ابن باديس والثورة على الاستعمار
بقلم: موسى ميلي-
كان ابن باديس عالما مفكرا إصلاحيا ثائرا على الفساد والبدع والخرافات، كان كذلك ثائرا ضد الظلم والطغيان الاستعماري. وقد عمل بكل الطرق لتقويض المستعمر على العباد والبلاد. وتطهير الجزائر من ارجاسه وانجاسه، يقول الأستاذ الدكتور تركي رابح: «لم يكن الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته حزبا سياسيا خاصا يخوض بواسطته الانتخابات لم يشارك في النشاط السياسي العام حتى نستطيع أن نحلل برنامج هذا الحزب –كي نعرف منه اتجاهاته السياسية-. فقد اثر الابتعاد عن احتراف السياسة على طريقة الساسة المحترفين الذين عرفتهم الجزائر منذ مطلع القرن العشرين فهو لم يحضن معركة انتخابية ... ومع ذلك فقد كان يوجه الأحزاب ويوجه الساسة بطرق غير مباشرة ...
ويمكن القول بكل اطمئنان بأن عمل الشيخ عبد الحميد بن باديس كان الهدف منه في المدى البعيد هو استقلال الجزائر –وحريتها – وانضمامها إلى الركب العربي المتحرر ، وهذا ما يستخلص من تصريحاته لبعض تلامذته ومريديه المقربين فقد كتب سنة 1937 م مقالا في مجلة الشهاب تحت عنوان (حول كلمتنا الصريحة).
ختمه بقوله: «إن الاستقلال حق طبيعي لكل امة –من أمم الدنيا – وقد استقلت أمم كانت دوننا في القوة و العلم والمنعة والحضارة ولسنا من الذين يدعون علم الغيب مع الله ويقولون أن حالة الجزائر الحاضرة ستدوم إلى الأبد ... وتتغير فيه السياسة الاستعمارية وتصبح البلاد الجزائرية مستقلة استقلالا واسعا تعتمد عليها فرنسا اعتماد الحر على الحر . »
وقد ألقى الشيخ احمد حماني رحمه الله محاضرة نقل فيها ما سمعه بعض تلاميذه الأحياء في موضوع الثورة المسلحة.- مما رواه بعض تلاميذه في هذا الموضوع ما أكده الشيخ محمد الصالح رمضان، أن الشيخ ابن باديس كان منذ 1937 م يصرح بعزمه على الثورة المسلحة، وفي بعض هذه التصريحات انه يخشى أن يدفع الأمة إليها قبل كمال الاستعداد، فتجنب أن يتحمل مسؤولية الرئاسة السياسية المباشرة لبعض الأحزاب – أكد الشيخ محمد الحاج بجه احد تلاميذه الأقدمين – من دائرة أقبو –انه كان تلميذا في أوائل الثلاثينيات، وان الشيخ رحمه الله كان يسال تلاميذه الكبار: هل أديتم الخدمة العسكرية؟ ومن أجاب بنعم ميزهم عن الآخرين وصرح لهم «أننا سنحتاجكم يوما ما »، وحثهم على عدم نسيان ما دربوا عليه من أعمال الحرب ولعل هذه الشهادة تفسر شدة اتصاله- رحمه الله- بتلميذه الشيخ الفضيل الورتلاني –رحمه الله-، فقد كان من الذين أدو الخدمة العسكرية قبل أن يتصل به فكان يقربه جدا.
ويركن إليه في تربية صغار تلاميذه على الثورة، وقد عاش هذا الرجل ثائرا وصار يخشى جانبه الملوك والأمراء في الشرق العربي. وله اثر كبير في الثورة اليمنية ضد نظام الملك يحي حتى جاءت الثورة الجزائرية فعمل في صفوفها ومات، وهو يمثله بتركيا.-ومن ذلك ما سمعته بإذني وحضرته بنفسي في إحدى أمسيات خريف 1939 م في مجلس بمدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وتطرق الحديث إلى موضوع الحالة السياسية بالجزائر بعد إعلان الحرب ، وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية الذين جندوا –إجباريا أو تطوعا – في صفوف الجيش الفرنسي . وكان الشيخ متألما جدا من هذا الضعف فيهم وقال: «لو أنهم استشاروني واستمعوا إلي وعملوا بقولي لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال أوراس، وإعلان الثورة المسلحة .»
ويقول الشيخ احمد حماني- رحمه الله- انه حدثه الأستاذ حمزة بكوشة –وهو من اقرب المقربين إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس والعاملين معه في ميادين العلم والإصلاح والسياسة –انه دعاه ذات يوم للمبايعة على إعلان الثورة المسلحة وحدد له تاريخ إعلانه بدخول ايطاليا الحرب بجانب ألمانيا ضد فرنسا مما يحقق هزيمتها السريعة فبايعه على ذلك.
