الإمام محمد البشير الإبراهيمي الأديب وثورة الجزائر
بقلم: عبد العزيز الصغير دخان-
في حياةِ الأمم والشعوب شموسٌ تَشعُّ ثمّ تَذوِي، فلا تجدُ مَن يقفُ يَرقٌب طلوعَها وسطوعَها، ونُجومٌ لايسعدُ الناس بها إلاّ زمناً يسيراً، ثمّ تلوحُ غاربةً في الأفق أو منطلقةً في بيداءِ الفضاء الواسع... شموسٌ تُشيعُ الدفءَ والأمانَ وتبعثُ الأملَ الباسمَ والحنينَ الجارفَ إلى أمجادِ الماضين وآثار المُتألِّقين.. شموسٌ تحكِي قصّةَ أمّةٍ عظيمةٍ نُشرت في الكَوْنِ راياتُها وانتظمتْ على مَسرح الوجود غاياتُها وعلتْ في المجد هاماتُها، وكانتْ ـ دهراً ـ ملجأً للضعفاء والمساكين وقِبلةً للمتعطّشين إلى العلم والمعرفة، وكهفاً يأوي إليه الفارون من حَرِّ الظُّلْم وفَيحِ التعسّف وأتون الاستبداد...
البارحةَ ـ وتحت مصباحي المتوهّج ـ قرأتُ سيرةً أعظمَ توهّجا ... سيرةَ رجلٍ ملأ الدنيا وشغلَ الناس وأضاء نجماً ساطعاً وكوكباً لامعاً في سماء الإسلام والعربية .. وتردّد صوتُه في سمع الزمان زمَناً، وكان بذلك جديرًا وقَمِناً... سيرةَ رجل أضاء في ميدانه وعاش بين إخوانه، عاملاً بصمت، مدافعًا بحجّة، مصاولاً برغبة، مستميتًا بحمية، في سبيل إعزاز دينه ولغته...
إنّه ـ بكلّ فخر واعتزاز ـ علامّةُ الجزائر وبطلها المجرّب وأديبها المدرّب وفارس ميدانها وزينة أغصانها... إنّه الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي ثاني اثنين أعزّ الله بهما الإسلامَ والعربيةَ في هذه الديار، وأحيا بهما أمّةً أريد لها الاندثار، وأمات بهما كثيراً من الشركِ والمُخالَفَة لدين الله الواحدِ القهار...
قرأت سيرةَ هذا الرجلِ العظيم، وقرأت نماذجَ مما خطب وكتب، أو جمع ورتّب، فرأيت أفقاً عالياً وعلماً سامياً وتألّقاً لا يدانيه ولا يجاريه تألّق، وفهماً عميقاً لمسائل الحياة وسُنَنِها، وبلاءً لأسبابها وسبراً لأغوارها ومعرفةً بأخيارها وأشرارها...
إنّ واجباً كبيراً يقع على عاتق أبناء هذا الجيل أن يعرفوا آباءَهم وأجدادَهم ومبلغَ علمهم وفهمِهم وسدادِهم، حتى تستقيمَ بهم الجادّةُ وتَصحَّ منهم النظرةُ وتَصدقُ منهم الفراسةُ ويَعتدلُ بهم الطريقُ الطويلُ.
إنّ كثيراً من إخواننا أهلِ الأدب والعلم لا يَعرفون الإبراهيميَّ، بل وبعضهم لايعرفُه ولا يعرفُ قرينَه ورفيقَ دربِه وبانيَ نهضة الجزائر الحديثةِ وعملاقَ الجزائر الشيخَ الإمامَ العلامةَ عبدَ الحميد بنَ باديس، الذي عاش مع الإبراهيمي حياةً مِلؤُها الحبُّ والمودّةُ والتعاونُ التامُّ لخدمة العربية والإسلام، وحَفِظَ اللهُ بهما الإسلام والعربية في ديار الجزائر، فمن هو: محمد البشير الإبراهيمي؟
لقد شكّل الإبراهيميُّ في تاريخ الجزائر منارةً اهتدى بنورها السائرون، ومضى على دربها الثائرون، إذ عاش هذا الرجلُ العظيمُ للجزائر، كما يجبُ أن يعيشَ العالِمُ لبلده، وسخّر قلمَه السيّالَ ولسانَه القوّالَ لنصرة الجزائر منذ أن فتح عينيْه على المُعاناة التي كان يعيشها الشعبُ الجزائريُّ تحت نِيرِ الاستعمار الفرنسي وبين مخالبِ أعداءِ الإسلام والعربيةِ.
