المنهج العام لخطاب الفتوى لدى الإمام العربي التبسي (تأصيل وتحليل)
بقلم: د. الذوادي قوميدي-
تتناول هده الدراسة قراءة تأصيلية وتحليلية لخطاب الفتوى لدى الإمام الشهيد الشيخ العربي التبسي رحمه الله، لاستخراج الخصائص العامة لمنهج الإفتاء الذي سلكه ذلك العلامة الكبير، وبيان جوانب التفوق في الصناعة الفقهية التي برع فيها رحمه الله.
وإن الحديث عن الإمام الشهيد العربي التبسي هو ذاته الحديث عن مرجعيتنا وأصالتنا وجذورنا، هو الحديث عما ينبغي أن نتذاكر فيه دوما وننفض عنه غبار النسيان.. هو الحديث عن منهجنا المتميز في الدعوة والإصلاح والتجديد.
والقراءة المتخصصة المتأملة في خطاب الفتوى لدى العلامة العربي التبسي ترينا بوضوح مدى استجماعه لآلة الاجتهاد من الأصول والقواعد والشروط التي يقوم عليها نظام الإفتاء، كما ترينا جوانب التفوق في الصناعة الفقهية التي برع فيها رحمه الله.
ولم يقتصر منهج الإفتاء عند الإمام العربي التبسي على حسن استنباط الفتوى من النصوص والمصادر الاجتهادية فحسب؛ بل تعدى إلى توظيف المقاصد الدعوية والإصلاحية وإرفاق الفتوى بالتوجيهات المكملة لتلك المقاصد.
وسأقصر بحثي حول جانب واحد من جوانب تلك الشخصية الكبيرة، وسأقف على مساحة صغيرة من شاطئ بحر واسع من العلم والفهم والدعوة والإصلاح والتجديد والجهاد.
إننا حين نقرأ القليل -ولا أقول الكثير- عن شخصية ذلك الإمام العلامة الفقيه المجتهد المجاهد.. نحس بالتضاؤل الشديد، بل ربما يداخلنا الحياء من الوقوف أمام هذه النفس العظيمة.. بيد أن وخز الواجب لا يفتأ يستنهضنا، للعناية برجال خلفوا لنا أمانة العلم والدعوة والإصلاح، لنحملها عنهم ونتدارسها ونتفهمها ونتوارئها فكرا ومنهجا.
وتلك -لا شك- غاية الغايات، فإن الذي أصابنا - نحن المسلمين - هو داء التناسي والنكران لما نملك من تراث خلفه لنا رجال للعلم والدعوة والإصلاح والتجديد والاجتهاد. وأي رجال؟
الشيخ العربي التبسي في سطور:
أحد أعمدة الإصلاح في الجزائر، وأمين عام جمعية العلماء والمجاهد البارز الذي خطفته يد التعصب والغدر الفرنسية عام 1957 م ولم يسمع له ذكر بعدها.
ولد الشيخ العربي عام 1895 م في بلدة (السطح) من أعمال (ثبسة)، حفظ القرآن في قريته، ثم انتقل إلى تونس لتلقي العلم في زاوية (الشيخ مصطفى ابن عزوز)، انتقل بعدها إلى جامع الزيتونة؛ فنال منه شهادة الأهلية وعزم على الانتقال إلى القاهرة لمتابعة التحصيل العلمي في الأزهر.
عاد إلى الجزائر عام 1927 م واتخذ من تبسة مركزا له، وفى مسجد صغير في قلب المدينة انطلق الشيخ في دروسه التعليمية، وواصل الليل بالنهار لإنقاذ الشعب من الجهل وذل الاستعمار، وبدأت آثار هذا الجهد تظهر في التغيير الاجتماعي والنفسي لأهل ثبسة؛ حيث بدأت تختفي مظاهر التأثر بالفرنسيين وبدأ الناس يلتفون حول رجال الإصلاح.
وكالعادة ضيق على الشيخ، فنصحه ابن باديس بالانتقال إلى غرب الجزائر، فاستجاب لذلك، ولكن أنصاره في تبسة ألحوا عليه بالعودة وأسسوا مدرسة طلبوا منه أن يكون أول مدير لها.
