في ذكرى اغتيال الأديب الكبير مولود فرعون
بقلم: رياض حاوي-
في 15 مارس 1962 أياما قلائل قبل إعلان وقف إطلاق النار بين الجزائر وفرنسا أقدم مجموعة من الإرهابيين من عصابة الاواس الإجرامية (OAS) على اغتيال الأديب الكبير مولود فرعون صاحب الروائع الأدبية التي أرخت لمرحلة هامة من تاريخ معاناة الشعب الجزائري في ظل الهيمنة الاستعمارية الفرنسية.
تمت عملية الاغتيال في وضح النهار وسقط إلى جانبه خمسة من العاملين في قطاع التعليم بعد أن تم اقتيادهم جميعا من غرفة الاجتماعات وأمرهم بوضع أيديهم اتجاه الحائط وبعدها انطلقت آلة الموت تحصد الأرواح البريئة.
قبل ذلك بسنوات كتب مولود فرعون وهو يصف قيمة الإنسان المسلم في نظر الهمجية الإستعمارية:” فكم تساوي حياة المسلم ؟ إنها في هذه الحالة لا تساوي أكثر من طلقة مدفع رشاش بل ربما تساوي أقل من ذلك”(1). نعم لم تكن قيمة الإنسان الذي يطلب الحرية في نظر المغتصبين اكثر من طلقة رشاش ورصاصة غادرة تستجلب الغربان والنواح. لكن ذلك كله لن يثني التاريخ عن السير في مجراه الطبيعي عندما تفيق الضمائر وتتحرك العزائم من جديد ألم يكتب:”لماذا ينكرون على هذا الشعب أن يكون كما يريد، نعم كما يريد، هذا الشعب لن يتغير.. إننا نشعر… باستعادة هذا الشعب لروح أجداده البدائية الخام”. وهؤلاء الذين سقطوا من أجل أن تحيا الجزائر لهم المجد والذكر الحسن لأنهم ضحوا بأنفسهم لتعبيد الطريق “لكي يستطيع الآخرون رفع هاماتهم من أجل خلاصهم إزاء الإنسانية المخجلة المتآمرة “.
لقد كان الأديب مولود فرعون أحد الأركان الأساسية المؤسسة لفن الرواية الجزائرية المعاصرة مع كتاب آخرين منهم الراحل محمد ديب وعبد الحميد بن هدوقة ورضا حوحو ومالك حداد. ولد في 8/3/1913 بتيزي وزو هيبل، وتخرج من دار المعلمين الابتدائية ببوزريعة سنة 1935م، ومارس التعليم لفترة طويلة في مناطق القبائل وقام بإدارة بعض المدارس (1957م)، كما أصبح مفتش المراكز الاجتماعية بالأبيار (1960م).
له عدة روايات كتبها بالفرنسية منها رائعته ابن الفقير التي بدا كتابتها أثناء الحرب العالمية الثانية (1939م) وكذلك الأرض والدم (رواية 1953م)، اليوميات، الأيام في بلاد القبائل (1954م)، الدروب الوعرة (1957م)، قصائد الشاعر سي محند (1960م)، عيد الميلاد (نشر بعد وفاته 1972م)، وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات منها العربية والألمانية والإنجليزية والروسية..
الأديب مولود فرعون يمثل قمة العطاء لأدباء ما قبل الاستقلال وقد سمحت له مهنة التعليم الاختلاط بعمق المجتمع ومعايشة هموم الناس والفقراء وأصبح يعتبر نفسه ناطقا باسم هؤلاء الصامتين المقموعين.
كان الأديب الكبير مولود فرعون يمتلك روحا شفافة سرت في أدبه وروائعه التي خلفها وقد اشتهر برائعته “ابن الفقير” (Le fils du pauvre) التي تنبض بأحاسيسها المستفيضة وخيالها المبدع وهو يصف حياة البسطاء في كفاحهم اليومي وتطلعاتهم المستقبلية رغم عالمهم الصغير الذي ازداد صغرا بتضييق الاستعمار الذي يطارد حتى الأحلام في النفوس البريئة.
لقد صرح مولود فرعون في لقاء مع إحدى الجرائد عام 1953 قائلا: “كتبت رواية ابن الفقير ابان الحرب على ضوء شمعة ووضعت فيها قطعة من ذاتي” ثم أردف:”أنا متعلق بشكل كبير بهذا الكتاب، أولا لأنني لم أكن آكل كل يوم رغم الجوع في حين كان الكتاب يولد من قلمي وثانيا لأنني بدأت أتعرف على قدراتي”
كانت الرواية تتجاوز السرد الذاتي لقصة الطفل الصغير مولود التي حولها على الصعيد الأدبي إلى قطعة تستوحي من المثال الخاص النموذج العام الذي يحياه أبناء الوطن وهم يكابدون مشاق يومهم لنيل لقمة العيش. وليس ذلك غريبا فعندما سأله موريس مونوي ما هو موقفك من الشخصيات التي تكتب عنها قال بكل عفوية:”أضع نفسي بكل صدق مكان تلك الشخصيات، وحينئذ تبدأ هذه الشخصيات تحدثني عما يجب علي كتابته”. ليس هناك مجال لتقمص شخصيات والكتابة عنها دون ان يكون جزء من تلك الشخصية رابض هناك بعيدا في أغوار النفس.
في روايته “ابن الفقير” يقدم لنا الأديب الكبير صورة كاملة عن المجتمع القبائلي في الثلاثينات من القرن الماضي، وبذلك نكتشف المجتمع الجزائري العميق من خلال شخصيات عائلية يتوزع فيها العم والأخ والجدة والأخوات أدوارا اجتماعية ومواقف فكرية وتصورية عن الحياة والوجود العائلة والشرف وكل ما يرمز للقيمة الفطرية للإنسان العامر بالفضائل والخير. حتى أن هؤلاء الفقراء لا احد منهم يقول أنه فقير أو يستشعر الفقر في ذاته لأنه مملوء بكل ما ترمز له الشهامة والفخر والإحساس بالرضا حتى وإن كانت الأوضاع مزرية حقيقة ويدل كل ركن فيها على انواع من الفقر المركب بعضه على بعض.
ومع انطلاق الثورة التحريرية الكبرى أصبح مولود فرعون موثق لأحداث هامة جدا سجلها بقلمه بالغ الوصف لما يحدث في وطنه، وسجل في يومياته كل ما كان يدور حوله طيلة سنوات بين 1955 وحتى وفاته في 1962. وكان يعبر باستمرار عن المفارقة بين القوى الضالمة الاستعمارية والشعوب الباحثة عن “الدروب الوعرة” في التاريخ كي تفك قيد الذل المسلط عليها. كتب يصف الطبيعة الاستعمارية يقول:” إن مظاهر طبيعتهم نحونا ليست سوى مظاهر كراهيتهم لنا… لكن كراهيتهم هذه كانت ذكية لدرجة أننا لم نفهم لقد أخذناها على أنّها طيبة فأصبحوا هم الطيبين ونحن السيئين هم المتحضرون ونحن البرابرة هم المؤمنون ونحن الكفرة، هم السادة ونحن السفلة، هذا ما نجحوا في إدخاله في اعتقادنا”. ولذلك لا يتوانى المستعمر في استعمال أي وسيلة لفرض هيمنته ” إذ كل الناس عندنا مشكوك في نواياهم، ومن أجل هذا لا بدّ أن يحنوا ظهورهم كي يتلقوا لسعات السياط الملهبة…” وعلق بكل سخرية موجها كلماته للرئيس الفرنسي آنذاك “ربّما يكون في استطاعتنا أن نذكر جي. موليه بأن الجزائريين الذين لا يزالون جهلة لدرجة اتهامهم بالتعصب قد ظلوا يحتفظون بذكرى القيم…”.
ان هناك عقدا يربطنا بشعبنا. ونحن لسانه الناطق. نلتفت إليه أولا لنتلمس بنياته وتكوينه الخاص، ثم نلتفت إلى العالم لنشهد على هذه الخصائص.
(1) يوميات معركة الجزائر. تأليف مولود فرعون – نشر الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر (1970)