وهناك العديد من النصوص الواضحة الصريحة من الخطب و المقالات و القصائد التي نجد فيها الحث على الثورة، أو الاستعداد لها أو العزم على بقاء نيرانها ومن هذه النصوص في مقال له بعنوان: )هل آن أوان اليأس من فرنسا( نشر بالشهاب أوت 1937 م ج 6 م 13 .«...وأما نحن –الجزائريين –فإننا نعلم من أنفسنا أننا أدركنا هذا الإخلاف العرقوبي وأدركنا مغزاه، واخذ اليأس بتلابيب كثير منا وهو يكاد يعم ولا نتردد في انه قد آن أوانه ودقت ساعته ... والله لا تسلمنا المماطلة إلى الضجر الذي يقعدنا عن العمل، وإنما تدفعنا إلى المغامرة والتضحية. »
وفي شهر سبتمبر 1937 م اصدر بيانا ونداء إلى الشعب الجزائري والى النواب والمنتخبين حرم فيه طرق أبواب البرلمان الفرنسي. ودعا إلى اتحاد الصفوف وتكوين جبهة لا تكون المفاهمة إلا معها وجاء فيه «أيتها الأمة الكريمة. أيها النواب الكرام! اليوم وقد ايسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا . اليوم وقد تجو هلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا. اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا يجب أن نقول نحن كلمتنا.
اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره، يجب أن تتحد صفوفنا ... أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام !تناسوا الحزازات امحقوا الشخصيات، برهنوا للعالم أنكم أمة تستحق الحياة ». الشهاب ج 7، م 13 رجب 1356 هـ –سبتمبر 1937 م. والقارئ المتمعن لهذا البيان يلمس فيه دعوة للعصيان المدني وهو الشرارة الأولى للثورة المسلحة. كما يتضمن هذا البيان فتوى شرعية بحرمة التواجد والمشاركة في البرلمان الفرنسي لان المشاركة فيه اعتراف بان الجزائر قطعة من فرنسا.
كما أن هذا البيان فيه دعوة صريحة إلى تكوين جبهة موحدة لا يكون التفاهم إلا معها أي جبهة وطنية جزائرية.
وهذا ما فعلته الجزائر عند انطلاق الثورة وهي جبهة التحرير الوطني، وبيانها الشهير في الفاتح من نوفمبر 1945 م. بعد رجوع وفد فرنسا الذي شارك فيه، واستقبل من طرف عشرات الآلاف خطب فيهم فقال: «أيها الشعب انك بعملك العظيم الشريف برهنت على انك شعب متعطش للحرية وهائم بها ، تلك الحرية التي ما فارقت قلوبنا منذ كنا نحن الحاملين للوائها، وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها .
وكيف نحيا ونموت من اجلها » ثم تابع كلامه قائلا: «أيها الشعب لقد عملت وأنت في أول عملك هذا فاعمل وداوم على العمل وحافظ على النظام واعلم بان عملك هذا –على جلالته- ما هو إلا خطوة ووثبة وراءه خطوات ووثبات، وبعدها إما الحياة وإما الممات .» ففي هذا الخطاب تكاد تكون الدعوة صريحة للثورة على الاستعمار.
وبذكائه الكبير أحسن اختيار المصطلحات التي لا تستطيع السلطات الاستعمارية محاكمته عليها فهو لم يستعمل لفظة الثورة . بل استخدم _شعب متعطش للحرية هائم بها، وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها وكيف نحيا ونموت من اجلها، وبعدها إما الحياة وإما الممات _.
وهذه الكلمات كلها تدعو إلى الثورة على الاستعمار . وبهذا انتقل ابن باديس في آخر حياته لمرحلة المقاومة السياسية ثم المقاومة بالقوة ،. أنه الرجل السهل الممتنع الذي بدأ ينحت في الصخر تحت خرير المياه الهادئ حتى أتى على الصخر ، وأزاله من طريق الأمة. يقول الشيخ احمد حماني: «أن نشيد ابن باديس- شعب الجزائر مسلم _دعوة إلى الثورة تخطيط لها، ففي بداية القصيدة يكذب ادعاء من قال بان هذا الشعب قد مات ويعلن استحالة إدماجه وابتلاعه.
شعب الجزائر مسلم *** والى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب
أورام إدماجا له *** رام المحال من الطلب
ثم خاطب جند الثورة مخططا لهم بإجمال برنامج العمل .
يانشئ أنت رجاؤنا *** وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها *** وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل وإلا *** حسان واصدم من غضب
واقلع جذور الخائنين *** فمنهم كل العطب
* * *
وأذق نفوس الظالمين *** السم يمزج بالرهب
واهزز نفوس الجامدين *** فربما حي الخشب
وقد انشد ابن باديس بمناسبة المولد النبوي سنة 1356 هـ / 10 جوان 1937 م نشيد خافقات البنود وهو نشيد ثوري تلقفه الشعب الجزائري من فمه وردده ثم نفذ بنوده في الثورة أثناء حرب التحرير . نشر في جريدة البصائر عدد 92 بتاريخ 20 شوال 1356 هـ / 2 ديسمبر 1937 م .
اشهدي ياسما واكتبن يا وجود *** إننا للحما سنكون الجنود
فنزيح البلا ونفك القيود *** وننيل الرضا من وفى بالعهود
ونذيق الردى كل عات كنود *** فيرى جبلنا خافقات البنود
ويرى نجمنا للعلا في صعود