وبعد وفاة ابن باديس رحمه الله تعالى ونفي الإبراهيمي، اتجهت الأنظار إلى الشيخ العربي ليتحمل المسؤولية ويتابع الرسالة الإسلامية، وتوافد إليه طلاب العلم من كل مكان، وفي عام 1947 م تولى العربي إدارة معهد ابن باديس في قسنطينة فقام بالمهمة خير قيام. يقول عنه الإبراهيمي رحمه الله: «والأستاذ التبسي -كما شهد الاختبار وصدق التجربة- مدير بارع ومرب كامل، خرجته الكليتان الزيتونة والأزهر في العلم، وخرجه القرآن والسيرة النبوية، فجاءت هذه العوامل في رجل يملأ جوامع الدين ومجامع العلم ومحافل الأدب.
وفي عام 1956 م انتقل الشيخ إلى العاصمة لإدارة شؤون الجمعية فيها، واستأنف دروسه في التفسير، وكان شجاعا لا يخاف فرنسا وبطشها، يتكلم بالحق، ويدعو للجهاد ولم يأبه لتحذير الناصحين المحبين له الذين خافوا عليه من فرنسا والتي كانت تعلم مكانته بين صفوف الجماهير، وأثره عندما يدعوها للجهاد، وهو ليس من الناس الذين يتكلمون ولا يفعلون؛ بل يقول: لو كنت في صحتي وشبابي ما زدت يوما واحدا في المدينة؛ أسرع إلى الجبل، فاحمل السلاح، فأقاتل مع المجاهدين.
وفي 17 من (أفريل) عام 1957 م امتدت يد (الجيش السري) الذي شكله غلاة الفرنسيين المتعصبين لتخطف الشيخ العربي من منزله، وليكون في عداد الشهداء، رحمه الله رحمة واسعة(1).
وجدير بأمة أنجبت مثل الشيخ التبسي أن توفيه حقه وأن تذكر الأجيال بمناقبه وأعماله.
خطاب الفتوى ومقاييس التجديد:
خطاب الفتوى فرع من الخطاب الإسلامي عموما، وكلمة الخطاب تفيدنا بدلالتها اللغوية معنى التفاعل المتبادل بين طرفين، والغاية منه الوصول إلى المقاصد الإصلاحية والتجديدية بما يتناسب مع تجدد الحياة في أساليبها وأشكالها ومشكلاتها.
والإفتاء هو التأطير الشرعي للحياة الإنسانية بمختلف جوانبها، وهو مهمة علماء الأمة في كل عصر، وآلية تجديد خطاب الفتوى هي الاجتهاد، والاجتهاد هو مناط القوة والتقدم للأمة الإسلامية، والفقيه المجتهد لا ينحصر دوره في استخراج الأحكام، وإنما يتجاوز ذلك إلى العمل المستطاع في توجيه الحياة البشرية، نحو الالتزام الكامل بما شرعه الله لعباده، ومن هنا يكون الاجتهاد قوة عقلية للبحث وكذلك قوة إرشاد و إننار وتغيير(2).
و«الاجتهاد لا يعتبر مجرد ضرورة اجتماعية تفرضها التطورات المعاصرة، وإنما هو مظهر حي لطاقات الأمة ومعيار من أهم معايير تفوقها الحضاري، وسلامة مسيرتها الفكرية»(3).
ومن هنا كان المطلوب من علماء الأمة في كل عصر التصدي والتحدي لما يواجههم من مستجدات في مختلف مجالات الحياة، لتحقيق الحاجة الواقعية، ولإثبات استجابة الشريعة، وقيامها بحاجة العصر.
وإن التجديد الإفتائي المطلوب ليس معناه مطاوعة الواقع بحوادثه ولي أعناق الثوابت من النصوص والقواعد لتنحني للواقع اللا محدود بالطاعة والتقديس.
ولا يتحقق بالجمود القاصر على الصور والأشكال المرتبطة بالأطر الظرفية الزمنية والمكانية.
إن «التجديد الحق يعني العودة إلى الإسلام الأول قبل أن تشوبه بدع المبتدعين، وتضييقات المتشددين، وتحريفات الغالين، وانتحالات المبطلين، وتأويلات الجاهلين، وعدوى التشويه التي أصابت الملل والنحل من قبل»(4).
والتجديد في خطاب الفتوى ينبغي أن يراعي المقاييس الآتية:
1- اختلاف أعراف الناس واختلاف مصالحهم وتعدد حاجاتهم، وتغيرها عبر الزمان والمكان.
