الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله الزيتوني الذي حمل لواء العربية والإسلام في الجزائر -1918/2011-
بقلم: محمد صلاح الدين المستاوي-
في شهر مبارك هو شهر رمضان شهر الرحمة والغفران والعتق من النار غادرنا إلى دار البقاء (يوم الجمعة 12 رمضان 1432/12 أوت 2011) فضيلة الشيخ عبد الرحمان شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد عمر مديد 94 سنة قضاه في خدمة الإسلام والعربية والقضية الوطنية الجزائرية قبل الاستقلال بالنضال صلب جبهة التحرير وبعد الاستقلال في مختلف المواقع والمسؤوليات التي تحملها والتي بدأت بتسميته من طرف الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله سنة 1948 أستاذا للعربية والبلاغة في معهد ابن باديس بمدينة قسنطينة على اثر عودته حاملا أعلى الشهادات العلمية من جامع الزيتونة الذي يمم وجهه صوبه بعد أن توفر على زاد علمي أساسي تلقاه في الزاوية السحنونية بالزواوة وفي بني وغليس ببجاية وفي جامع الزيتونة حيث تتلمذ على خيرة شيوخ تونس في مختلف فروع العلوم الإسلامية ارتبط بعلاقات زمالة وصداقة متينة مع إخوانه من طلبة الجامع التونسيين سواء من جاؤوا من أعماق تونس: شمالا وجنوبا أو من هم من أبناء المدن الكبرى (تونس العاصمة والقيروان وصفاقس وغيرها).
كانت تلك السنوات من حياة الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله من أحلى مراحل عمره فقد كان يتوقد حماسا وغيرة على الإسلام والعربية والكيان المغاربي المتجانس وهو كيان اجتمعت له وحدة الدين ووحدة العقيدة ووحدة المذهب ووحدة اللغة التي امتزجت وتماهت في المنطقة المغاربية مع الإسلام كان الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله من المؤمنين بوحدة ماضي وحاضر ومستقبل هذا الجناح الغربي من العالمين العربي والإسلامي فلم يترك مناسبة تمر سواء كان ذلك عندما كان طالبا في جامع الزيتونة أو عندما عاد إلى الجزائر ليعمل أستاذا وعضوا نشيطا في جمعية العلماء ومناضلا في حزب جبهة التحرير قبل الاستقلال وبعده لم يترك مناسبة إلا واستغلها للتأكيد والإلحاح والتوعية بأهمية هذه القواسم المشتركة بين الشعوب المغاربية فلم تكن فلم تكن الحدود الجغرافية تعني شيئا بالنسبة للشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله وبالنسبة لكل زملائه ممن درسوا في جامع الزيتونة من أبناء الجزائر وما أكثرهم وكذلك الحال بالنسبة لإخوانهم التونسيين وقد تكونت بين هذه النخبة التونسية والجزائرية جبهة صماء كانت هي التي انطلقت منها واعتمدت عليها الحركتان الوطنيتان التونسية والجزائرية سواء كان ذلك في معركة تحرير البلدين أو في مرحلة بناء الدولة والتأكيد على خصوصيتها وهويتها والتي هي الإسلام والعربية والماضي المشترك والحاضر المشترك والمستقبل المشترك، ولم تزد الأيام والسنوات والعقود المتوالية هؤلاء الصفوة إلا تمسكا بما بدا جليا في قناعاتهم وممارساتهم من تلازم شديد بين الوطنية الصادقة والإسلام الصحيح إذ حب الوطن لدى هؤلاء ولدى الغالبية العظمى من أبناء الشمال الإفريقي هو من صميم الإيمان.
لقد كانت مرحلة ما بعد الإحراز على الاستقلال في الجزائر أو في تونس بالنسبة للشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله ومن هم على هذا النهج القويم لا تقل أهمية عن مرحلة ما قبل الاستقلال لذلك كان جهاد هؤلاء جهادا مريرا على واجهات متعددة للحفاظ على الهوية والوقوف في وجه كل دعوات التغريب والتبعية في كل مظاهرها اللغوية والتشريعية والتعليمية والإعلامية والثقافية والاجتماعية انه بحق جهاد اكبر خاضه الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله وأجزل مثوبته بدون هوادة متحملا في سبيل ذلك صنوف الأذى فلم يتزعزع ولم يبدل ولم يغير إلى أن لاقى وجه ربه راضيا مرضيا، لقد اختار لنفسه هذا الخط الوطني الأصيل ومضى فيه إلى آخر مدى فكان بذلك مثله مثل إخوانه الآخرين من جزائريين وتونسيين نجوما في سماء كل من الجزائر وتونس وعنوانا للأصالة بكل مظاهرها وتجلياتها فهم من حموا شعبي تونس والجزائر من كل محاولات القضاء على مقومات الشخصية العربية (كلغة) والإسلام (كدين) لكل أبناء الشعبين.
