤون الدينية ندوة تاريخية لمناقشة هذا الكتاب في المركز الثقافي الإسلامي يوم الأحد 8 جمادى الأولى 1398 هـ (16 أفريل 1978 م) رفض الشيخ أن يتكلم وأن يرد على الأستاذ المدني، واستعظم الأمر: شيخ كبير في السن وله سابقة في الفضل وكان عضوا إداريا في جمعية العلماء يحاكم بتلك الطريقة المزرية.
وكذلك إنصافه للشيخ الطيب العقبي رحمه الله حينما اتهمه بعضهم بأنه تخلى عن مبادئ الجمعية ووالى الطرقيين في آخر حياته، قال الشيخ رمضان: إن الشيخ الطيب العقبي ضعف سياسيا بسبب ما وقع له من سجن وبلاء أما دينيا فلا وقد بقي وفيا لمبادئ جمعية العلماء.
تواضع الشيخ رمضان
لم يكن الشيخ رمضان ممن يحب الألقاب الكبيرة، فكان يكره أن يوصف بالعلاّمة. وكان يقول: أنا مثقف عادي بسيط درست بضع سنوات على الشيخ ابن باديس.
وكان إذا زاره أحد إخواننا من طلبة العلم يجلس متأدبا خجولا لا يكاد يرفع رأسه، فيبادره الشيخ: هوّن عليك وارفع الكلفة فما أنا إلا رجل عادي بسيط.
وذات مرة كتب أحد الناشرين تعريفا به على غلاف الكتاب وذكر أنه درس في جامع الزيتونة فغضب الشيخ وصار يشطب هذا الوصف حين إهدائه للكتاب وقال لي: "أنا ما درست في الزيتونة ولا في الرمانة".....
عند ذاك ذكرت له قصة مشابهة نُقلت لي وهي أن الشيخ عبد الرحمن الجيلالي حفظه الله سئل: "أدرست في الزيتونة؟" فأجاب: "أنا ما درست في الزيتونة ولا في الكرموسة بل درست في الجامع الكبير " فضحك الشيخ رمضان حينما ذكرت له هذه الواقعة. (الكرموسة هي شجرة التين عندنا).
وكان الشيخ لا يحب أن يستفتى في المسائل الشرعية، وحينما أحال عليه أحد إخواننا سائلا غضب وطلب منه أن لا يعيد ذلك مرة أخرى.
الشيخ محمد الصالح رمضان والشعر
يقول الشيخ رمضان: "لا أستطيع أن أصف نفسي بالكاتب أو الشاعر"، ويقول أنه لا يقارن بشعراء الجزائر الكبار كمحمد العيد وسحنون، لكن كانت له محاولات شعرية جيدة تدل على ذوق أدبي رفيع. وقد نظم الشيخ مجموعة من الأناشيد الكشفية نشرت في كتاب "ألحان الفتوة".
وقد بدأ الشيخ رمضان أولى محاولاته لنظم الشعر في قسنطينة أيام الدراسة على الشيخ ابن باديس، وكان لأستاذه حمزة بوكوشة دور لا بأس به في تنمية ذوقه الأدبي وفي تشجيعه إلى نظم الشعر. وكان الشيخ رمضان يتردد على أستاذه الشيخ حمزة في بيته ويتبادل معه أحاديث في ميادين الأدب والشعر، ونشأت بينهما منذ ذلك الحين صداقة حميمة انتهت بزواج ابنة الشيخ رمضان الكبرى سكينة من بشير ابن الشيخ حمزة (وقد توفوا جميعا رحمهم الله).
وذات مرة كتب الشيخ رمضان قصيدة وعرضها على شيخه حمزة ليُبدي رأيه فيها وملاحظاته عليها، وكان كلما يسأله عنها يعتذر بالأشغال والتعليم.
وفي يوم من الأيام جاء بعض زملاء رمضان قائلين له: "نُهنئك على النبوغ"، فظنهم يستهزؤون به، وقال: ما الأمر؟ قالوا: قرأنا لك قصيدة في الشهاب، قال: لكني لم أبعث بأي قصيدة للشهاب، فقرأوا عليه القصيدة، فقال: نعم هي لي ولكني لم أرسل بها إلى الشهاب...
وفهم أن الشيخ حمزة كان يريد أن يفاجئه بهذا النشر ليدفعه إلى الأمام ويحثه على عدم التردد والمبادرة بنشر ما يراه صالحا.
والقصيدة بعنوان: "يا للعجب ما للعرب" وهي منشورة في مجلة الشهاب، الجزء الثاني من المجلد 13 بتاريخ 1 صغر 1356 هـ - 13 أفريل 1937 م.
كان الشيخ الأمين سلطاني يُحيي المناسبات بتكليف طلابه القدماء بإلقاء كلمات أو قصائد.
وفي مناسبة عيد الأضحى ألقى الشيخ رمضان قصيدة بمناسبة أحداث دامية كانت وقعت في بسكرة في تلك الأيام راح ضحيتها مسلمون جزائريون. وكانت القصيدة بعنوان: "الأضحى والتضحية" (أو هو الدم ما أدراك ما الدم يافتى).
فأرسل الشيخ الأمين القصيدة إلى الشهاب فُنشرت في الجزء 12 من المجلد 13 بتاريخ ذي الحجة 1356 هـ - فيفري 1938 م.
ثم أرسل الشيخ رمضان إلى شيخه ابن باديس رسالة يُهنئه فيها بالعيد وذكر له فيها ثلاثة أبيات من القصيدة:
هنيئا لكم بالعيد إذ عاد بالدما * تراق على حق لنا وعلى الحما
هو العيد عيد النحر قد نحرت له * نفوس أبيّات أبين المظالمـــا
هنيئا وبشرى للجزائر كلهــا * بمستقبل سعد أغر وأفخمـــا
فلما عاد من الشيخ من الإجازة واستقبله الشيخ ابن باديس (وكان من عادته أن يتسقبل الطلبة العائدين ويسجلهم كما هو الشأن في الطلبة الجدد) قال له: أما وجدت ما تهنئني به غير ذكر الموت؟ فقال له رمضان: لأني رأيت في الموت حياة، فقال ابن باديس: بورك فيك يا بني.
وكان الشيخ رمضان مُعجبا بشعر الشاعر القروي رشيد الخوري. وهذا الشاعر وإن كان نصرانيا فله أبيات جيدة في الثناء على الإسلام، ومنها بيت كان الشيخ رمضان كثيرا ما يردده:
إذا حاولت رفع الضيم فاضرب * بسيف محمد واهجر يسوعا
ومنها بيتان كنت قرأتهما قديما في الرد على دعاة الفرعونية:
من يبك عهد الموامي والدُّمى فأنا * والحمد لله قد حطّمتُ أصنامــي
ملأت قلبي بحب المصطفى وغدت * عروبتي مثلي الأعلى وإسلامي
فلعله أسلم في آخر حياته .....
الشيخ محمد الصالح رمضان والتعليم
كان الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله يفتخر بأنه كان معلما ناجحا، وقد شهد له بذلك كل من عرفه. وقد قضى شطرا كبيرا من حياته في التعليم وأحيل على التقاعد وهو معلم في ثانوية حسيبة بن بوعلي بالجزائر العاصمة.
وكانت بداية الشيخ في مجال التعليم عندما اختاره الشيخ ابن باديس رحمه الله ليكون معلما في مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة وهو ما يزال يتتلمذ عليه. وكان الباعث على ذلك الاختيار أن الشيخ أبا بكر الأغواطي انتقل إلى مركز جمعية العلماء بالجزائر العاصمة فبقي مكانه في المدرسة شاغرا.
ولما طلب الشيخ ابن باديس من تلميذه رمضان أن يغلم في المدرسة رفض قائلا: أنا جئت من بلدي لأتعلم لا لأعلم... فأجابه الشيخ ابن باديس: وما المانع أن تعلم وتتعلم؟ فقال: ليست لي دراية بأساليب التعليم وطرائقه، فطمأنه الشيخ ابن باديس بأنه سيعينه... ولما رأى الشيخ ابن باديس تردده أخبره بأن الجمعية تنوي أن ترسل بمجموعة من الطلبة إلى المشرق ليتموا تعليمهم وأنه في هذه القائمة... فأعجب الشيخ رمضان بهذا وبدأ التعليم في مدرسة التربية والتعليم كما أنه صار بعد ذلك من الأساتذة المساعدين لابن باديس في تعليم الكبار في مسجد بومعزة.
وقد بذل الشيخ جهودا كبيرة في تطوير التعليم بالمدرسة، وها هو الشيخ يصف عمله في التعليم:
"فقد كنت بدأت التعليم في مدرسة التربية و التعليم بقسنطينة في سنة 1937 م، وكانت صلتي بمدير المدرسة الشيخ سعيد بن حافظ وثيقة ومهمة، فقد كان يرى أني أحسن معلم في مدرسته، وكان ينقلني مع تلاميذي الناجحين من فصلي إلى السنة الموالية كل عام. وكنت أجهد نفسي في إعداد دروسي في مواد لم تكن مستعملة في المدرسة كالتاريخ والجغرافيا ودروس الأشياء والمحادثة لأني الوحيد في تلك المدرسة الذي عرف التعليم العصري في المدرسة الفرنسية. وكنت أستعمل المناداة وأسجل التخلفات وأخبر الأولياء بتخلف أبنائهم، وكان المدير يأخذ عني هذه المستجدات في مدرسته ويعممها على الفصول. والمدارس الحرة في ذلك الوقت لم تكن لها برامج موحدة تسير عليها بل لم تكن لها أي صلات بينها بل كانت كل مدرسة تجتهد وحدها فيما تقدم لتلاميذها .....
واغتنمت حسن ظن المدير بي في طرق التعليم وأساليبه فاقترحت عليه طلب عدد من معلمي الفرنسية الجزائريين المتخرجين من مدارس تكوين المعلمين ليبصرونا بطرق التعليم وكيفيات الامتحان والتنقل من سنة إلى أخرى، والمواد المطلوب تدريسها في كل سنة وغير ذلك من شؤون التعليم. وبدأنا العمل معهم في ندوات دراسية أسبوعية. وطلبت أن تكون بداية عملهم معي أنا في الاطلاع على كيفية تعليم كل مادة في فصلي مع تلاميذي بحضورهم وحضور معلمي مدرستنا والسيد المدير. ثم يسرح التلاميذ ويجتمع العلمون بعد ذلك لسماع ملاحظات معلمي الفرنسية على درسي وتقديم اقتراحاتهم على تحسين الطريقة واتباع الطريقة المثلى في تلك المادة.... وكان في ذلك تمهيد وتأهيل لبقية المعلمين للقيام بالتعليم العصري الذي جهلوه وبذلك تحسن التعليم في هذه المدرسة وصارت بحق أم المدارس وأحسنها إنتاجا وتعليما والحمد لله" .
مشاركة الشيخ رمضان في الثورة التحريرية المباركة:
شارك الشيخ رمضان رحمه الله في الثورة المباركة عضوا في المحكمة المدنية التابعة لجبهة التحرير الوطني في العاصمة الجزائرية، إضافة إلى كونه صندوق بريد للولاية الثانية "قسنطينة" ثم للولاية السادسة "الصحراء"
كان الشيخ حينها يسكن في منزل الأستاذ "الامين دباغين" وهو مسؤول سياسي معروف، ولذلك كان بيته مراقبا فعانى الشيخ من ذلك كثيرا فاقتحم البيت وفُتّش واقتيد الشيخ للمساءلة مرات...
ولم يمنعه نشاطه ذلك من مواصلة عمله في الإدارة والتعليم بالمدارس الحرة (أما التفتيش فقد توقف نتظرا للوضع الأمني الخطير)، فكان مديرا بمدرسة سلام باي (المدنية حاليا) ثم بمدرسة بلكور.
عمل الشيخ في الاستقلال:
أول عمل قام به الشيخ في الاستقلال هو إدارة التعليم الديني التابع لوزارة الأوقاف وقد اختاره لذلك الأستاذ أحمد توفيق المدني رحمه الله وهو أول وزير للأوقاف في الجزائر المستقلة.