2- النظر في اختلاف المذاهب الفقهية، وتعدد الآراء العلمية، وكون بعضها أنسب للمجتمع، وأصلح للتطبيق في مكان معين أو زمان معين.
3- انطباق الحكم على الواقعة بناتها أو عدم انطباقه، وذلك أن الشريعة لم تنص على كل أحكام الجزئيات، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة، تتناول أعدادا لا تنحصر من الوقائع، ولكل واقعة معينة خصوصية ليست في غيرها.
والتجديد خاصية من خصائص الرسالة الإسلامية الصالحة لكل زمان ومكان، وهو لازم من لوازمها، وضمان لبقاء قدرتها على التكيف مع متغيرات الزمان والمكان، والاستجابة لمتطلبات المسيرة الإنسانية المتواصلة، وحركة الحياة المستمرة في كل عهودها ومجتمعاتها ومعطياتها المختلفة.
وفي الشريعة الإسلامية مساحة واسعة تركتها النصوص قصدا لاجتهاد المجتهدين في الأمة ليملؤوها بما هو أصلح لهم وأليق بزمانهم وحالهم، مراعين في ذلك المقاصد العامة للشريعة، مهتدين بروحها ومحكمات نصوصها.
ومعظم النصوص جاءت في صورة مبادئ كلية وأحكام عامة، ولم تتعرض للجزئيات إلا فيما كان شأنه الثبات والدوام كشؤون العبادات والأسرة، أما فيما عدا ذلك مما يختلف تطبيقه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد فكانت النصوص فيه –غالبا- عامة ومرنة إلى حد بعيد، ولم يلزم الشارع الناس بصور جزئية قد تصلح لعصر دون عصر، أو لإقليم دون إقليم، أو لحال دون آخر، لئلا
يضيق عليهم فيعنتوا. والشريعة الإسلامية راعت الضوورات والحاجات والأعذار التي تنزل بالناس، فقدرتها حق قدرها، وشرعت لها أحكاما استثنائية تناسبها، وفقا لاتجاهها العام في التيسير على الخلق.
ومن المعلوم أن أحكام الشريعة إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد، وإقامة القسط بينهم، وهذا ما ينبغي مراعاته عند تفسير النصوص وتطبيق الأحكام، فلا يجمد الفقيه على موقف واحد دائم يتخذه في الفتوى أو التعليم أو التأليف، وإن تغير الزمان والمكان والعرف والحال، بل ينبغي عليه مراعاة مقاصد الشريعة الكلية وأهدافها العامة عند الحكم في الأمور الجزئية الخاصة..(5).
ويتصل بهذا مراعاة العرف والعادة، ومنه لا يجوز -منهجيا- للفقيه أن يجمد على ما سطره الفقهاء الأسلاف، فينقل عنهم الفتوى التي استخرجوها لواقعهم وحالهم وزمانهم، ويسعى لتنزيلها على واقعه دون تثبت، فهذا بالذات ما أنكره أئمة الفتوى، يقول القرافي رحمه الله موجها كل فقيه: «..ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، فلا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»(6). وتعليل هذا التقعيد المتوارث -كما يقول الإمام القرافي نفسه-: «أن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء، إن حكمهما ليس سواء»(7).
والمتتبع لحوادث التاريخ وشخصياته وحقائقه، يدرك أن تاريخ الإصلاح والتجديد متصل في الإسلام، وأن المصلحين والمجددين قد ظهروا حينا بعد حين، وحفظوا للاسلام جدته وشبابه.
ومن أعلام أمتنا الذين حملوا لواء الإصلاح والتجديد العلامة الإمام الشهيد العربي التبسي رحمه الله، الني تحققت فيه بجدارة شروط الأهلية الاجتهادية، وتكاملت فيه مقاييس التجديد والإصلاح.
وحين نقرأ ما دونه العلماء في شروط التأهيل الاجتهادي سواء منها الشروط العلمية أم الفطرية، نجدها مستجمعة في شخصية الإمام العربي التبسي على كمالها.
استجماع شروط الفتوى في الشخصية العلمية للامام العربي التبسي:
ذكر الخطيب البغدادي رحمه الله بالسند عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرا باللغة، بصيرا بالشعر، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار، ويكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي»(8).
وبعد نكر الشروط العامة لأهلية الإفتاء قال: «ثم يكون عالما بالأحكام الشرعية، وعلمه بها يشتمل على معرفته بأصولها وارتياضه بفروعها.