تدرج الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله في سلك التعليم وتحمل فيه ارفع المسؤوليات فكان مع صفوة من أبناء الجزائر هم من مكنوا للغة العربية في كل مراحل التعليم. فاشرف على التكوين والتدريب والتوجيه ووضع المناهج وتأليف الكتب المدرسية في اللغة العربية والتربية الإسلامية.
مثله مثل كل أصحاب هذه الرسالة من خريجي الزيتونة في تونس والجزائر لم يترك مجالا من مجالات البذل والعطاء إلا وساهم فيه بقسطه الوافر تحريرا للمقالات وإصدارا للبيانات وإلقاء للمحاضرات ومساهمة في الندوات والملتقيات دفاعا عن العربية والإسلام وإقناعا بهما وتوعية بأهميتهما في الحفاظ على الذاتية المغاربية. لم يعرف الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله الكلل أو الملل ولم يلق سلاحه الذي هو لسانه وقلمه وكان معه صفوة ونخبة من أبناء الجزائر الذين نذكر منهم المشائخ احمد حماني واحمد حسين والعباس بن الشيخ الحسين وعلي شنتير ومولود قاسم وغيرهم وغيرهم ممن لا يمكن الإتيان على أسمائهم في هذه العجالة لقد استطاع خريجو جامع الزيتونة من أبناء الجزائر أن يحفظوا للشعب الجزائري هويته (العربية كلغة والإسلام كدين) وحققوا في هذا المجال مكاسب تسلم لهم كل مكونات الشعب الجزائري بأنهم من كانوا وراءها ومن استماتوا في سبيل الحفاظ عليها.
عرفت هذه الحقيقة الماثلة للعيان في كل مظاهر حياة الشعب الجزائري بكل فئاته وجهاته من خلال متابعتي من قريب ومن بعيد لمسار الحركة العلمية والثقافية والدينية للشعب الجزائري فقد تشرفت لعدة سنوات بحضور ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تنظمها سنويا وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية فقد دعاني لحضورها من تولوا هذه الوزارة من مولود قاسم إلى سعيد شيبان إلى عبد الرحمان شيبان إلى بوعلام باقي وكان ذلك من الإخوة الجزائريين تواصلا مع ما كان لهم مع الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله من علاقات أخوة متينة، لقد حفظوا بارك الله فيهم لشيوخ تونس وعلمائها ومفكريها ومؤرخيها ما أسدوه لهم مما تقتضيه الأخوة وهكذا رأينا ملتقيات الفكر الإسلامي السنوية يدعى لحضورها والمشاركة فيها الشيوخ والأساتذة: محمد الشاذلي النيفر ومحمد الشاذلي بلقاضي ومحمد المختار بن محمود ومحمد الحبيب بلخوجة والحبيب المستاوي ومصطفى كمال التارزي ومحمد الصادق بسيس ومصطفى المؤدب وعثمان الكعاك والتهامي نقرة وصلاح الدين كشريد وعبد العزيز الزغلامي وأبو لبابة حسين وعبد الرحمان خليف ومحمد المختار السلامي وعبد الجليل التميمي والمنجي الكعبي وعلي الشابي وجمعة شيخة وهشام بن محمود ومحمد بن صابر وكاتب هذه الأسطر (محمد صلاح الدين المستاوي) وغيرهم وكان كل هؤلاء يجدون التبجيل والتقدير والحرص على الاستفادة منهم ليس فقط في حضور أشغال ملتقيات الفكر الإسلامي بل في إلقاء المحاضرات والدروس وإعداد الحصص الإذاعية والتلفزية وتنشيط الحركة الفكرية، لقد كان ذلك ضربا من ضروب التواصل بين الشعبين ويحفظ لأبناء الزيتونة من الإخوة الجزائريين إنهم كانوا دائما عناصر وصل بين البلدين ولو كانت لإخوانهم من التونسيين من أبناء الزيتونة نفس فرص المشاركة الفعلية في ميادين الحياة العلمية والثقافية والإعلامية لاستفاد من ذلك الشعبان والبلدان أيما استفادة.
كانت لي فرص الجلوس المطول مع الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله والاستمتاع بما جبل عليه من روح مرحة في نكهة علمية ومعرفة واسعة بأحوال تونس في الفترة التي قضاها فيها طالبا بجامع الزيتونة وكان ذلك في كل سنة عند حضوري أشغال ملتقى الفكر الإسلامي الذي كان بحق جامعة صيفية رفيعة المستوى تدل عليها المجلدات المتضمنة لأشغالها بكل ما ألقى فيها من محاضرات وتعقيبات وهي ملتقيات كان يدعى إليها العلماء والمفكرون والمؤرخون والمستشرقون من كل القارات ومن كل الجنسيات ومن كل الملل والأديان وكانت تبث أشغالها المحطات الإذاعية والتلفزية الجزائرية.
كان الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله احد نجوم هذه الملتقيات وكان جسورا في إصداعه بآرائه كلفه ذلك ما كلفه وكان الجميع يحفظون للشيخ مكانته ومنزلته ووطنيته ورسوخ قدمه في المجال الديني فكان في الكثير من القضايا رأيه هو الكلمة الفصل وكان دائما ينتصر للعربية والإسلام وكان ينحاز دائما لخصائص المدرسة المغاربية التي كرستها الزيتونة التي رضع من لبانها إلى حد الارتواء.
وعندما جاء دوره في الإشراف على وزارة الشؤون الدينية بالجزائر سعى إلى تجسيم قناعاته الإصلاحية المتأثرة بمدرسة السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبدو التي تمثلتها أحسن تمثل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس وخلفه من بعده الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمهما الله.
وقد واصل الشيخ عبد الرحمان شيبان الدعوة إلى تنظيم ملتقى الفكر الإسلامي واختار محاور أشغاله في مواضيع ذات أهمية كبرى مثل القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة والصحوة الإسلامية والغزو الفكري وغيرها وتعميما للاستفادة بما يلقى في هذه الملتقيات وتكاملا معها عملت على إصدار أعداد خاصة لمجلة (جوهر الإسلام) التي واصلت الإشراف عليها بعد وفاة الشيخ الوالد الحبيب المستاوي رحمه الله وذلك بداية من سنة 1975 وقد تضمنت هذه الأعداد عينة لبحوث ومحاضرات الملتقيات وكان من بينها إما كلمة الافتتاح أو الاختتام التي يلقيها الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله وكان يرتاح أيما ارتياح لهذا التكامل والتعاون على خدمة الثقافة الإسلامية واللغة العربية.
وعندما ترك الوزارة وتفرغ لرئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكنا نلتقي في اجتماعات مجمع الفقه الإسلامي كان يستعيد معي ذكريات تلك الملتقيات ويطلب مني بإلحاح أن أزوده للجمعية وللصحيفة (البصائر) بما بقي لدي من هذه الأعداد الخاصة التي أصدرتها مجلة (جوهر الإسلام) وهو ما لم ابخل به عليه وعلى الجمعية.
ولقد تذاكرنا أكثر من مرة في عقد ندوة إما في الجزائر أو في تونس لمن بقي من خريجي الزيتونة من الجزائريين ومن بقي من إخوانهم شيوخ الزيتونة ومات رحمه الله ولم تتحقق له هذه الأمنية العزيزة على نفسه.
إن الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمه الله هو من آخر من بقي من أبناء الجزائر الذين تخرجوا من جامع الزيتونة عندما كان في أوج عطاء علمائه فكان رحمه الله امتدادا لهم هناك في الجزائر وظل إلى آخر أيام حياته المجسم لرسالته العلمية والإصلاحية وكان يود من صميم فؤاده أن تتواصل رسالة الزيتونة عن طريق مؤسسة تعليمية جزائرية بعدما تعرضت له الزيتونة من نكسة امتدت لعقود طويلة وكان رحمه الله يتحسر على الخسارة الكبرى التي انجرت ليس فقط لتونس بل وللجزائر معها بإغلاق جامع الزيتونة كأقدم جامعة إسلامية وقد شاركه في هذه الحسرة غيره ممن عرفوا للزيتونة أياديها على الثقافة الإسلامية ليس فقط أبناء هذه الجامعة من التونسيين بل كل إخوانهم من البلدان المغاربية والعربية والإسلامية.
رحم الله الشيخ عبد الرحمان شيبان رحمة واسعة واسكنه فراديس جنانه وأجزل مثوبته جزاء ما بذله من جهد وجهاد في خدمة الإسلام واللغة العربية وحماية الهوية وتقوية لحمة الأخوة والمحبة بين الشعبين الشقيقين التونسي والجزائري وإنا لله وإنا إليه راجعون.