المعجم اللغوي في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: تفسير الآية 108 من سورة يوسف أنموذجا-
بقلم: سارة بوفامة-
قد نزل القرآن الكريم بلغة العرب ووفق أساليب بيانهم فلم يجدوا عناءً في فهمه وإدراك تعاليمه ومقاصده، ومع اتساع المدة الزمنية التي تفصل بين عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وبين العصور التالية لهم بما تحويه من ملابسات ومعطيات مغايرة لتلك التي كانت في مرحلة النزول ومرحلة التلقي الأول فأصبحت هناك حاجة ملحة لاكتناه هذه الرسالة اللسانية للوصول إلى مقاصدها المتعلقة بالإنسان وبعلاقته بربه ومحيطه، فكان التفسير هو القراءة المتجددة التي تبث من النص الواحد القرآن الكريم نصوصا تلو النصوص.
يخضع عنصر التجديد في إنتاج النصوص المفسرة لكلام الله عز وجل إلى اعتبارات عديدة ولعلّ أهمها ما يتعلق بروح العصر الذي أفرز هذا التفسير، ومن هذه النصوص مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لعبد الحميد بن باديس (1889-1940)، وهو تفسير أوجدته ظروف اجتماعية وثقافية خاصة ضمن حقبة تاريخية ميّزها الوجود الاستعماري بكلّ ما يحمله من تبعات سلبية كالجهل والأمية ومحاولات طمس الهوية والإدماج.
رأى ابن باديس أن الحلّ يكمن في القرآن الكريم فكان أساس دعوته وحركته الإصلاحية، يتدارسه ويد رّسه للناس بالجامع الأخضر كل ليلة بعد صلاة العشاء حتى أت تفسيره كاملا في مدة تقارب الخمس وعشرين سنة" (1) كاون يرى أنّ استنباط الحلول منه في حاجة إلى رؤية واعية ومتجددة ومتحررة من قيود الط رقية والخرافة والتفاسير المنجرفة وراء توجهات ومذاهب أصحابها، ولا يعني التجديد إنكار مجهودات السلف "فقد كان يقرأ التفاسير، ث يجعل من عقله مصفاة لها ، فلا يخرج منها إلا ما صح ونفع، ولاءم العصر، وصدق الخبر، مع حسن عرض، واستنباط واع، واستنتاج للعبرة..." (2)
يتخير ابن باديس من القرآن آيات يخصّها بالنشر في افتتاحيات مجلة الشهاب(3)، أطلق عليها "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير" وهذه المختارات هو ما جُمع لاحقا وأطلق عليه المسمى ذاته أو العنوان الرديف :تفسير ابن باديس، سعيا منه إلى تحرير العقول وتن وير النفوس وتوجيه السلوك نحو ما يحمل به الفرد الجزائري وكل مسلم إلى السعادة. كان الإصلاح الغاية الأولى التي فسّر لأجلها ابن باديس القرآن الكريم فالتفسير حلقة مهمة تشكل مع حلقات أخر المنظومة الإصلاحية التجديدية التي أسسها ابن باديس رفقة مجموعة من رجال الإصلاح في الجزائر. "فقد كانت عنايته بالتفسير ملحوظة بلا شك من بداية الحركة لاعتقاد أعضائها بأنّ الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم احتوى كل ما يحتاجه الإنسان لصلاح حاله، ولاعتقاده في فرضية أنّ مرحلة السلف اتسمت بالتقييم الصحيح لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين للقرآن والسنة..." (4) .
فقد أدرك عبد الحميد بن باديس ورجال الإصلاح عموما أهمية الفهم الصحيح للقرآن الكريم محاربين بذلك البدع والخرافات التي كانت تغلف الإسلام الجزائري وتحيد به عن معناه، وفي الوقت ذاته توصيل المعاني السامية التي جاء بها الإسلام إلى المفرنسين أو دعاة الإدماج، هذه المعاني التي تصالح بين العقل والعلم والوحي والتأكيد أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي صالح بين هذه العناصر الثالث، وأن الشريعة الإسلامية عقلانية ولا يمكن أن تناقض العقل(5) .
تبنى ابن الباديس المنهج الاستعجالي في تفسير آي القرآن الكريم والمقصود بالمنهج الاستعجالي انشغال ابن باديس بالتفسير الشفوي والتواصل المباشر مع الطبقات المختلفة والمتنوعة من المجتمع عن التأليف والتدوين." إذ كان يرى حين تصدّى لتفسير القرآن أنّ في تدوين التفسير بالكتابة مشغلة عن العمل المقدّم وإضاعة لعمر -الضلال، لذلك آثر البدء بتفسيره درسا تسمعه الجماهير فتتعجّل من الاهتداء به ما يتعجّله المريض المنهك من الدواء وما يتعجّله المسافر العجلان من الزاد" (6) .خاصة وأن الجزائر في القرن العشرين كما وصفها ابن باديس أصبحت أرض الجهل والأمية (7)، وأصبح الجزائريون غرباء عن مبادئ عقيدتهم كما أن عددا من الطقوس الجاهلية انقسمت نتيجة لذلك كما انقسم المجتمع الجزائري على نفسه انقساما خطيرا وقد حلّت العلمانية والتعصب محل وحدة المجتمع في الإسلام (8) .والاستعجالية التي تميز تفسير ابن باديس تظهر أيضا في منهجه العملي الذي يتحاشى فيه كل ما يثقل النص وكل مالا يحمل معه المتلقي إلى الفهم الصحيح من جهة والتطبيق السليم من جهة ثانية، فمنهجه تابع لهدفه ووسيلة لتحقيق رؤيته، إذ يؤكد ابن باديس على الجمع بين هداية القرآن والمجتمع، بغية الوصول إلى حلول واقعية تليق بمتطلبات الإنسان والعصر .