وأصول الأحكام في الشرع أربعة:
أحدها: العلم بكتاب الله، على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام: محكما ومتشابها، وعموما وخصوصا، ومجملا ومفسرا، وناسخا ومنسوخا.
والثاني: العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها في التواتر والآحاد، والصحة والفساد، وما كان منها على سبب أو إطلاق.
والثالث: العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، واختلفوا فيه، ليتبع الإجماع، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف.
والرابع: العلم بالقياس الموجب لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها، والمجمع عليها، حتى يجد المفتي طريقا إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الحق من الباطل، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه».
وأورد الخطيب البغدادي عن أبي نعيم بالسند عن الفضل بن محمد الشعراني، قال: سمعت يحيى بن أكثم، وسئل: متى تحب للرجل أن يفتي قال: إذا كان بصيرا بالرأي، بصيرا بالأثر.
ثم قال الخطيب: وينبغي أن يكون: قوي الاستنباط جيد الملاحظة، رصين الفكر، صحيح الاعتبار، صاحب أناة وتؤدة، وأخا استثبات وترك عجلة، بصيرا بما فيه المصلحة، مستوقفا بالمشاورة، حافظا لدينه، مشفقا على أهل ملته، مواظبا على مروءته، حريصا على استطابة مأكله، فإن ذلك أول أسباب التوفيق، متورعا عن الشبهات، صادفا عن فاسد التأويلات، صليبا في الحق، دائم الاشتغال بمعادن الفتوى، وطرق الاجتهاد، ولا يكون ممن غلبت عليه الغفلة، واعتوره دوام السهر، ولا موصوفا بقلة الضبط، منعوتا بنقص الفهم، معروفا بالاختلال، يجيب بما لا يسنح له، ويفتي بما يخفى عليه.. وفي معرفة من يصلح أن يفتي تنبيه على من لا تجوز فتواه».
وقال: لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق بطرف من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم فمن شرط المفتي النظر في جميع ما ذكرناه»(9).
فهذا الذي أشرنا إليه مما دونه علماؤنا من شروط ومقاييس للاجتهاد والفتوى قد أخذ منه علامتنا الإمام الشهيد العربي التبسي رحمه الله بالنصيب الأوفى والحظ الأوفر. وقد شهد له من عرفه كالعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بفضل العلم ووفور العقل وحدة الذكاء وشدة الحزم(10).
ويكفي الإمام الشهيد العربي التبسي شهادة على تربعه على أهلية الإفتاء اعتماده رئيسا للجنة الفتوى من قبل جمعية العلماء، وقد أعلن ذلك في جريدة البصائر عدة مرات(11).
ملامح منهج الإفتاء عند الشيخ العربي التبسي:
لقد طالعت بتمعن واهتمام شديدين ما حفظ لنا من فتاواه رحمه الله، فوجدت أنه جمع خصائص جمة قلما تجتمع في فقيه مجتهد، وهذا الذي ينير العجب الشديد، لقد جمع رحمه الله في خطاب الفتوى كل أصول الإفتاء وآليات الاجتهاد الفطرية والمعرفية، كما حصل القدر الكبير من التوفيق في فتاواه، وإن من أهم ما نستنبطه من ملامح منهج الإفتاء عنده بعد الاستقراء المتأمل لفتاواه ما يأتي:
1- اعتماد مصدرية النصوص في الاستدلال على الأحكام.
2- تقديم النصوص الشرعية على أقوال الفقهاء.
3- الرجوع إلى كتب التفسير وشروح السنة.
4- حسن الفهم والتعليل والتفريق.
5- التفصيل في الجواب على احتمالات السؤال.
6-الأخذ بالقواعد الأصولية والقواعد الفقهية في الفتوى.
7- الأخذ بقواعد التحديث مما له صلة بالاستنباط.
8- إنكار التقليد والرد على المقلدين الجامدين.
9- الرد العلمي على المخالف ومناقشته.
10- مراعاة حق الاختلاف والاعتراف بحق الاجتهاد مع الترجيح لما يراه وبيان أساس الترجيح.
11- بروز المقاصد الدعوية والإصلاحية في فتاواه.
أنمونج من فتاواه رحمة الله عليه:
إن العجيب حقا أن تجتمع معظم هذه الملامح في الفتوى الواحدة، مما ينبئ عن عبقرية فذة لا تجارى، يظهر ذلك في هذه الفتوى التي نوردها كأنموذج، ثم نعقبها ببعض التحليل:
سؤال الفتوى: ما قول سادتنا العلماء في من سب الدين من رعاع المسلمين وسفهائهم، هل ذلك السب يخرج به الساب عن الملة ويعتبر به مرتدا داخلا فيمن تشملهم الآية: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ»[الزمر:65]. افيدونا.
الجواب: إن هذا الشخص الذي سب الدين لا يخلو حاله من أحد احتمالين:
الاحتمال الأول: أن يكون مستعملا للفظ في معناه اللغوي الشرعي، عالما بجريمته، قاصدا لسب الدين، فاهما أن سب الإسلام أو من جاء به، أو من يعد سبه ردة في الإسلام، فهذا الشخص كافر، داخل في قوله تعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» [الزمر:65]، ومستهزئ بالله وآياته، وكفره فوق كفر من عبد غير الله، لأنه ممن قال الله فيه: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا» [الأحزاب:57].
الاحتمال الثاني: أن يكون هذا الساب ناقلا كلامه من معناه اللغوي إلى معنى جديد متعارف عند من كان على شاكلته، نقلا ينسخ المعنى اللغوي، وذلك بطرو استعمال جديد، عرف على هذا اللفظ، كما يطرأ العرف على اللغة في كثير من الألفاظ طروا عاما عند الناس كلهم أو عند فريق منهم.
فإذا تصورنا هذا الاحتمال أمكن أن نقول: إن هذا الساب للدين قد نقل لفظ الدين من معناه الشرعي اللغوي إلى إهانة من يخاصمه ويتشاجر معه، واستعمل كلامه البشع القبيح في سب الشخص الذي تنازع معه، وذلك هو مراده، وذلك ما يفهمه خصمه أيضا، وقد يجيب خصمه أيضا منتقما منه بذلك اللفظ نفسه، مريدا هو كذلك سب خصمه، وكلاهما لا يفهم ولا يريد بسبه إلا خصمه، والدليل على هذا العرف وهذا النقل أن المقام الذي تستعمل فيه هذه الألفاظ هو مقام مشاجرة وخصام لا مقام كفر وردة، وإذا علمنا مقاصد المتسابين أنهما لم يريدا الكفر والردة لم يجز لنا أن نحكم عليهما بالردة والكفر، ذلك أن الأعمال بالنيات، وهذا السب عمل لساني ليس من مقصد أهله سب الإسلام أو من يعد سبه ردة.
هذا ما فهمناه من هذه الحادثة الكثيرة الوقوع التي لو أجرينا الحكم فيها على ظاهر اللفظ غاضين النظر عن مقاصد الناس التي لا يجوز غض النظر عنها في الأحكام الشرعية، لحكمنا بردة ما لا يقل عن ثلث الأمة في الشمال الإفريقي، ونحن مع قولنا بعدم ردة أهل الاحتمال الثاني نقول: إن عملهم هذا معدود من منكر القول وفحشه، ومن الأقوال التي تحتمل الكفر والتفسيق، وما كان كذلك كان حراما بإجماع المسلمين.
فعلى العلماء والمدرسين والواعظين، والداعين إلى الله أن يقاوموا هذه الشناعات بكل ما أعطاهم الله من قوة الحجة، في باب الترغيب والترهيب، وإن هذا لمن أوكد الواجبات عليهم، لأنه حماية للدين وعلماء الدين هم حماته. اهـ(12).
والقراءة التأصيلية والتحليلية لهذه الفتوى تظهر لنا بوضوح مدى استجماع الإمام العلامة العربي التبسي لشروط الاجتهاد ومناهج الإفتاء، كما ترينا مدى توافر أنموذج الفتوى الصحيحة بكل الموازين والمقاييس المنهجية التي دونها الأصوليون والمنظرون للفتوى قديما وحديثا.
وإذا أردنا الإشارة إلى بعض ما تستشفه من هذه الفتوى فإننا نسجل التقاط الآتية:
1- تفصيل الجواب مراعاة لاحتمالات السؤال.
2- مراعاة قواعد مقصود الخطاب وتحري نوع الخطاب من لغوي وشرعي وعرفي.
