جمعية العلماء في ذكراها الثانية والثمانين
بقلم: قدور قرناش-
يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – في رسالة وجهها لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الذكرى الثانية والستين لتأسيسها : “عندما يتصدع بناء قائم، فإن إعادته إلى قوته وتماسكه يحتاج إلى مهندس خبير، يعرف الدعائم والشرفات في أصل البناء، ويعرف ماعراها من عطب، ويعرف كي يعود بالبناء إلى حالته الأولى” وهو بالفعل ما توفر لجمعية العلماء..
حيث خبرت سبب تصدع البنيان الذي أتى على الهوية أو كاد بما تحمله من مكونات، وإن أبلغ ما يوضح ذلك التصدع المقولة الشهيرة للعدو الفرنسي التي رافقت احتفالاته المئوية على احتلال الجزائر، إذ جاء على لسان أحدهم (اليوم نشيع جنازة الإسلام في الجزائر) وهو أمر أثار حفيظة الشيخ عبد الحميد ابن باديس – رحمه الله – كغيره من الوطنيين المخلصين في هذا الوطن فأقسم يميناً بأنه إن فعلت فرنسا هذه السنة هذا فإنها لن تعاود، ولقد جاء في الأثر (أن لله عباداً لو أقسموا على الله لأبرهم).
لكن الذي يجب أن نعلمه أن هذه اليمين من الشيخ لم تكن أقوالاً تلوكها الألسن بل سبقتها جهود ربطت الليل بالنهار، وهذا ما يشير إليه الشيخ الغزالي لما يقول: “إن إعادة البنيان إلى قوته وتماسكه يحتاج إلى مهندس خبير” فقد تعددت الجهود وتكاثفت فأثمرت ذلك الميلاد المجيد، ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بنادي الترقي يوم 05 ماي 1931، فبقدر ما كان الهجوم الفرنسي شديد، بقد ما كان الدفاع باسلاً رائعاً فبقي الإسلام وبقيت العروبة، وبقي شعب الجزائر متمسكاً بتراثه الخالد.
ونحن نحيي الذكرى الثانية والثمانين لتأسيس هذه الجمعية المباركة لا يغيب عن أذهاننا أن اللبنة الأولى لتأسيسها كانت سنة 1913م إذ يقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله (وأشهد الله على أن تلك الليالي من عام 1913 هي التي وُضِعَتْ الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والتي لم تبرز للوجود إلا في عام 1931م).
هذه الجمعية المباركة يقول فيها أيضاً الإمام الإبراهيمي (اسم الجمعية يفصح عن حقيقتها، فهي جمعية علماء يخدمون الإسلام بتبيين حقائقه ونشر علومه بالجزائر وما صنعه الاستعمار الفرنسي بها).
وجمعية بهذا الحجم تأسست على تقوى من الله عز وجل ما خرجت للوجود إلا بعدما رسم القائمون عليها جملة من الأهداف يسعون لتحقيقها، نذكر منها:
-تصحيح العقيدة ونبذ الخرافات.
-إيجاد المسلم الإيجابي في حياته المقبلة عليها إقبال العارف بأهدافه وغاياته، المسلم القادر على تحمل المسؤولية والأمانة التي وكلت إليه، المسلم الذي يحافظ على حقوقه ويعطي المجتمع حقه.
-إيجاد مجتمع جزائري مستقل له أصالته وذاتيته الحضارية، مجتمع له تنظيماته وخصائصه، مجتمع عادل يحترم كرامة الإنسان، مجتمع متكافل يعلي قدر القيم الروحية، مجتمع ينبذ التأخر الفكري والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
لذلك لا نعجب لما يغير المفكر الإسلامي الكبير مالك بن نبي – رحمه الله – رأيه تغييراً جذرياً من نظرته لجمعية العلماء لما تجاوز اندفاعية الشباب وفكر بحكمة استمع بعدها لصوت العقل بعيداً عن حماسة الشباب، إذ يقول – رحمه الله – “إن معجزة الحياة في الجزائر بدأت بصوت الشيخ عبد الحميد بن باديس ونداءه الخالد الذي أيقظ المعنى وحول مناجاة الفرد إلى حديث الشعب” وفي سياق الشهادات المعبرة عن الإعجاب بالجمعية والاعتراف بفضلها نسوق قول شاعر الثورة مفدي زكرياء – رحمه الله – إذ يقول:
جمعية العلماء المسلمين ومن *** للمسلمين سواك اليوم منشود
خاب الرجا في سواك اليوم فاضطلعي *** بالعبء مذ فر دجال وعربيد
سيروا ولا تهنوا فالشعب يرقبكم *** وجاهدوا فلواء النصر معقود
أمانة الشعب قد شدت بعاتقكم *** فما لغيركم تلقى المقاليد
كما لا يفوتني وأنا أكتب عن جمعية العلماء في ذكرى تأسيسها الثانية والثمانين أن أذكر ببعض ما جاء على لسان الإمام الإبراهيمي في خطاب ألقاه في الاجتماع العام لجمعية العلماء إذ يقول: “إن جمعيتكم هذه أسست لغايتين شريفتين لهما في قلب كل عربي مسلم بهذا الوطن مكانة لا تساويها مكانة وهما إحياء مجد الدين الإسلامي، وإحياء مجد اللغة العربية” إلى أن يقول “هذه هي غاية الجمعية تسعى لها وتبذل كل عزيز في الوصول إليها، وسواء تبدلت الإدارة أو بقيت، وسواء واجهها الدهر بالبشر والطلاقة أو بالتهجم والعبوس، وسواء أحسنت العبارات تأدية معناها للناس أو لم تحسن، وسواء خفت لهجات الناشرين لدعوتنا أو اشتدت، فتلك هي الغاية، وتلك الحالات كلها إنما هي أعراض تسرع بالجمعية إلى الكمال أو تبطئ، ولكنها لا تخرجها عن المبدأ ولا تزحزحها عن جادته”.