ومن مثقلات النص التي يتجنبها ابن باديس ويتفاداها و يرى فيها أنها تعيق الفهم، ولا تخدمه -خاصة وأنّ المتلقين لتفسيره تتنوع درجة وعيهم من جهة ويتنوع انتما ؤهم وتوجههم الفكري من جهة ثانية. فنجده يلغي الإسرائيليات والاختلافات النحوية واللغوية وكل ما يتعلق بها من تشعبات وتشابكات لا خدمة ترجى منها في فهم النص أو تأويله ، هذا الاختلاف في الحالات الاجتماعية والخلفيات الفكرية والمنطلقات السياسية يفرض على المخاطب انتقاء معجم لغوي خاص وتحري الأسلوب المناسب مراعيا مقتضى حال المخاطبين حتى يحقق خطابه المقصد الذي يصبو إليه، فيقرب رؤيته إلى الفلاح الجزائري البسيط، ويبصّر المثقفين أمثاله بأنوار القرآن الكريم لاستنباط معانيه واستخراج درره وكنوزه، ويقنع معارضيه على اختلاف توجهاتهم بنجاعة الإسلام ليكون حلا لكل الأزمات المحيطة بالإنسان. ولا يمكن لأحد أن ينكر الأثر الايجابي الذي حققه ابن باديس في توعية المجتمع الجزائري والنهوض به من حالة الخمول وال ركود التي كان يعيشها تحت وطأة المستعمر، إلى حالة من الوعي والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمع. وقد تحدث البشير الإبراهيمي عن مجالس التذكير مشيدا بأنوار العلم التي لازالت تنير درب من يطلبه، كما أشاد بجودة الأسلوب، فيجعله جامعا بين الحسنين، إذ" استفاد منه المتأدبون مثالا عاليا من ذلك الأسلوب الذي يجمع العلم والأدب فيستهوي العالم والأديب" (9). وانطلاقا من كل ما سبق يفرض السؤال الآتي نفسه "ما هو المعجم اللّغوي الذي استثمره ابن باديس في بناء نصه وماهي السمات الأسلوبية التي وظفها، والتي كفلت له الوصول إلى متلقي خطابه وإقناعهم بالتطبيق العملي لفحواه؟
لأجل الإجابة عن هذا الطرح سيتم مقاربة نص من نصوص مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير يفسّر فيه ابن باديس الآية 108 من سورة يوسف، قال تعالى: }قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَن اتَّ بَ عَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ { مقاربة دلالية بتطبيق منهج الحقول الدلالية.
هيكلة النص:
عنون ابن باديس تفسيره الآية بـ: "سبيل السعادة والنجاة"، وبما أن العنوان هو العتبة الأولى التي يطؤها القارئ فهو يحمل بعض مفاتيح النص، التي تساعد القارئ على توقع ما سيندرج تحته من معاني وموضوعات.
والعنوان الذي اختاره ابن باديس لنصّه فيه شحنة إيجابية تغري القارئ بمحتوى النص وتجذبه لمواصلة القراءة، وتجعله على استعداد تام لتطبيق محتواه حتى يصل إلى تحقيق الوعد الذي يكفله له العنوان "السعادة والنجاة".
قسم ابن باديس النص إلى ثمان عناوين جزئية تنوعت بين المفاهيم النظرية والتطبيقات العملية، استبقها بتوطئة تحدّث فيها عن الآية حديثا مجملا يحمل به القارئ إلى الجو العام للآية ويوصله بالمعاني التي يريد أن يستنبطها انطلاقا من تحليله لها لينتقل بعد ذلك إلى التفصيل، فيقول:" خلق الله محمدا صلى الله عليه وسلم أكمل الناس، وجعله قدوتهم وفرض عليهم اتباعه و الاتساء به ، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم ، ومغفرة خالقهم ورضوانه ، إلا باقتفاء آثاره والسير في سبيله." (10) وهذه الطريقة هي منهجية ابن باديس في الكتابة وحتى الخطابة، فهي من آليات التبسيط والتيسير التي يقصد إليها ابن باديس ابتغاء الوصول إلى المتلقين عامة على اختلاف مستوياتهم العلمية وعلى تنوع توجهاتهم الفكرية.
كما أن السمة التعليمية بارزة في النص، وهي كذلك غاية كبرى يسعى ابن باديس إلى تحقيقها ضمن منظومة الإصلاح التي يترأسها، غايتها الأولى تعليم الجزائريين دينهم تعليما صحيحا ينطلق من روح العصر ولا ينفصل عن روح السلف، وكأنه يريد القول أن القرآن هو منهج حياة، يجب علينا فهمه فهما صحيحا ليغير حياتنا ومصيرنا إلى الأفضل كما غير حياة من تلقوه بالفهم الصحيح والتطبيق السديد لتعاليمه ومبادئه فانتقل بهم من ظلمات الجهل إلى أنوار الهدي ، ولذلك" اتخذ ابن باديس أهم وسيلة لإصلاح العقيدة وهداية الناس ، تفسير القرآن الكريم فجعله انشغاله الأول ....غرضه من ذلك تبسيط المبادئ القرآنية للنشء"(11).
نجد ابن باديس لا يقف البتة عند الجانب النظري من التفسير فيقتصر على ما قاله السلف أو يدلي بما فتح الله عليه من فهمه لمعاني ودلالات الآية ، بل يربطها بالجانب العملي ويوجه المتلقين إلى طريقة تطبيق محتوى الآية كل حسب تخصصه وعمله ومكانته في المجتمع ،فيقول في ماهية الدعوة:"...فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته داع إلى الله، والطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته داع إلى الله، ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل." (12) فصورة المجتمع الجزائري حاضرة بقوة في مجالس التذكير، يظهر ذلك في ربطه رؤية القرآن الكريم للعالم برؤية مجتمعه محاولا جاهدا تصحيح تلك الرؤية وتوجيهها نحو الرؤية القرآنية .