وفي عهده أسست المعاهد الإسلامية التي صارت تعرف فيما بعد بثانويات التعليم الأصلي وهي معاهد تجمع بين تعليم العلوم الشرعية والعلوم الحديثة من رياضيات وفيزياء وغيرها. وقد جُلب لها أساتذة من الأزهر، وسافر الشيخ رمضان لهذا الغرض إلى مصر مع الأستاذ أحمد توفيق المدني والتقى الشيخ بوزير الأوقاف المصري آنذاك الدكتور محمد البهي رحمه الله وحدثه عن الشيخ ابن باديس فأعجب الدكتور البهي بشخصية ابن باديس وكان من ثمرة هذا اللقاء صداقة استمرت سنوات ثم قدم الدكتور البهي لكتاب "تفسير ابن باديس" بمقدمة جميلة.
وعند قدوم الأساتذة الأزهريين إلى الجزائر اجتمع بهم الشيخ رمضان وعرفهم بالواقع الجزائري الذي كانوا يجهلونه، ونبههم إلى أمر مهم وهو أن الجزائري يحترم الأزهريين إلى درجة كبيرة فلا ينبغي لهم أن يزعزعوا ثقة الشعب فيهم بتصرفات مشينة كالتدخين وغيره... ولاحظ الشيخ في ذلك الاجتماع أحد الأزهريين مهتما بما يقول الشيخ اهتماما كبيرا، ويسأل ويستفسر فقربه الشيخ إليه واختاره ليكون واسطة بينه وبين الأساتذة الأزهريين الآخرين، وهو الأستاذ توفيق شاهين رحمه الله الذي أعان الشيخ رمضان على طبع جل كتبه في المشرق والمطابع عندنا آنذاك منعدمة.
والذي يؤسف له أن هذه المعاهد الإسلامية التي كانت بحق مفخرة الجزائر في سنوات الاستقلال الأولى قُضي عليها وأُلغيت في سنة 1396 هـ (1976 م) من طرف العلمانيين أتباع فرنسا وأذنابها بحجة توحيد التعليم، والله المستعان....
لكن الشيخ رمضان لم يرض بالوظيف، وتاقت نفسه للتعليم الذي قضى جل حياته فيه فعاد إلى التعليم مرة أخرى والتحق بثانوية "حسيبة بن بوعلي" بحي القبة بالجزائر العاصمة، وذلك عندما أُدمج المعلمون الأحرار (الذين كانوا يدرسون في المدارس الحرة إبان الاستعمار) في الإطار العام للتعليم التابع لوزارة التربية الوطنية. فبقي بها إلى أن أحيل إلى التقاعد سنة 1400 هـ (1980 م).
ولأن الشيخ رمضان كان مفتشا لمدارس جمعية العلماء فقد كان من الذين يكتبون الشهادات للمعلمين الأحرار حتى يلتحقوا بالتعليم الرسمي غداة الاستقلال، وكان يتحرى في إعطاء الشهادات غاية التحري ولا يدفعها لمن لم يثبت له أنه علّم في مدارس جمعية العلماء.
نشر الشيخ رمضان لتراث شيخه عبد الحميد بن باديس
لقد وُفّق الشيخ رمضان لجمع قسم كبير من ترات العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ونشره في الأمة، وقد سبق في ذلك كل من ألف في تراث ابن باديس.
فأخرج الكتب الآتية:
- تفسير ابن باديس: وقد جمع فيه مقالات التفسير التي كان يكتبها الشيخ في مجلة الشهاب. وهو الكتاب الذي عرّف المشارقة بالشيخ ابن باديس وقد قدم له الدكتور محمد البهي بمقدمة قيمة ...
وقد طبع طبعات عدة...
- من هدي النبوة: وقد جمع فيه المقالات التي تشرح أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام
- رجال السلف ونساؤه: وجمع فيه مقالات مجلة الشهاب التي تحمل نفس العنوان
- القصص الهادف: وجمع فيه مقالات كانتت تصدر في الشهاب تحت نفس العنوان
وقد أعانه في طبع هذه الكتب الأستاذ توفيق شاهين رحمه الله وهو أحد الأزهريين الذين قدموا إلى الجزائر حين افتتحت المعاهد الإسلامية، ونشأت بينه وبين الشيخ صداقة حميمة فأعان الشيخ على طباعة هذه الكتب في المشرق ولقي في ذلك كثيرا من المتاعب.