فما أشبه اليوم بالبارحة، إذ وكأني بالشيخ الإبراهيمي يقرأ واقعنا الآن ويكتب له فالخلف الصالح لهذه الجمعية والبقية الصالحة من سلفها تراهم في خدمة رسالة جمعية العلماء يتعرضون لمثل هذا إلا أنهم –إن شاء الله – على نهج الماهدين الأولين يتجاوزون الصعاب بالصبر والبذل والتضحية والحكمة لمواصلة الرسالة السامية والخالدة لهذه الجمعية، التي كان تغييبها بعد الاستقلال ضربة موجعة تتجرع الأمة اليوم ضريبة ذلك التغييب، ورغم هذا الذي أصابها إلا أن شيوخها ما رموا المنشفة وما ضيعوا الأمانة بل جابهوا الصعاب وواصلوا المسيرة كل من موقعه، فمنهم من توجه للوعظ والإرشاد، ومنهم من توجه للتربية والتعليم، وآخر للتأليف فكانت بصماتهم ظاهرة أينما حلوا وارتحلوا.
إلى أن من الله عز وجل على الأمة ببعث جمعية العلماء من جديد سنة 1991م وهي اليوم تمثل الأمل للجزائريين – وما شهدنا إلا بما علمنا – إذ هي المرجعية التي يتوحد حولها الشعب الجزائري، وكأني بأبناء بلدي تجاه جمعية العلماء يصح فيهم قول الشاعر:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم *** وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
فهي كما هي، تبدلت الظروف والأحوال وتعاقبت الشهور والسنين وجمعية العلماء هي جمعية العلماء، حتى وصل بالشيخ عبد الرحمن شيبان – رحمه الله – أن قال في حقها “إن جمعية العلماء هي الصابون الذي نتنظف به” والأمل كل الأمل أن لا ندع هذا الصابون يتوسخ، والأكيد أن كل أبناء الجمعية يهمهم ذلك.
واختم كلامي بمثل ضربه الشيخ البشير الإبراهيمي لجمعية العلماء حيث قال: “إني لم أر مثلاً لجمعيتكم هذه، وهي لم تزل في المهد إلا شيئاً نسميه تباشير الصبح يرتاح لها الساري في ظلمات الليل لأنه يرى فيها العنوان الصادق على قرب الخروج من المعاسف والخبط في مضلات السبل، ويرتاح لها المهموم الساهر الذي يبيت يراعي النجوم لأنه يرى فيها متنفساً لهمه وسبباً لسلواه، وإن لم تكن حداً لبلواه.
ويرتاح لها المقرور الشاتي لأنه يرى فيها مخاييل من آية النهار.
ويرتاح لها الناسك لأنه يسمع فيها الداعي المثوب بعبادة ربه.
ويرتاح لها الشاعر لأنه يرى فيها مسرحاً لخياله وافقاً لروحانيته.
ويرتاح لها العامل الملتذ بعمله لأنه يرى فيها الأمارة المؤذنة بقرب وقت العمل.
ولكن هل يدرك النائمون شيئاً من تلك اللذة؟ نعم إن جمعية العلماء هي تباشير الصبح وترونها تتصدع عن فجر صادق ثم عن شمس مشرقة”
هذه الشمس المشرقة لا نرى أنفسنا إلا نستنير بنورها اليوم كما الأمس وبها نرى المستقبل إن شاء الله، وكي يعلم القاصر الداني بأن جيل جمعية العلماء لا يزال على العهد، يعود مثلا إلى مؤتمر الجمعية سنة 2008 حيث كتبت جريدة الشروق اليومي بالبند العريض لم رأت ذلك النجاح الباهر في جمع أبناء الأمة ممن فرقتهم المحنة الوطنية “ما لم تستطع السلطة أن تفعله خلال 14 سنة فعلته جمعية العلماء في مؤتمرها” وتكرر الأمر نفسه مع المؤتمر الاستثنائي سنة 2011 الذي أسفر عن انتخاب الشيخ عبد الرزاق قسوم رئيساً لجمعية العلماء، حيث كتبت جريدة الخبر بعد المؤتمر خبراً بعنوان “الديمقراطية في أبهى صورها في أقدم تنظيم جزائري”.
وبإذن الله عز وجل تسير جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نحو النجاح الباهر بحول الله في مؤتمرها القادم يومي 31 ماي و01 جوان 2013 كما عودت الأمة دائماً.
فهنيئاً لجمعية العلماء في ذكراها الثانية والثمانين والسلام على الماهدين الأولين المؤسسين يوم ولدوا ويوم ماتوا والسلام عليهم يوم يبعثون أحياءاً، وإنا إن شاء الله على نهجهم سائرون، فنم قرير العين يا ابن باديس ويا رفاق ابن باديس فالوارثون لما تركتم كثير.
* عضو المجلس الوطني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين