مالك بن نبي.. رؤية خلدونية لقضايا المسلمين المعاصرين
بقلم: محمدو لحبيب-
يعتبر المفكر مالك بن نبي (1905-1973م) أحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، ويذهب البعض إلى اعتباره امتدَاداً للمؤرخ والمفكر ابن خلدون.
كانت جهود مالك بن نبي في بناء الفكر الإسلامي الحديث، وفي دراسة المشكلات الحضارية متميزة، سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك، وكان ابن نبي أول باحث يُحاول أن يُحدّد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجاً مُحدّداً في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ.
انغمس مالك بن نبي في الدراسة وفي الحياة الفكرية، واختار الإقامة في فرنسا وتزوج من فرنسية ثم شرع يؤلف الكتب في قضايا العالم الإسلامي، فأصدر كتابه «الظاهرة القرآنية» سنة 1946 ثم «شروط النهضة» 1948، الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار ووجهة العالم الإسلامي، أما كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» فيعتبر من أهم ما كتب بالعربية في القرن العشرين.
ولد مالك بن نبي بمدينة قسنطينة الجزائرية، وترعرع في أسرة إسلامية متدينة، وكان والده موظفاً بالقضاء الإسلامي؛ حيث حول بحكم وظيفته إلى ولاية تبسة حين بدأ مالك بن نبي يتابع دراسته القرآنية، والتحق بالمدرسة الابتدائية بالمدرسة الفرنسية، وتخرج فيها سنة 1925 بعد أربع سنوات من الدراسة.
سافر بعدها مع أحد أصدقائه إلى فرنسا؛ حيث كانت له تجربة فاشلة فعاد مجدداً إلى مسقط رأسه، ثم أعاد الكرة بالسفر إلى فرنسا في شهر سبتمبر من سنة 1930 لغرض الدراسة وهو ابن 25 سنة، فأجرى امتحان الدخول إلى «معهد الدراسات الشرقية»، لكن خابت آماله في الدخول إلى هذا المعهد فسجل نفسه في «معهد اللاسلكي».
يذكر مالك بن نبي عن نفسه أنه في الوقت الذي كان ينتظر فيه نتائج مسابقة معهد الدراسات الشرقية، زار متحفاً للفنون والصناعات وكان ذلك سبباً في تفكيره لأول مرة في «مشكلة الحضارة» لما شاهد عينات التكنولوجيا من القاطرة البخارية الأولى والطائرة.
ساقت الظروف المعيشية القاسية في فرنسا في تلك السنين مالك بن نبي إلى مطعم قليل التكاليف تابع «للوحدة المسيحية للشباب الباريسيين» وهو معهد يمكن أن يقال عنه: معهد تدار شؤونه طبقاً لضرورات شباب يدرس أو يعمل بعيداً عن أهله، فانضم إليه ابن نبي واكتمل فيه اطلاعه على الجانب الروحي للحضارة الغربية.
دعوات نشطة للإصلاح
بدأ مالك بن نبي يتردد على «الحي اللاتيني» الذي يسكنه الطلبة العرب من مشارقة ومغاربة، وكانت تثار فيه مشاكل الجزائر والعالم الإسلامي، فكان نشطاً في المجال الثقافي والفكري بين الشباب المغاربة من مراكشيين وتونسيين وجزائريين.. وعبر عن أفكاره الإصلاحية والوطنية بتصدره لدعوات الإصلاح والإسلام والوحدة.
وكان مالك بن نبي يسهم أيضاً في توزيع المنشورات المناهضة للاستعمار، وكثيراً ما كان هو وزملاؤه يضعونها في صناديق بريد النواب وأعضاء مجلس الشيوخ والصحفيين.
تخرج مالك بن نبي في مدرسة الكهرباء والميكانيك في باريس مهندساً كهربائياً، ونظراً لتفطن الاستعمار لمواقف مالك بن نبي منذ البداية كان ذلك سبباً مباشراً في افتعال عدة عراقيل له كطرد والده من عمله وعدم منحه الشهادة بعد تخرجه رغم تفوقه، ومنعه بطريقة غير مباشرة من السفر إلى بلده مرات عدة ورفض ملفاته في اختبارات العمل والرد بأنه لم يستوف شروط الامتحان.
حاول مالك بن نبي أن يستفيد من صلته بالتيارات الفكرية المهاجرة؛ لذلك اختير ممثلاً للطلبة الجزائريين في «جمعية الوحدة المغربية» والتي كانت تضم طلبة من مراكش وتونس والجزائر وسوريا ولبنان، وكانت له صلات بجموع الطلبة الموجودين في باريس من الصين وفيتنام والهند.
ثم عين بعد ذلك في مارسيليا على رأس «نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي» الذي أسس لتثقيف العمال الجزائريين في فرنسا، لكنه أغلق بأمر من السلطات الفرنسية، حيث كان مالك بن نبي مديراً لهذا المركز وموجهاً تثقيفياً وتربوياً للعمال الجزائريين المتواجدين هناك.
في شهر مارس من سنة 1939 رجع إلى الجزائر وفي السنة نفسها اندلعت الحرب العالمية الثانية، فقرر عندها العودة إلى فرنسا مرة أخرى ليتفرغ هذه المرة للعمل الفكري، فاتصل بعشرات الباحثين والمفكرين والصحفيين والمستشرقين.
وفي باريس أصدر باللغة الفرنسية «الظاهرة القرآنية» و«لبيك» و«شروط النهضة» و«وجهة العالم الإسلامي».
لاجئ في القاهرة
في حدود سنة 1951 فر بسبب المضايقات، واختار مالك بن نبي بعدها مغادرة العاصمة «باريس» للإقامة في قرية «درو» الملكية الواقع على بعد 120 كلم من باريس.
في شهر إبريل من سنة 1955 انعقد مؤتمر «باندونغ» الذي جمع رؤساء وزعماء دول عدم الانحياز، فألف مالك بن نبي بهذه المناسبة وعلى ضوء هذا المؤتمر كتابه «الفكرة الإفريقية - الآسيوية» لما رأى وأعتقد من أن مركز ثقل العالم الثالث هو العالم الإسلامي الذي يملك العقيدة والثقافة الإسلامية ويمكن جعله كتلة واحدة وقوة ثالثة؛ لذا يعتبر كتابه ذاك بمثابة أطروحة جديدة لتوحيد «أمة» تعد في تعداد الدول النامية؛ وذلك يتمثل في توحيد إقليمين كبيرين واستراتيجيين من أقاليم العالم هما (إفريقيا وآسيا).
في سنة 1956انتقل مالك بن نبي من فرنسا إلى القاهرة كلاجئ وهو يحمل مخطوط كتابه «الفكرة الإفريقية الآسيوية» تاركاً وراءه قرية «درو»، وزوجته خديجة الفرنسية التي ظل يراسلها وتراسله، فسلم كتابه السابق الإشارة إليه للرئيس جمال عبد الناصر الذي أمر بطبعه، فقامت بالإشراف على طبعه «وزارة الإعلام» في القاهرة باللغة الفرنسية، أما في فرنسا فقد كتب على مؤلفه هذا في المكتبة الوطنية الفرنسية عبارة: «هذا كتاب لا يُسلم إلى القراء».
تفرغ للعمل الفكري
طور مالك بن نبي معرفته باللغة العربية؛ حيث راجع كل مؤلفاته المترجمة إليها، وشرع في الكتابة وإلقاء المحاضرات بالعربية وزار سوريا ولبنان لإلقاء محاضرات هناك.
عاد في عام 1963 إلى الجزائر بعد استقلالها، فعين سنة 1964 مديراً للتعليم العالي، وواصل مع ذلك إلقاء المحاضرات والتأليف، فصدر له «آفاق جزائرية» وكذلك الجزء الأول من مذكراته.
استقال من منصبه سنة 1967، ليتفرغ كلية للعمل الفكري الإسلامي والتوجيهي.. فساهم بمقالات متتابعة في الصحافة الجزائرية خصوصاً في مجلة الثورة الإفريقية التي شارك فيها إلى سنة 1968 بكتابات تعبر عن صميم تصوراته حول إشكالات الثقافة والحضارة، وقد جمعت هذه المقالات كلها في كتاب بعد وفاته.
أوصى مالك بن نبي بعض المقربين إليه من الطلبة الذين كانوا يتابعون حلقاته في بيته، خصوصاً الذين كانوا يعملون في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، بتنظيم ملتقيات لتوعية الأجيال الصاعدة.
صدر العديد من الكتب عن حياته وفكره، خاصة من قبل المهتمين بالنهضة والإصلاح، من أهمها: في صحبة مالك بن نبي) و(مقاربات حول فكر مالك بن نبي) لعمر كامل مسقاوي، تلميذه الذي ترجم بعض أعماله إلى العربية، والوصي على نشر كتبه.