وقد نشأت فكرة جمع التفسير ثم الحديث والقصص عند الشيخ بُعيدَ وفاة الشيخ ابن باديس، إذ أن الحرب العالمية الثانية وما رافقها من تضييق عطلت المطبعة الإسلامية التي كان يشرف عليها الأستاذ أحمد بوشمال رحمه الله رفيق الشيخ ابن باذيس وساعده الأيمن ... فشكى للشيخ رمضان تعطل المطبعة وقد صار يدفع رواتب العمال من رأس مال الشركة، إذ صحيفة الشهاب معطلة... فاقترح عليه الشيخ رمضان فكرة جمع المقالات التي تتناول موضوعا واحدا من أعداد مجلة الشهاب في كتاب مفرد يباع ويدر على المطبعة أرباحا تستطيع بواسطتها الاستمرار في العمل.
فأُعجب بوشمال بالفكرة وشرع في تنفيذها بمعونة الشيخ رمضان فصدر كتاب يجمع بعض دروس التفسير تحت عنوان "مجالس التذكير" وطبع بمناسبة الذكرى الثامنة لوفاة الشيخ ابن باديس (6 جمادى الثانية 1367 هـ - 16 أفريل 1948 م) وقد قدم لهذا الكتاب الشيخ البشير الإبراهيمي بمقدمة رائعة هي مذكورة في آثار الإبراهيمي (249/2) ... وبعدها نُقل الشيخ رمضان إلى مدينة غيليزان فتوقف العمل، لكن الفكرة بقيت في ذهن الشيخ فما إن استقلت الجزائر ووجد الشيخ من يعينه على إتمام هذا المشروع حتى شرع فيه وأتمه بفضل الله وتوفيقه.
ومن آثار ابن باديس الهامة التي أخرجها الشيخ رمضان كتاب "العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية" وهي إملاءات الشيخ ابن باديس على تلاميذه في دروس العقيدة بأسلوب مبسط ميسر. وكان الشيخ رمضان أول من نشرها ثم تلاه بعد ذلك الأستاذ محمد الحسن فضلاء رحمه الله.
وقد نشرت هذه الإملاءات أول ما نشرت في مجلة "العبقرية" التي كان يصدرها بتلمسان الأستاذ عبد الوهاب بن منصور الذي هو الآن مؤرخ المملكة المغربية... وقد صدرت منها بضعة أعداد سنة 1366 هـ ثم توقفت. وكان الشيخ رمضان هو الذي أطلع الأستاذ ابن منصور عليها فأعجب بها ونشرها في مجلته....
ثم عند الاستقلال طبعها الشيخ بدار الكتاب الجزائري، وتلتها عدة طبعات أخرى آخرها طبعة المجلس الإسلامي الأعلى.
والشيخ رحمه الله متمسك غاية التمسك بحقوقه في هذه الكتب، ويغضب إذا طُلب منه أن يعاد طبعها مع حذف اسمه !!!
وعندما طبعة دار المعارف بوهران كتاب "تفسير ابن باديس" دون أن تستأذن الشيخ رفع عليها دعوى قضائية فأوقف طباعة الكتاب، وغضب من صاحب هذه الدار غضبا شديدا...
لكنه بالمقابل لم يغضب حين أعلمته بأن دار الفتح بالشارقة طبعت كتابه "العقائد الإسلامية" سنة 1416 هـ، عندها ذكر لي أن الأخ الفاضل أبا عبد الرحمن محمود الجزائري قد سبقني إلى إخباره بذلك وأنه لم يعلم بطباعة الكتاب ولم يُستأذن في ذلك... لكنه عذرهم نظرا لبعد الدار وقال: لعلهم لم يعلموا أن صاحب الكتاب حي يرزق، وأعجبته الطبعة، واكتفى بتكليف أحد أصدقائه -وكان مسافرا إلى الشارقة- أن يبلغهم أنه الشيخ حي يرزق وأنه كان الأولى أن يتصلوا به ويأخذوا موافقته وما كان ليمانع ....