لقد امتدَّ أثرُ الإبراهيميِّ من يومِ أن انطلق فيه مع أخيه وصاحبِه ورفيقِ دَربِه الإمامِ عبدِالحميد بنِ باديسَ ثانِي اثنين نصر اللهُ بهما الإسلامَ وأعزَّ بهما العربيةََ في الجزائر، وطِوالَ عُقودٍ من الزمن ظلَّ الرجلان يَعملان ويُجاهِدان على جبهاتٍ كثيرةٍ داخلَ الجزائر لتعليم الشعبِ الجزائريِّ وإنقاذِه من أسبابِ التَّخلُّف وانتشالِه من بين أنيابِ القِوى الاستعماريةِ وإعدادِه للثورة من أجل استردادِ حرّيتِه وكرامتِه واستقلالِه.
لقد كان الإبراهيميُّ أديباً وشاعراً وخطيباً، سخّر كلَّ إمكاناتِه ومواهبِه الأدبيةِ وقُدُراتِه العلميةِ لخدمة الجزائر بلدِه الصغير، دون أن يبخلَ بكثير من جُهده على بلده الكبير الوطنِ العربيِّ والإسلاميِّ، فكانت له صَولاتٌ وجَولاتٌ في كثيرٍ من الميادين، يُنافحُ عن العروبة في جميع ديارِها ويُكافحُ عن العقيدة الإسلامية في جميع أقطارها.
وإنّ غنَى سيرةِ البشير الإبراهيميِّ وامتدادَها على طولِ عدّة عقودٍ تجعلُ من الصعوبة ـ إنْ لم يكن من المستحيل ـ الإلمامُ بجميع تفاصيل جهادِه وجُهودِه.
وفي هذه السُّطورِ المُتواضِعةِ سأركِّزُ على فَترةٍ من حياته تُعتبَرُ من فواصلِ ـ ومَفاصلِ ـ الأزمنةِ في تاريخ الجزائر، وهي مرحلةُ ثورةِ التحرير، ابتداءً من فاتحِ نوفمبرَ صبيحةَ إعلان انطلاقِ الثورة على المستعمر، وسنَستعرضُ نماذجَ ممّا كتبَ وخطبَ وراسل غيرَه من الأدباءِ والقياداتِ الفكريةِ والسياسيةِ.
وإنّما أركّزُ على هذه الفَترة لأمرين:
الأوّل: أنّها الفَترةُ التي لم تتناولْها أقلامٌ كثيرةٌ، ووقعَ فيها للبشير الإبراهيميِّ ـ ولجمعيةِ العلماء المسلمين الجزائريين مِن ورائه ـ غَمْطٌ كبيرٌ وإجحافٌ خطيرٌ، ورُوِّجَ فيها لدعوىَ عريضةٍ مُفادُها أنّ جمعيةَ العلماءِ لم يكن لها أثرٌ أو إسهامٌ في ثورة التحريرِ، وأنّها وقفتْ منها مَوقفَ المُتفرِّجِ المُتوجِّسِ، شأنُها شأنَ مواقفِ الأحزابِ السياسيةِ في تلك الأيام، وهذه أُغلوطةٌ كبيرةٌ وفِريةٌ مُفتراةٌ أو دَسيسةٌ مُبتغاةٌ، تَردُّها الوثائقُ والنصوصُ، ويَردُّها بشكلٍ أوضحَ وأصرحَ الجهودُ التي بذلَها الإبراهيميُّ خلالَ فَترة الثورة كلِّها.
الثاني: أنّ هذه الفَترةَ من حياة الإبراهيميِّ اتّسمتْ بثراءٍ أدبيٍّ رائعٍ شِعراً ونَثراً وخَطابةً ورسائلَ ومُحاوراتٍ ومُحاضراتٍ، دوَّتْ آثارُها وظهرتْ ثمارُها في تلك المكانةِ السامقةِ الباسقةِ التي تَبوّأَها الإبراهيميُّ في تلك الفَترة، فقد اعتَرفَ له بالإمامة في اللغة وفنونِها مَنْ يُشهَد لهم بالرُّسوخِ في هذه المعارفِ، ونُزِّلَ مِن قلوبِ الناسِ في المشرق ـ حُكاماً وأدباءَ ـ مَنزلةً لم يَحْظَ بها أحدٌ من أهلِ المغرب في زمانه، وتبوّأَ عرشَ المجامع اللغويةِ والشرعيةِ في عواصم الثقافة الإسلاميةِ والعربيةِ في تلك الأيام: القاهرةِ ودمشقَ.
لقد كان أمضَى سلاحٍ استخدَمه الإبراهيميُّ في تلك الفَترة هو تلك البياناتُ التي كان يُصدرُها والكلماتُ التي كان يُذيعُها والمحاضراتُ التي كان يُلقيها والخطبُ التي كان يُدبّجُها، بأسلوبٍ يَفيضُ بلاغةً ويَتألّقُ رَصانةً، ذكّرتْ الناسَ بالأدباءِ العمالقةِ السابقينَ والبُلغاءِ الفُحولِ السالفينَ، وقد كان لهذا السلاحِ أثرُه الكبيرُ على فرنسا سَلباً، وعلى قلوب الثوار في الجزائر إيجاباً، فوحدَّ الشعبَ الجزائريَّ وراءَ ثورةِ التحرير، وفتحَ قلوبَ المسلمين والعربِ وعقولَهم في المشرق وغيرِه على ضَرورةِ القيامِ بواجبِ النُّصرةِ والعونِ لإخوانِهم في الجزائر.
إنّ المُتتبِّعَ للإنتاج الذي كان الإبراهيمي يُتْحِفُ به قُرّاءَه نَثراً ومُحاضراتٍ وخُطَباً وشِعراً يَستطيعُ أن يَتبيَّنَ المَوضوعاتِ التي كان الإبراهيميُّ يثيرُها ويُرصّعُ معانيَها بقلمِه الرائعِ، لكنّها ـ أي هذه الموضوعاتُ ـ تكادُ تتمحورُ كلُّها حولَ الجزائر وإثباتِ عُروبتِها وإسلامِها وانتمائِها الحضاريِّ والتاريخيِّ إلى جِسمِ الأمّةِ العربية والإسلاميةِ، ثمّ النِّداءِ الصادقِ إلى إخوان الجزائر في المَشرق للقيام بواجبهم في دعم ثورةِ التحرير التي شبَّ أُوارُها واضطرمتْ على العدوِّ نارُها.
وقد نجحَ الإبراهيميُّ ببراعتِه وصدقِه وقوّةِ حُجّتِه ورَصانةِ أسلوبِه ورَوعةِ خطابِه في إقناعِ المشارقة بحقيقة ثورةِ الجزائر وأهمِّيتِها، ومِن ثمَّ كان الدعمُ السياسيُّ والدبلوماسيُّ والمُساعداتُ الماديةُ والمعنويةُ بكلّ أشكالِها وألوانِها، وإنْ لم تَرْقَ إلى المستوى المطلوبِ الذي كان الإبراهيميُّ يَطمحُ إليه ويَسعى إلى الحصولِ عليه.