فنجد صورا من المجتمع الجزائري حاضرة بقوة في تفسيره الآية ، ومن أهم هذه الصور ما تعلق بالعقيدة التي ترى حالة من عدم الاتزان والابتعاد عن الصراط المستقيم، وتصحيح العقيدة من أهم القضايا التي يكافح لأجلها رجال الإصلاح في الجزائر بل هي أهمها، لأنّ العقيدة الصحيحة تنتج مسلما صالحا متأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فصحة علاقته مع ربه ستأتي بثمرها في صحة علاقته بذاته وبمجتمعه وبعمله... ومن صور حالة اللاتزان التي يسلط عليها ابن باديس الضوء في تفسيره ويبينها بالشاهد والمثل ما سماه بمظاهر الشرك جليه وخفيه فيفصل فيها القول حرصا منه على اجتناب المسلمين مثل هذه الأقوال والأفعال والمعتقدات الخاطئة والتي يمارسها أغلب الجزائريين جهلا منهم أنها صورة من صور الشرك فيقول:"...مظاهر شركهم حتى في صورة القول،ك )ماشاء الله وشاء فلان(، فلا يقال هكذا ، ويقال: "ثّم شاء فلان" كما جاء في الحديث(13)، أو في صورة الفعل ، كأن يسوق بقرة أو شاة مثلا إلى ضريح من الأضرحة ليذبحها عنده، فإنه ضلال كما قاله الشخ الدردير في باب النذر، فضلا عن عقائدهم، كاعتقاد أن هناك ديوانا من عباد الله يتصرف في ملك الله ، وأنّ المذنب لايدعو الله ، وإنما يسأل من يعتقد فيه الخير من الأموات ، وذلك الميت يدعو له الله." (14) فابن باديس حريص كل الحرص على الجمع بين الآية المدروسة وحالة المجتمع الجزائري فيبين كيفية تطبيقها والعمل بها في أوضاع متنوعة ولدى شخصيات مختلفة كل حسب عمله ووظيفته ومكانته فيكون القرآن منهج حياة ويتحرر من دفتي الكتاب إلى الواقع فيتمثل في تصرفات وأقوال وأعمال وأفكار المسلمين متأسين بسيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن .
المعجم اللّغوي في النص:
لكل نص نظام مفهومي يضم مجموعة من الحقول الدلالية التي تربط بينها علاقات متنوعة، والحقل الدلالي هو مجموعة من المفاهيم تنبني على علائق لسانية مشتركة (15) ، وعرفت الحقول الدلالية عند علماء اللغة: "أنها تصنيف للألفاظ المستعملة في نص من النصوص أو لغة من اللغات ترتبط فيما بينها برابط دلالي معين(16) . فالمعاني لا توجد منعزلة في الذهن بل لا بد لفهمها من ربط كل معنى منها بمعنى آخر (17) وعرفه أولمان :"بأنه قطاع متكامل من المادة اللغوية يعبر عنه مجال معين من الخبرة." (18) إذن فالحقل الدلالي يمثل جزءا من المعجم ومجموع الحقول الدلالية يشكل المعجم اللغوي لنص ما والمعجم في حد ذاته يتحول إلى حقل بالنظر إلى معجم اللغة ككل.
أصول نظرية الحقول الدلالية:
ترجع أصول نظرية الحقول الدلالية إلى نظرية رؤية العالم لهامبولدت Humboldt الذي عرّف اللغة: "بأنها ظاهرة متحولة Dynamic وليست ثابتةErgon ، وأصر على أن المظهر الثابت للغة ظاهري فحسب. وأولى اهتماما خاصا بالفكر ويرى أنّ "قضية العلاقات بين اللغة والعقلية القومية تحتل مكانا أساسيا في نظريته اللسانية فاللغة هي نتاج متميز لروح أمة بعينها والتعبير الخارجي عن البنية الداخلية يميط اللّثام عن رؤية خاصة للعالم... ومن هنا سميت نظريته رؤية العالم (19).
فتطبيق نظرية الحقول الدلالية لا يعتبر مجرد تجميع كلمات وتصنيفها ضمن حقول، أو هي إساءة للنص كما قال فيها محمد مفتاح:" الدراسة المعجمية، وحدها تسيئ إلى النص الشعري لأنها تفصل الألفاظ عن سياقها التركي أي عما قبلها وما بعدها ....فإذا كانت الطريقة المعجمية الموضوعاتية تفشل في إعارة الانتباه إلى الترابط والتداعي الحر، فإنها تعجز أيضا عن التمييز بين مستويات اللغة المستعملة ..." (20) فاعتماد منهج الحقول الدلالية لا يعني إقصاء السياق، بل من أهم المبادئ التي تقوم عليها النظرية أن :
- لا يمكن إغفال السياق الذي ترد فيه الكلمة.
- لا يمكن دراسة المفردات مستقلة عن تركيبها النحوي.
إلى جانب ذلك فالكلمة تستقي معناها من الكلمات المجاورة لها في الحقل وتتشرب دلالات إضافية إلى المعنى الأساسي لها انطلاقا من النظام المفهومي الذي تنتمي إليها، فالحقل الدلالي هو مجموعة من الكلمات ترتبط دلالتها، وتوضع تحت لفع عام يجمعها. ولكي تفهم معنى كلمة يجب أن تفهم مجموعة الكلمات المتصلة بها دلاليا، فمعنى الكلمة هو محصلة علاقاتها بالكلمات الأخرى في داخل الحقل المعجمي. (21)
وبذلك فاللفظة في الحقل تكتسب معناها من فلك النظام المفهومي الذي تدور في فلكه فتصبح مشحونة بدلالات اكتسبتها داخل هذا النظام" فالحقول الدلالية لا تحمل الثروة اللّفظية فحسب بل هي تحمل الحقبة التاريخية التي اقتطفت منها هذا النص ودراسة المعنى في ظلّ هذه النظرية يعد في الوقت ذاته دراسة لنظام التصورات والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والحضارة السائدة بوجهيها المادي والروحي (22) .فهي -الحقول الدلالية -إذن قادرة على الإفصاح عن دلالات لم يصرح بها الكاتب والكشف عنها "فقد توضع المادة في حقول دلالية فتكون مرآة ينعكس على سطحها جانب من خبرة الإنسان في حياته العملية والنفسية فتتجمع الألفاظ ذات العلاقات الدلالية المتصاقبة في وسم شيء أو وصف موضوع أو التعبير عن حال في حيز واحد". (23)
والنصوص المفسرة للقرآن الكريم، تعمل على تقريب الرؤية القرآنية للعالم انطلاقا من القرآن نفسه ومن روح العصر الذي نتج فيه النص. وهذه الرسالة الباديسية اللسانية تحوي مجموعة من الحقول الدلالية التي تشكل النظام المفهومي للنص، الذي ينطلق من القرآن الكريم ويحمل بين طياته الروح الجزائرية. يمكن إجال هذه الحقول فيما يحمله العنوان الذي اختاره ابن باديس ووسم به تفسيره لهذه الآية من كلمات )سبيل، سعادة، نجاة) وتصنيفها تحت حقل واحد يحمل اسم "السعادة".
