ابن باديس وإخوانه كانوا صحفيين
بقلم: عبد الناصر بن عيسى-
إذا بحثت في الأرشيف الفرنسي، عن سيرة ذاتية للشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، ستجد أن الاستعمار الفرنسي كان يُعرّفه بالصحافي، وإذا بحثت عن مهنة رفاقه، من أمثال البشير الإبراهيمي والشيخ الطيب العقبي، ستجد أنهم كانوا رجال إعلام أفذاذا، الفارق بينهم وبين صحافيي الجيل الحالي وصحافيي جيلهم في بلدان أخرى، أن الصحافي عبد الحميد بن باديس كان يكتب ويطبع ويوزّع صحفه من حسابه الخاص، ولا يقبض مليما واحدا. وكان محترف صحافة، يبذل فيها الواجب من دون أدنى راتب، بل إنه باشرها قبل أن يبعث جمعية العلماء المسلمين، لأنه آمن في زمن لم يكن فيه للإعلام الإلكتروني ولا البصري أثر، بأن الصحافة هي الرأي الصواب الذي يحتمل أن يكون خطأ، وتقبل لرأي الآخرين الخطإ الذي يحتمل أن يكون صوابا كما جاء في كلام الشافعي.
ولم يكن الشيخ ابن باديس صحافيا تقليديا، يمكث في مكتبه يخطّ افتتاحيات المنتقد أو الشهاب أو النجاح، التي أسّسها، وإنما كان مغامرا يجوب الأمصار، ويكتب كما يتنفس في كل مكان، إلى درجة أنه تعرض لمحاولة اغتيال في مدينة قسنطينة من الطرقيين، بسبب مقالات وتحقيقات صحفية كشف فيها عن دجل هؤلاء، وتورّطهم مع الاستعمار الفرنسي في تضليل الجزائريين، والزجّ بهم في ظلمات الجهل، فتعرّض الشيخ لوقف صحيفته المنتقد، وتعرّض لسحب قلمه من يومية النجاح، ومنع جريدته الشهاب عدة مرات من الصدور، فكان قلمًا يزن ما يكتب، ويصرّ على أن يقدم للناس إشراقات عبر افتتاحيات قال عنها المفكر القامة مالك بن نبي إنه كان يقرؤها باستمرار ويشعر بأن شيئا ينقصه، إذا مرّ زمن طويل، من دون أن يقرأ افتتاحيات الشيخ ابن باديس، الذي حوّل الصحافة إلى جهاد مكّن البلد من تكسير الكثير من القيود.
وعندما يحتفل الجزائريون باليوم العالي للصحافة، يشعرون أنهم تخلفوا عن ركب الكثير من الأمم، بسبب تأخر الدولة في فكّ قيود التعددية في مجالات السمعي البصري، وهم لا يعلمون بأن الجزائر كانت فعلا بلدا رائدا في الصحافة، وامتلكت قامات إعلامية، ومنها الفنان العالمي عمر راسم الذي تعرض للنفي إلى جزيرة بعيدة بسبب كتاباته، بينما تحرّر الشيخ ابن باديس من التبعية، فكان يكتب الصحيفة رفقة إخوانه، ويتولى سحبها في مطبعته الخاصة، ويستعمل كل وسائل النقل لأجل إيصالها إلى كل الجزائريين، بل ويوصلها إلى المغرب وتونس، ووصلت صحيفة المنتقد إلى القدس الشريف والبقاع المقدسة.
في أرشيف الشرطة الفرنسية في قسنطينة، عندما تعرض الشيخ ابن باديس لمحاولة اغتيال في شتاء 1926، جاء في تقرير الأمن بأن الصحافي ابن باديس تعرض لمحاولة القتل بسبب مقالاته، ونقل الخبر عن تعرض صاحب القلم الجريء لمحاولة الاغتيال، في صحيفة "لا ديباش دو كونستونتين". وهو تأكيد على أن رائد النهضة الجزائرية كان مثالا للصحافي النزيه، الذي منح من ماله ومن جهده ومن حياته، ومن قلمه لصالح الصحافة الجزائرية ولصالح الجزائر.. ولكن هل من مُذكّر؟