وفي مُقابلِ ذلك اتّجهَ الإبراهيميُّ إلى الجزائريين داخلَ الجزائر، وإلى الثُّوار في الجبال يَشدُّ من أَزرِهم ويَنفُخُ في أرواحِهم ويَلهبُ مشاعرَ العِزّة فيهم، ويُنادي في أبناء الشعب الجزائري أن يَلتفُّوا حولَ هذه الثورةِ المُبارَكة، ويُمِدّوها بكل ما يُمكنُهم من الدعم، ولقد كانت الثورةُ في أيامِها الأُولَى أحْوجَ ما تكونُ إلى هذا الصوتِ الصادقِ الذي يُعرِّفُها ويُقدِّمُها إلى الشعب الجزائري، الذي لم يكن يَعرفُ كثيراً ـ ورُبَّما لم يكنْ يَعرفُ شيئاً ـ عن قياداتِ هذه الثورة الجديدةِ.
وللحقيقة، فإنّهُ لم يكن في الجزائر آنذاك هيئةٌ مَوثوقٌ بها وبرئيسِها وأعضائِها غيرُ جمعيةِ العلماء المسلمين الجزائريين. فلما نطقَ الإبراهيميُّ ـ وكان يَنطقُ باسم الجمعية ويُوقِّعُ البياناتِ باسْمِها ـ كان هذا مَدداً للثورة في أوّل عهدِها وفي مرحلة ضَعفِها.
وزيادةٌ على هذه الجهودِ التي كان الإبراهيميُّ يَبذُلُها في نُصرة ثورةِ الجزائر والدفاعِ عنها، كان له نصيبٌ كبيرٌ في مجالٍ آخرَ لا يَبتعدُ كثيراً عن هذا الهمِّ الذي يُؤرّقه ليلاً ويَعيشُ معه ـ وبِه ـ نهاراً، ذلكم هو الدفاعُ عن لغة الجزائرِ وعُنوانِ شخصيتِها وأساسِ انتمائِها الحضاريِّ للأمّة العربية والإسلاميةِ، فلم يكنْ يترُكُ مؤتمراً أدبياً أو مُنتدىً فِكرياً أو لقاءً عِلمياً إلاّ مثّلَ فيه الجزائرَ أحسنَ تمثيلٍ وكان طائرَها الذي يشدو بأعذبِ الألحان وفارسَها الذي يَصولُ في الميدان، وبَذلَ من نُصحِه للأدباءِ ما يُعتبرُ من دُرَرِ النصائحِ في سبيل الارتقاءِ بدور الأديبِ في الأمّةِ، حتى يُؤدِّيَ وظيفتَه التي لا تَقِلُّ خُطورةً وجسامةً عن حملِ السلاحِ في المَعركة.
وأخيراً ثوى الإبراهيميُّ بالجزائر بعدَ سنينَ من الجهادِ المُتواصِل واكتحلتْ عيناه برؤية بلادِه وهي تَنعمُ بالاستقلال والأمن، وتَرفُلُ في حُلَلٍ من الحرية والكرامةِ، ولكنْ شاء اللهُ أنْ لا يموتَ الإبراهيميُّ حتى يُؤدّيَ آخرَ واجبٍ نحوَ بلادِه وأبناءِ بلادِه، وقد كلَّفهُ ذلك أن أمضَى أيامَه الأخيرةَ حبيساً في بيتِهِ تحتَ الإقامةِ الجبريةِ حتى توفّاه اللهُ بعد أن حَفِظَ الأمانةَ حتى أدّاها، وحازَ في بلادِه الجزائرِ قَبْراً، وإنْ لم يَملكْ منها شِبراً.
ونحنُ إذ نَستعيدُ ذكرى هذا الرجلِ العظيمِ نَرجُو أن نُؤدِّيَ نحوَه بعضَ الثناء الذي يَستحقُّ منه الكثيرَ، وهو الذي لم يَبخلْ على الجزائر بقليلٍ ولا كثيرٍ. رحمه الله رحمة واسعة.
* كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي. ص. ب رقم (50106)، شارع زعبيل ـ الكرامة ـ دبي ـ الإمارات العربية المتحدة.