يحمل العنوان دلالات أخرى مسكوت عنها لكنها حاضرة بالفعل والتي تتمثل في الطريق المناقض لطريق السعادة وهو طريق الهلاك والشقاء، وكأن ابن باديس يريد أن يقول: من اتبع هدي الآية فسينال سبيل السعادة والنجاة ومن حاد عنه فسيقع في الهلاك والشقاء.
ولأن لكل كلمة معنيين معنى أساسي ومعنى علاقي فيكون "المعنى الأساسي لكلمة ما شيء متأصل في الكلمة نفسها تحمله معها أنّ ذهبت فإن المعنى العلاقي شيء إضافي يتم إلحاقه وإضافته إلى الأ ول باتخاذ الكلمة موقعا خاصا في حقل خاص، مرتبطة بعلاقات متعددة الأشكال بكل الكلمات المهمة الأخرى في ذلك النظام" (24).
لذلك فكلمتا السعادة والشقاء في النظام المفهومي الإسلامي تكتسبان معاني علاقية إضافية إلى المعنى الأساسي فتشحن اللفظة بدلالات روحية مستمدة من النظرة القرآنية لأن رؤية ابن باديس منطلقة من رؤية القرآن الكريم التي تربط معنى السعادة بالقرب من الله واتباع سنة نبيه والعمل لأجل نيل الجنة وتربط معنى الشقاء بارتكاب ما يخالف الشرع والانصراف عن الهدي النبوي .إذن دلالة السعادة والشقاء الواردتين في النظام المفهومي الإسلامي -الذي يمثل النص جزءا منه- مرتبطتان بالروحانيات إذا ما قارناه بمفهومها في الأنظمة المادية الدنيوية والتي كانت تروج لها الحياة الفرنسية ودعاة الإدماج من الجزائريين المفرنسين. ويمكننا أن نمثل لحقلي السعادة والشقاء على النحو الآتي:
الوثيقة 01:
أ السعادة
ب السعادة: النجاة – الأخلاق – الإتساء- البراءة من الشرك – البشرى – المهتدين – الرضوان – الآخرة – الوصول – المؤمنين.
أ- المعنى الأساسي
ب- المعنى العلاقي في النظام المفهومي الإسلامي )رؤية ابن باديس انطلاقا من الرؤية القرآنية(
الوثيقة 02:
أ الشقاء
ب الشقاء : الكافرين – الهلاك – لا نجاة – لا وصول – الكاذب – الالتواء.
نلاحظ أن هناك علاقة بين المعنيين الأساسي والعلاقي إلا أن المعنى العلاقي يتميز عن المعنى الأساسي باتصاله بروح الثقافة التي ينبثق عنها ليبين رؤية الكاتب للعالم من جهة ورؤية المجموعة الثقافية التي تتلقى الخطاب من جهة ثانية، لأن الكاتب في تعاط دائم مع ال واقع وفي الوقت ذاته لا يمكنه أن ينفصل عن ذاكرته وتاريخه في إنتاج أي نص هو معرفة صاحبه بالعالم وهذه المعرفة هي ركيزة تأويل النص من قبل المتلقين (25). وإذا لم يرتكز على هذين العاملين فإن خطابه لن يحقق غايته الأساسية التي هي التواصل وإذا لم يتحقق التواصل اتسعت الفجوة بين المخاطِب والمخاط ب فيحدث الإعراض والانفصال، وهذه النتيجة تعبر عن نقيض ما كان يسعى ابن باديس إلى تحقيقه ويكرّس كلّ الآليات والأدوات لجذب المخاطبين للتأثير فيهم وإقناعهم بأفكاره التجديدية.
إلى جانب هذين الحقلين يبرز حقل ثالث لا يقل أهمية عن الحقلين السابقين بل يعد السبب الرئيس
لتحقق أحدهما وهو "حقل الدعوة " لأن الدعوة إن كانت إلى الله وعلى بصيرة ،اتساء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تحققت السعادة والنجاة وإن كانت مخالفة لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم سقطت بهمفي المهالك والمعاصي.
فكلمة "الدعوة" كلمة مركز أو هي كلمة مفتاح في النص كما هي كذلك في الآية: " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ " (26) .
وفي العرف الاجتماعي العام تحمل لفظه "دعوة" دلالة طلب الحضور إلى مكان ما في زمن محدد وهي تقابل لفظة invitation في اللغة الفرنسية.