3- بناء الحكم على تحري قصد المكلف، عملا بقاعدة الأمور بمقاصدها المأخوذة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات). ذلك أن تعلق الحكم الشرعي بالعبد لا يكون إلا إذا توفرت شروط التكليف على كمالها، ومنها: العلم التام المنافي للجهل الذي قد يكون نوعا من العذر، ثم القصد التام من المكلف لمعنى تصرفه، لينتفي عذر الخطأ الذي هو نوع آخر من الأعذار.
4- مراعاة عرف الاستعمال، وهو ما ينتشر استعماله عند الناس، ويكون لهم فيه قصد ثابت لا يختلفون فيه، بحيث ينصرف إليه الكلام أو التصوف عند إطلاقه. وهذا ما تحراه رحمه الله تعالى في هذه الفتوى.
5- الاحتياط في الأحكام الشديدة المتعلقة بالكفر والردة.
6- مراعاة عموم البلوى، كما إذا كثرت الحوادث وتكررت كما في مسألة السب المذكورة. بحيث لو حكم بمقتضى ظاهر النصوص والأدلة وظاهر كلام المكلفين دون تحر لمقصود الشرع ومقصود المكلف، لأدى ذلك إلى أحكام شديدة قد يكون ضررها العام مستشريا فاحشا.
7- بروز المقاصد الدعوية والإصلاحية في فتواه، وذلك بإرفاقها بالتوجيهات المكملة لتلك المقاصد، وهو ما نقرأه في وصيته -رحمه الله- للعلماء والمدرسين والواعظين بمقاومة تلك الشناعات والمنكرات القولية وغيرها.
الخاتمة:
والنتيجة: إن ما بلغه الإمام الشهيد العربي التبسي من منزلة علمية وكفاءة اجتهادية يدل على عبقرية فذة، وتميز سابق، وإن أمة تملك مثل هذه العبقريات لا يجوز لها أن تتوانى وتتكاسل عن واجب البحث والدراسة لاستنباط معالم المنهج الإفتائي الذي هو من صميم أصالتنا، والذي لا يقل أهمية عن تراث العبقريات الكثيرة في البلاد الإسلامية المشرقية والمفربية، وهو جانب اعتزاز طالما تناسيناه.
الهوامش:
(1) انظر: منارات من شهاب البصائر، جمع وتصنيف وتحقيق أ.د. أحمد عيساوي، من ص 35-72، مجلة البيان العدد 13.
(2) انظر: الاجتهاد والتقليب في الشريعة الإسلامية، د. محمد الدسوقي، دار الثقافة - الدوحة، ط1، 1407 هـ-1987 م، ص9-10.
(3) أبحاث إسلامية، د. محمد فاروق النبهان، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط1، 1406 هـ-1986 م، ص105.
(4) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، د يوسف القرضاوي، مكتبة رحاب - الجزائر، ط2، 1409 هـ-1089 م، ص 59.
(5) انظر: عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية، د.يوسف القرضاوي، دار الصحوة للنشر، الطبعة الأولى، 1985 م، باختصار.
(6) الفروق، للإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي (تـ684 هـ). تحقيق د. عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية - بيروت، ط1، 1423 هـ-2002 م، ج1، ص198.
(7) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، لشهاب الدين أبي العباس الصنهاجي البهنسي القرافي (تـ684 هـ)، حققه أبو بكر عبد الرزاق، المكتب الثقافي - الأزهر -القاهرة، ط1، 1989 م، ص118.
(8) الفقيه والمتفقه، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، المعروف بالخطيب البغدادي (463-392 هـ)، تحقيق عادل بن يوسف العزازي، دار ابن الجوزي بالسعودية، سنة 1417 هـ، ج1، ص34 .
(9) الفقيه والمتفقه، ج2، ص35.
(10) انظر: مقال للشيخ الإبراهيمي: رحلتي إلى الأقطار الإسلامية، جريدة البصائر، السلسلة الثانية، السنة الخامسة، عدد 197، الاثنين 26 جويلية 1952 م/ 29 شوال 1371 هـ، ص1.
(11) منها العدد 104، السنة الثالثة، السلسلة الأولى بتاريخ 18 مارس 1938 م، ص2.
(12) انظر: الأعمال الكاملة للشيخ العربي التبسي، جمع وإعداد أحمد الرفاعي الشرفي، دار اليمن، قسنطينة، الجزائر، طبعة مزيدة ومنقحة، 2005م.
د. الذوادي قوميدي- جامعو باتنة.
المصدر: مجلة الإحياء – العدد 15.