لكن معناها الدلالي الذي تستمده من النظام المفهومي الإسلامي يحمل دلالة ثقافية تجعل الكمة تأخذ منحى دلالي مغاير مرتبط بالدعوة إلى الله، وتذكير المسلمين بأوامره ونواهيه وتعريف غير المسلمين بالاسلام والاستدلال على معانيه بما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ينطلق ابن باديس في معالجته هذه القضية -الدعوة- من عمق المجتمع الجزائري الذي كثرت فيه الأطياف التي تحمل طابع الدعوة لكنها لا تعني بالضرورة الدعوة الصادقة التي خصّتها الآية القرآنية بوصفين:"إلى الله" و"على بصيرة" لذلك يصنف ابن باديس -انطلاقا من هذا الوصف- الدعاة إلى صنفين صنف صادق وصنف كاذب ويبني النص في شكل تقابلي توضيحي (27) والذي تمثل الوثيقة 03
السعادة ـــــــ الصادق ـــــــ الداعي ــ ـــ ــ ــ* الكاذب ـــــــ الشقاء
الصادق: - لا يتحدث عن نفسه ولا يجلب لها جاها
- يعتمد على الحجة والبرهان
- لا تقع في سلوكه على تناقض أو التواء أو اضطراب
الكاذب: - لا ينسى نفسه لا في أقواله ولا أفعاله
- يبقى دعاويه محددة
- لا يزال في حنايا وتعاريج
تمثل الوثيقة 03 حرص ابن باديس الشديد على تقديم مقياس لتمييز الداعي الصادق من الكاذب، ويقدّم هذا المقياس في شكل صورة تقابلية هي بمثابة قالب نمطي يضع فيه الملتقي الداعي الذي أمامه وينظر إلى النتيجة فإنوافق الجزء الأول من الصورة فهو صادق ويجب اتباعه، وإن وافق الجزء الآخر منها فيصنفه في فريق الداعي الكاذب وينصرف عنه، ومقياسه هذا مستمدد من الآية الكريمة وجهين "إلى الله" و"على بصيرة".
انطلاقا مما سبق يظهر لنا أن المعجم الموظف في النص هو المعجم الديني ، إلا أنه لم يكن المعجم الوحيد إذ يظهر إلى جانبه المعجم الاجتماعي، وليس مبالغة إن قلت إنه يشاركه المساحة ذاتها، لأن انتاج أي نص لا يمكنه أن ينفصل عن المجموعة الثقافية التي ينبعث منها .فكانت رؤية ابن باديس للآية موجهة من المجتمع قبل أن تكون موجهة إليه، إذ السلبيات والنقائص التي يراها المصلح في مجتمعه تحركه ليبحث لها عن بدائل وحلول وابن باديس مصلح ينطلق في فكره الإصلاحي التجديدي من القرآن الكريم، ولذلك فهو يفصّل الحديث عما يرى فيه حلا لمشكلات مجتمعه ويسقطه على واقعه لينتقل من الجانب النظري إلى الجانب التطبيقي، فيقول في تفسيره لقوله تعالى:" أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" :"....فالفقيه الذي يبين حكمه وحكمته داع إلى الله، الطبيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته داع إلى الله، ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل" (28) .
يظهر المعجم الاجتماعي متداخلا مع المعجم الديني في النص، من خلال النماذج التي هي من صميم المجتمع الجزائري والتي يُصرّ ابن باديس على إظهارها في كل مرة تعليما وتفهيما للجزائريين، مع عناية أكبر لتصحيح العقيدة التي هي أساس قوتهم، والتي يرجونها ليتحرروا من قيود المستعمر، ويمكننا أن نستدل في هذا المقام على فكر ابن باديس الذي كان يؤسس له تدريجيا وعلى مراحل مدروسة ومتدرجة، فالعدو الأول للجزائريين في الفكر الباديسي قبل الاستعمار هو الجهل ولابد من محاربة الجهل قبل محاربة المستعمر. ومن التصرفات التي كانت سائدة في المجتمع والتي تعبر عن حالة الجهل التي سعى ابن باديس ورجال الفكر والإصلاح إلى محاربتها هي جعل الوساطة بين العبد وربه وإنزال الأضرحة المقام الذي لا تسمو إليه من التعظيم.
يظهر لنا بوضوح رؤية ابن باديس للعالم المستمدة من رؤية القرآن الكريم، فهو ينطلق من القرآن ليصحح مسار الشعب الجزائري ويقوده إلى سبيل السعادة والنجاة وعنايته بالدعوة وبالتحديد بالداعي وكيف يجب أن يكون يفصح عن رؤيته التي تؤكد أنّ الفهم الصحيح للإسلام هو الحل، وأنّ العامة في حاجة إلى داع صادق يعلّمها دينها للخروج بالجزائر من حالة الشقاء إلى حالة السعادة، وهي في نفسه في أمسّ الحاجة إلى إقصاء الداعي الكاذب الذي يمثلعينة كبيرة من المجتمع الجزائري وله أعداد كبيرة من المريدين والأتباع الذين أفسدوا على المجتمع عقيدته أغرقوه في الجهل والخرافة.
إذن فرؤية ابن باديس للعالم تظهر من حقوله التي تؤسس نصوصه، هذا العالم الذي يمثل بالنسبة له الشعب الجزائري أولا ثم العالم الإسلامي ، وليس تقصيرا أو عيبا أن ينطلق في رؤيته من مجتمعه وبيئته بل ذاك هو المطلوب منه .
العلاقات الدلالية:
هي مصطلح يطلقه الدرس الحديث على ظواهر متعددة تش رح العلاقة بين الكلمات في اللغة الواحدة ومن نواحٍ متعددة... وقد تولّد هذا المصطلح حديثا من دراسة الحقول الدلالية حيث بحث الدارسون بعد تصنيفها، العلاقات بين كلماتها (29) ، وهذه العلاقات لا تخرج في أي حقل من الحقول عن الترادف والاشتمال أوالتضمن،علاقة الجزء بالكل والتضاد والتنافر (30) . والعلاقة الأكثر بروزا في النص هي علاقة التضاد .
علاقة التضاد:
يشارك هذا المصطلح مصطلحات أخرى تصب معه في السياق ذاته ، وهي من مصطلحات علم البديع )الطباق والتقابل)، "لأنّ الباحث في المقابلة يجد نفسه - من حيث لا يدري- يتعرض للطباق ولكل نوع بديعي قائم على التضاد أو المناظرة" (31)
والنص الذي بين أيدينا مبني بأكمله على فكرة التقابل بين (السعادة والشقاء( وبين (سبيل السعادة وسبيل الشقاء(، وبين (الداعي الصادق والداعي الكاذب) فظاهرة التقابل مرتكز بنائي يتكئ عليها النص في علاقاته يساعد في إجلاء المعنى وتوكيده (34). وتظهر هذه الظاهرة في أغلب نصوص وخطابات ابن باديس بما في ذلك بعض ظلال القرآن الكريم فإن الكاتب ما فتِئ ينهل من أساليب الكتاب المعجز توضيحا لمعانيه وتجميلا لأسلوبه (35). فتأثر ابن باديس بأساليب القرآن الكريم واضح في تأكيد معانيه موظفا أحد أهم هذه الأساليب وهو التقابل.
وللتقابل قيمتان: قيمة فنية تكمن فيما يحدثه التضاد من أثر متميز في الدلالة على صور ذهنية ونفسية متعاكسة يوازن فيما بينها عقل القارئ ووجدانه فتتبين ما هو حسي منها ويفصله عن ضده (36)، أو القيمة الثانية فتتمثل في ملاءمتها لما يحرص عليه ابن باديس في أعماله من الغاية التبليغية التعليمية.
يحرص ابن باديس على توظيف التقابل لأن فيه استحضار لصورتين متضادتين في ذهن المتلقي لتصبحا شاهدتين كالعيان أمامه فيتحقق الفهم ويتعمق المعنى ويزيد رسوخا في الذهن مما يستدعي التطبيق العملي لمضمونه وهو ما يسعى إليه ابن باديس في مشروعه النهضوي الإصلاحي ،فغايته لا تقف عند نقل المعلومة بل يسعى إلى التمكين للحقائق لا مجرد نقلها. فنجده مثلا يقول:"....فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم..." (37)
ويقول في موضع آخر:" كان يدعو الكافرين كما يدعو المؤمنين، يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله، ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع يوما عن الإنذار والتبشير، والوعع والتذكير." (38)
فكأنه يقدم صورة حية ماثلة أمام المتلقين عناصرها: المؤمنون والكافرون والداعي ، فيمثل فيها عناصر الدعوة وطريقة الدعوة وتنوعها بتنوع المدعوين . هذه الصورة التقابلية كافية لتبيان أهمية الدعوة من جهة وأهمية التنوع في آداء الدعوة وضرورة تعلم الداعي لهذه المهارات التواصلية بحسب تنوع المتلقيى.
ومن نماذج التقابل أيضا التي تصور مشهدا يقارب المعاينة هي تلك التفرقة التي وضعها بين الداعي الصادق والداعي الكاذب والتي تمثلها الوثيقة(39)، ففي التقابل تقريب للمعنى عن طريق استحضاره أمام المتلقي مما يؤكد تحقيق الكفاية لدى المتعلم وتحقيق الاقتناع لدى المتلقي. عن طريق إظهار الص ورتين المتضادتين ليتبين للسامع أيهما الأحق بالاتباع ، فيعمل عقله ويدرك الأفضل بنفسه دون توجيهه عن طريق الأوامر والنواهي المباشرة وهو ما تنفر منه النفوس وتأباه خاصة وقد تمت الإشارة مسبقا إلى التنوع الذي يطبع المتلقين لخطاب عبد الحميد ابن باديس.
بعد هذا العرض الموجز لنماذج من ظاهرة التقابل أو التضاد في النص يمكننا أن نخلص إلى أنّه أداة هامة في توضيح المعنى وتقريبه ، وفي الوقت ذاته هو تجميل للصورة اللفظية وتزيينها ، فهو بذلك من أبرز مظاهر أسلوب التوكيد. (40)
لم يكن التقابل العلاقة الوحيدة التي تربط بين ألفاظ النص ومعانيه بل تزاحمها تقريبا بالقوة ذاته علاقة الترادف.
علاقة الترادف:
ليس المقام مقام إثبات وجود ظاهرة الترادف في اللغة العربية أم لا، لكن الأهم والأكيد أن هناك كلمات تحمل دلالات متقاربة وبالإمكان إحلال إحداها محل الأخرى، واستعمل ابن باديس ألفاظا كثيرة يدلّ بها على معان متقاربة مثل (السعادة، النجاة، الوصول) و (الاقتداء، الاتساء والإتباع) و (الهلاك، الشقاء، لا نجاة، لا وصول) وغالبا ما يوظفها متعاطفة على بعضها البعض مثل " لا نجاة لهم من المهالك والمعاصي ولا لهم إلى طريق السعادة دنياهم وأخراهم" ومثل "فرض عليهم اتباعه والاتساء به... باقتداء آثاره والسير في سبيله" (41). يظهر لنا من هذه النماذج أن الترادف يحيلنا إلى شكل أسلوبي آخر وهو التك رير ،لأنه يقع لا يقتصر على وقوع اللفع في النص أكثر من مرة وفقط بل يتعدّاه إلى صياغة المعنى الواحد في ألفاظ متنوعة، والتكرير ظاهرة لغوية مقامية تقصد إلى التأكيد والتقرير، مما يساعد على الإفهام والإفصاح والكشف، أي على توكيد الكلام والتشييد من أمره، وتقرير معناه. كما أنّ له دوره في السبك المعجمي كأن يحيل إلى لفع مكرر أو لفع آخر سابق مرادف، أو مرادف قريب " (42) فابن باديس يكرر معانيه ويضعها في قوالب لفظية متنوعة ليحقق أهم غايات التكرار وهي التأكيد. خاصة وأن المتلقين لخطاب ابن باديس تطبعهم سمة التنوع فإن لم يؤثر أحد الألفاظ فسيؤثر فيهم الآخر بالضرورة.
كما أن التكرار من سمات المعلّم التي يكتسبها من ممارسته لهذه المهنة فيجد نفسه يقدّم المعنى ذاته في أشكال متنوعة حرصا على تقريب دلالات القرآن الكريم من عقل المتعلم فيتحقق الفهم عند المتلقين جميعهم ويتمكن المعنى من نفوسهم ويرسخ في أذهانهم .
آليات الحجاج في النص:
تصب علاقتا التقابل والترادف في تحقيق الحجاج الذي يعد مطلبا لا تنازل عنه في كل الخطابات مهما
تنوعت سماتها، فالخطاب رسالة يوجهها المرسل إلى المرسل إليه بغية إقناعه ، وحمله على التسليم بفحوى خطابه، "فالكاتب حين يباشر فعل الكتابة يضع في ذهنه صورة الآخر القارئ، الذي يكتب من أجله. فيكون حضور القارئ ابتداء من لحظة الكتابة التي تستدعي بطريقة لا إرادية القارئ الذي يصير جزءا هاما ومكملا لمفهوم القراءة" (43) ولا تقف آليات الحجاج عند التوظيف المعجمي بل هي مجموع ما يطوعه المتكلم بغية خدمة وجهة نظره عن طريق حمل المتلقي على التسليم بصحة موقفه والإذعان لمراده أولا ، والتبني لما يطرحه من وجهات نظر ثانيا. (44) ومن هذه الآليات أدوات التوكيد التي يحفل بها هذا النص والتي تشكل حقلا تركيبيا مهما يبين مدى حرص ابن باديس على إقناع المتلقي ومن هذا التوظيف : كثرة استعمال الجمل الاسمية مثل تكراره لعبا رة:" من الدعوة إلى الله....." (45) ليضيف إليها في كل مرة طريقة من طرائق الدعوة كقوله مثلا " ومن الدعوة إلى الله ظهور المسلمين –أفرادا وجاعات بما في دينهم من عفة وفضيلة..." – (46)
وكقوله :" الأمة التي بعث منها الن صلى الله عليه وسلم، وهي أول أمة دعاها إلى الله ، هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشتركة تعرف أن الله خلقها ورزقها ..." 4
ومن أدواته استخدام المؤكدات التي تشكل بذاتها حقلا معجميا يضم الألفاظ الآتية : (قد، لقد، كلهم، إنّ، هذا( والمقصود بإدراج اسم الإشارة هذا في حقل المؤكدات اللغوية هو ذلك التوظيف الذي اختاره له ابن باديس في سياقات متنوعة في النص، فالإشارة توحي بالحضور والمشاهدة والمشاهدة تعني الحقيقة وإثباتها عن طريق هذه المعاينة يجعل منها أداة من أدوات التوكيد التي تحث القارئ على الاقتناع بمحتوى النص ومن أمثلة ذلك في النص :" فلهذا أمر الله نبيه أن يبين سبيله بيانا..." ،" كانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة وجلية.." و" وإذا كان هذا المقام ثابتا لكل مسلم ومسلمة،....فأهل العلم به أولى وهو عليهم أحق..."
تكررت هذه الأدوات بشكل ملحوظ ولافت للانتباه وظيفتها جيعا تصب في الغاية الإقناعية التي كتب لأجلها هذا النص.
إضافة إلى هذه المؤكدات يبرز أسلوب القصر بتوظيف أدوات النفي والاستثناء كقوله:" ...وانّ اتباعهم له لا يتم إلا به.." وقوله: "لا يسميه إلا بما سمى به نفسه"، أو عن طريق توظيف "إنما "كقوله:" وإنما يتنوع الواجب بحسب الاستطاعة ...." أو عن طريق تقديم ما حقه التأخير كقوله:" ومن الدعوة إلى الله بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة."
الحقول الصرفية:
يلاحع قارئ النص ومن الولهة الأولى بروز صيغة التفضيل "أفعل" وهي صفة تؤخذ من الفعل لتدلّ على أنّ شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها (47) . ولاسم التفصيل أربع حالات (48) والحالة الوحيدة الواردة في النص هي إضافته إلى معرفة مثل قوله: "خلق الله محمدا صلى الله عليه وسلّم أكمل الناس" (49)، ومثل قوله:" ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه" (50) .
وكقوله: "ولأن الشرك هو أشرّ الضلال وأقبحه" (51) ، تدل هذه الصيغة على أنّ المفضل يفوق المفضل منه بشيء كبير لدرجة إلغاء المقا رنة بينهما فحين يقول محمد أكمل الناس فكأنه يقول محمد أكمل من كلّ الناسِ فهو حكم مطلق دال على الوصف الثابت للموصوف ولا وجود لوجه مفاضلة بينه وبين غيره في هذه الصفة، هذه الأحكام الصادرة من المتكلم توحي بالثقة الكبيرة التي ينطلق منها وأنه متأكِّد من معلوماته وله دليل قوي عليها، كيف لا ، وقد استمدها من القرآن الكريم والسنة النبوية هذه الثقة الكبيرة أكسبته جرأة في تصنيف مراتب الأمور ونسبة الأفضلية لإحداها دون الأخرى.
كما تبرز هذه الصيغة ثقة المتكلم بنفسه فهي تعد عاملا نفسيا مهما يستخدمه للتأثير في المتلقين يؤهله إلى قيادتهم إلى السبيل الذي يرى فيه السعادة والنجاة.
خاتمة:
بعد هذه المقاربة الدلالية لعينة من نصوص ابن باديس يمكننا أن نخلص إلى أن هذا النص يشكّل نظاما مفهوميا ينطلق من الرؤية القرآنية ولا ينفصل عن الواقع الجزائري، يوظف فيه ابن باديس مجموعة من الأنظمة الفرعية من صوت وصرف وتركيب ومعجم ليضمن له الاستمرار والإثمار. هدف هذا النظام هو تصحيح مسار الشعب الجزائري انطلاقا من رؤية القرآن الكريم للعالم.
الهوامش:
(1) الشيخ عبد الحميد بن باديس السلفية والتجديد:محمددراجي.دارالهدى،عين مليلة،الجزائر،دط، 2012 .ص 32 .
(2) تفسير بن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير : بقلم توفيق محمد شاهين.جع وترتيب: توفيق شاهين / محمد الصالح رمضان.دار الفكر،ط 3،1979 ،ص 709 .
(3) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير: عبد الحميد بن باديس .تح: أبو عبد الرحمن محمود، مح 1 دار الرشيد، دار ابن حزم: بقلم الإمام محمد البشير الابراهيمي.مج 1 ،ص 15
(5) عبد الحميد بن باديس مفكر الإصلاح وزعيم القومية الجزائرية: أندري ديرليك .تر: مازن بن صلاح مطبقاني. علم الأفكار الجزائر، 2013 ، دت،ص 228 .
(6) ينظر:عبد الحميد بن باديس مفكر الإصلاح وزعيم القومية الجزائرية،ص 238 .
(7) البشير الإبراهيمي: مقدمة مجالس التذكير من الكلام الحكيم الخبير ،ص 12
(8) في مقالة "حالة المسلمين التعيسة" الشهاب 11 سبتمبر 1927 م.
(9) عبد الحميد بن باديس مفكر الإصلاح وزعيم القومية الجزائرية ، ص 209 - 210
(10) مجالس مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير ،بقلم الإمام البشير الإبراهيمي.مج 1 ،ص 15 .
(11) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ج 1 ، ص 121 .
(12) الفكر العربي الحديث والمعاصر محمد عبده وعبد الحميد بن باديس أنموذجا عبد الكريم بوصفصاف. دار مداد،ط 1 ،2009 ،ج 2 ، ص 264
(13) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير،ج 1 ،ص 125 .
(14) صحيح: أخ رجه أبو داود 4970 وغيره عن حذيفة مرفوعا :" لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثّم شاء فلان."
(15) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير،ج 1 ،ص 130 .
(16) مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي:نور الهدى لوشن.المكتبة الجامعية الأزارطية، الأسكندرية،دط، دت،ص 372
(17) الكلمة دراسة لغوية ومعجمية: حلمي خليل. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية ط 2 ، 1996 . ص 192 .
(18) الدلالة والمعنى دراسة تطبيقية : عقيد خالد حمودي العزاوي عماد بن خليفة الدايني البعقوبي.دار العصماء،سوريا، - 1435 ه- 2014 م،ص 132 .
(19) علم الدلالة: أحمد مختار عمر.عالم الكتب، ط، 1428 ه- 2006 م،ص 79 .
(20) ينظر: ملكا افتش: اتجاهات البحث اللساني، تر: وفاء كامل فايد، عبد العزيز مطلوح، المجلس الأعلى للثقافة، ط 1 ، 2000 ، ص 65 - 67 .
(21) دينامية النص )تنظير وإنجاز( : محمد مفتاح. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ، المغرب، ط 4،2010 ،ص 61
(22) علم الدلالة : أحمد مختار عمر. دار العروبة ،انقره، ط 1 ، 1982 ،ص 79 .
(23) مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي.:ص 395 .
(24) المعاجم اللغوية المعاصرة قضاياه النظرية والتطبيقية :حميد مطيع العواضي. مؤسسسة – - - العفيف الثقافية، ط 1 ، 1999 م،ص 32 .
(25) الله والإنسان في القرآن علم دلال الرؤية القرآنية للعالم: توشيهيكو – إيزوتسو.تر:هلال محمد الجهاد. المنظمة العربية للترجة، بيروت، لبنان، ط 1 ، 2007 ،ص 45 .
(26) تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص :محمد فتاح. المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء، ط 3،1992 ،ص 123 .
(27) يوسف 108
(28) ينظر: مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير،ج 1 ، ص 127 .
* ربط في الوثيقة 3 بين الداعي والكاذب بخط متقطع لأنه ادعاء وليس حقيقة ولفظة الداعي في الأصل لا تطلق إلا على الداعي الصادق.
(30) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير:مج 1 ،ص 125 .
(31) محاضرات في علم الدلالة: خليفة بوجادي بين الحكمة، ط 2 ، 2012 ، ص 115 .
(32) مباحث في علم اللغة ومناهج البحث اللغوي ، ص 388 .
(33) أسلوب المقابلة في القرآن الكريم دراسة فنية بلاغية مقارنة كمال عبد العزيز إبراهيم . الدار الثقافية للنشر، ط 1 ، 2010 ، ص 15 .
(34) أسس مشروع النهضة عند الإمام عبد الحميد بن باديس: محمد بن سمينة. دار الكتاب العربي،الجزائر،ط 1 ، 2014 ،ص 152
(35) المرجع نفسه ، ج 2، ص 153 .
(36) البلاغة والتطبيق: أحمد مطلوب ص 433 .
(37) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير ، مج 1 ، ص 121 .
(38) المصدر نفسه، مج 1 ، ص 123
(39) ينظر: أسس مشروع النهضة عند الإمام عبد الحميد ابن باديس، ج 2 ،ص 155 .
(40) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير ، مج 1 ،ص 121
(41) الخطاب الإقناعي في ضوء التواصل اللغوي: عمارية حاكم. دار العصماء، سورية، ط 1 ، 2015 م ، ص 311 .
(42) الخطاب بين فعل التثبيت وآليات القراءة : عميش عبد القادر. دار الأمل، تيزي وزو،الجزائر، دط ، 2012 ، ص 53
(43) في تداولية الخطاب الأدبي: نواري سعودي أبو زيد.ص 96 .
(44) مجاس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ج 1 ،ص 124 - 126 .
(45) المصدر نفسه، ص 126 .
(46) المصدر نفسه،ج 1 ،ص 129
(47) جامع الدروس العربية: مصطفى الغلاييني. المكتبة العصرية، بيروت، 1425 هـ، 2004 م، ج 1، ص 143
(48) تجرده من "أل" والإضافة، اقترانه بـ"أل"، إضافته إلى نكرة، إضافته إلى معرفة.ينظر المرجع نفسه،ج 1 ، ص 145 - 146 .
(49) مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير مج 1 ، ص 121
(50) المصدر نفسه، مج 1 ، ص 128
(51) المصدر نفسه، مج 1، ص 129
سارة بوفامة- جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية