مرجعيات الهوية الجزائرية في فكر الإمام ابن باديس
بقلم: د.علي بن محمد-
إن إصرار السلطات الاستعمارية الفرنسية على إلغاء هوية الكيان الجزائري منذ بدايات الاحتلال هو الذي جعل موضوع الهوية في الجزائر ميدانا للكفاح الوطني، وموضوعا للمقاومة الشعبية. وقبل تناول الجوانب الهامة الخاصة بالهوية في فكر الإمام عبد الحميد بن باديس، نريد أن نـُذكـِّر ببعض القرارات الاستعمارية التي اتخذتها مؤسسات الدولة المحتلة لإلغاء الوجود الجزائري، في وقت مبكر جدا من عدوانها السافر، وهو ما تميزت به على معظم أنواع الاستعمار المعروفة في الأزمنة الحديثة، بل إنها تميزت به حتى على نفسها فى وجودها عند أشقائنا في تونس والمملكة المغربية !!
فما إن أعلِنت الجمهورية الفرنسية الثانية، في 24 فبراير 1848، وصادق المجلس الوطني الفرنسي التأسيسي على دستور جديد، (دستور 1848)، في 04 نوفمبر من الستة نفسها، حتى تقرر إلحاق الجزائر بفرنسا واعتبارها جزءا منها... فقد ورد في الفصل العاشر من ذلك الدستور، وفي المادة 109ما نصه "الجزائر أرض فرنسية" ولمقاربة التواريخ بعضِها ببعض، نذكـِّر بأن مقاومة الأمير عبد القادر قد انتهت في 21 ديسمبر 1847. وبعد نحو شهر من ذلك العدوان الدستوري السافر على سيادتنا الوطنية، أصدر رئيس الحكومة الفرنسية المؤقتة، في 09 ديسمبر 1848 قرارا يقضي باستحداث "ثـلاث عـمالات فـرنسية للجزائر"،كما كانت تسمى، أي ولايات،... والثلاث المقصودة هي الجزائر ووهران وقسنطينة.
لو شئنا الدقة في طرح موضوع "مرجعية" الهوية الجزائرية في الفكر الباديسي، لوجب أن نستعير من الاقتصاديين والدارسين في العلوم الاقـتصادية، بعض مصطلحات مناهجهم في البحث، حين يتحدثون فيها عن "اقتصاد كلي" و"اقتصاد جزئي" (Macro et Micro économie) لك أن لابن باديس في كل شأن يتناوله "مرجعية كلية" هي التي تنتظم كل فكره؛ و"مرجعيات فرعية"، تفصيلية، تدخل ضمن الإطار المرجعي الشامل، ولكنها أنسب للمسائل والموضوعات الأخرى التي يبسط فيها أفكاره ومذاهبه في الرأي. ولهذا اخترنا أن نجعل لهذه الفقرات عنوانا "مرجعيات" الهوية بصيغة الجمع.
أولا ــ الثـلاثـية الباديسية في تعـريف كـيان الأمة، هـي: بيان هُـوية، وعنوان كفاح، وبرنامج عمل "الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا".. كل واحد من هذه الأركان الثلاثة، يشكل مرتكزا مرجعيا لما يسميه الإمام "الذاتية الجزائرية". وإذا كا ن الحديث عن الجزائر هو الوعاء البارز لكل مضامين الفكر الباديشي، وإذ كان كل حديث عن الركنين الأخرين في الثلاثية، لأن كل حديث عنهما هو حديث عنها بوجه من الوجوه إننا سنركز في الفقرات التاليةعلى الإسلم والعروبة، ونبسط القول خلالهما في أهم ما أثاره الشيخ الإمام من أفكار وآراءفي شأنهما.
ثانيا ــ الدين الإسلامي هو أم المرجعيات كلها
1 ــ هو مــصـدر الــقــوة لشعب أعزل في مواجهة عدوه. تحت عنوان: "مبدؤنا السياسي" كتب الشيخ الإمام يقول: "نحن قوم مسلمون جزائريون... نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا التي تدعو إلى كل كمال إنساني... وفي المحافظة على هذه التقـاليـد، المحافظة على أهم مقومات قوميتنا، وأعظم أسباب سعادتنا وهنائنا، لأننا نعلم.. أن الدين قوة عظيمة لا يستهانبها" (آثار.ج 3 ص277).
2 - ولذلك هـو مبتدأ الدعوة وخبرُها في إيديولوجية "جمعية العلماء". يقول الشيخ الإمام، في مقال عنوانه "مبادئ دعوة جمعية العلماء"، متحدثا عن الظواهر "الطـُّرُقية" في الجزائر، "الأوضاع الطرقية بدعة لم يعرفها السلف. ومبناها كلها على الغلوّ في الشيخ، والتحيز لأتباع الشيخ، وخدمة دار الشيخ، وأولاد الشيخ... إلـى ما هنالك من استغـلال وإذلال، وإعـانة لأهل الإذلال والاستغلال، ومن تجميد للعقول، وإماتة للهمم، وقتل للشعور، وغير ذلك من الضرور". (جريدة البصائرـ 18 يونيو 1937) ومعنى ذلك بوضوح أن قوة الشعب العظيمة هذه ينبغي أن لا تستعمل إلا في تقوية الشعب، وإعداده ليوم قريب آت، تواجهفيه القوة المعنوية الجبارة قوة الطغيان العاتية...
ثالثا ــ الإسلام، عند الإمام ابن باديس، إسلامان:
1 ــ "الإسلام الوراثي"، كما يسميه، هو عنده، "الإسلام التقليدي الذي يؤخذ بدون نظر ولا تفكير. وإنما يـتـّبع فيه الأبناءُ ما وجدوا عليه الآباء". وهو لذلك يتسع للخرافات، و"البدع الاعتقادية والعملية". ومع أنه يعترف له بغير قليل من الفضائل أهمها: أنه "حفظ على الأمم الضعيفة المتمسكة به ــ وخصوصا الأمة العربية منها ــ شخصيتها ولغتها وشيئا كثيرا من الأخلاق..."؛ فــإن له ـ في رأيه ـ عيبا كبيرا وخطيرا جدا، يلخصه في قولــه: "لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبّه أفكارها وتـفـتحأنظـــارها. والإسلام التقليدي مبني على الجـمود والتقليد، فلا فـكر فيه ولا نظر".. (آثار، ج/3 ) 240.
2 ــ "والإسلام الذاتي"، وهو الذي يحبه الشيخ الإمام، ويفضله، ويدعــو الأمة إلى أن تجعله غاية لها، وهدفا لا تحيد عنه، لأنه: "إسلام من يـفـهم قـواعـد الإسلام، ويدرك محاسن الإسلام في عـقائــده، وآدابـه وأحكامه وأعماله..." وفـيه يكون المؤمن به هو من "يبني ذلك كله على الفكر والنظر" وهما اللـذان بهما "تنهض الأمم، فتستثمر ما في السماوات وما في الأرض، وتشيّد صروح المدنية والعمران"!.. أما سبل التوصل إلى "هذا الواجب" المفروض علينا شرعا فهو "سبيل واحد" هو سبيل "التعليم". ذلك لأنه "لا يكون المسلم مسلما حتى يتعلم... والمسلمون ــ أفرادا وجماعات ــ مسؤولون عن تعلم وتعليم الإسلام للبنين والبنات،للرجال والنساء". (السابق نفسه).
رابعا ــ مرجعيات العروبة في الهوية الجزائرية
أـ تصحيح النظرة التاريخية للعــرب قبل الإسـلام، ودحض الأفــكار الشائعة، يقول في الاجتماع العام السنوي لجمعية العلماء سنة 1949. "والحقيقة التي يجب أن أذيعها في هذا الموقف هي أن القرآن وحده هو الذي أنصف العرب. والناس، بعد نزول القرآن، قـصّـروا في نظرتهم التاريخية إلى العرب، فنشأ ذلك التخيل الجائر عن القصد". (آثار ج / 4 ،65).
ويمضي الإمام شوطا أبعد في تعميق رأيه بشأن تاريخ العرب قبل الإسلام، فيقول: "والعرب مظلومون في التاريخ، فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجا لا يصلحون لدنيا ولا لــدين... هكذا يتخيل الناس العرب، بهذه الصورة المشوهة"..! وخلاصة الرأي عنده، أن "التاريخ يجب أن لا ينظر من جهة واحدة، بل ينظر من جهات متعددة. وفي العرب نواح تجتبىونواح تجتـنب". وهو يكاد يوجب: "على كل من يدين بالإسلام، ويهتدي بهدي القرآن، أن يعـتـني بتاريخ العرب، ومدنيتهم، وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام. ذلك لارتباط تاريخهم بالإسلام، ولعناية القرآن بهم، ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام" (السابق. ص59).
ثم هو يرى "أن العرب هُـيّئوا تاريخيا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية". وتفسير ذلك أنه "ما كان ليجعل هذه الرسالة العظيمة لـغـيـر أمـة عـظـيمة، إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلا الجليل من الأمم والرجال!!" (السابق نفسه).
ب ـ العـزة العربية من مقومات الشخصية العربية من أهم ما أعجبه في خصال النفس العربية، تلك العزة التي عرفت بها، ونفورها من كلإذعان أو خضوع وانقياد للأجنبي. يقول ابن باديس: "فمن الطبيعة العربية الخالصة أنها لا تخضع للأجنبي في شيء، لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها..." ومن الواضح جدا مبلغ ما في كلام الشيخ الإمام من "التوظيف" في واقع الجزائريين آنئذ، وما ينطوي عليه من الاستفزاز والتحريض. ولن يترك الحديث عن "العزة العربية" فهو يذكـّـر بها في كثير من مقالاته. وقد وصف بها الشعب الجزائري ــ مفتخرا بهاوبه ــ في شعر له مشهور يقول فيه:
أشــعـبَ الجزائـر روحـي الفِـدا * لـما فــيــك من عــزّة عربـيهْ
بــنيتَ عـلــى الديـن أركـانهـــا * فـكــانت سلاما على البشريهْ
ج ــ مـحـمـد صلى الله عليه وسلم رجـل القــومـيـة الـعـربـيـة: إن الذين فاجأهم حديثُ الشيخ ابن باديس عن مدنية العـرب قبل الإسلام، واعتزازُه بالفضائل العربية في العصر الجاهلي، لا بدّ أن تكـون دهشتهم أكثر وهم يسمعونه يصف الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه "رجل الـقــومـيـة الـعـربـيـة"!!
وهو حين كتب هذه المقالة، ونشرها في مجلة "الشهاب"، في شهر يونيو/حزيران 1936، (آثار، ج4، ص 17)؛ إنما كان يريد أن يُـقــّر في الأذهان حقيقة على جانب كبير من الأهمية والخطر، وهي حلقة أخرى من المسلسل الفكري الباديسي الرامي إلى إبطال المكائد الاستعمارية التي كان من أوائل من فهم أنها قنابل موقوتة يطمح الاستعمار إلى تفجير النسيج الوطني للشعب الجزائري. وهو، من هذا المنظور، يُـقر عدة قواعد هي لديه مرتكزات أساسية مستـنبطة من مرجعياته الدينية والاجتماعية والتاريخية.. وهي التي نشير إلى بعضها فيما يلي:
د ــ اللغة العربية هي التي تمنح الجنسية العربية. يبني الشـيخ الإمام كـل نظريته عـلى الحـديث الـنبوي المشهـور "... ليست العربية بأحـدكم من أب ولا أمّ؛ وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي"!! لقد وقـف الإمام طويلا عند هذا الحديث النبوي الشريف. فـبعد أن يوثقه، ويذكر سنده ومصدره، والسياق العـنصري الذي جاء فيه، وما انتاب رسول الله من غضب شديد يسبب ذلك!!....
ويبني الشـيخ الإمام مرتكزات نظريته على الحديث النبوي المشهـور "ليست العربية بأحَـدِكُم من أب ولا أمّ؛ وإنما هي اللسان. فمن تكلم بالعربية فهو عربي"! ولقد وقـف الإمام طويلا عند هذا الحديث النبوي الشريف. إذ نجده، بعد أن يوثقه، ويذكر سنده ومصدره، والسياق العـنصري الذي جاء فيه، وما انتاب رسول الله من غضب شديد يسبب ذلك!!... يَستخلص منه عبرا ودروسا في غاية الأهمية. ولعلنا اليوم في أشد الحاجة إلى تدبّـرها. منها:
1 ـ أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أضفى "الجنسية العربية، بصفة مُسبّقة، على كل من يدخل في الدين الإسلامي، ويتخذ لغة القرآن لسانا له. ومعنى ذلك أن الأمة العربية ليست محدودة بمكان ولا بزمان؛ بل هي في اتساع دائم، أو كما قال الشيخ الإمام: "ينمو عدد الأمة العربية بـنموّ عدد من يتكلمون لغتها...". وفي هذا درس مفيد، وتفسير نبوي لعروبة عرب اليوم، وأفـق مفتوح لكل صيغ البناء المشترك بين أفرادها...
2 ـ وترجمة الحديث النبوي الشريـف في الواقـع الوطـني الجزائري، وفي كـل واقـع عـربي، أن الناطـقـيـن بالعربـيـة هـم عـرب، مهـما كـان تمايـز أوضاعهم، وأحوالهم، والأصول القديمة لأعراقهم قبل الإسلام، ومواطن مولدهم ومعيشتهم.. وهم ـ ضمن الإطار الإسلامي ـ يشكلون أمة، بأتم معنى الكلمة، بلا عصبيات، ولا خلفـيات عنصرية، ولا طبقية أو تمايز في الانتساب، ولا تنابز بالألقاب... العربية هي اللسان؛ فمن تكلم بالعربية فهو عربي!.. وهو فرد من أفراد الأمة. وهذا هو الذي كان سائدا عندنا، في أقطار المغرب العربي كله، حتى إن عموم الناس لم يكونوا يفرقون بين العربي والمسلم..
وفي الغرب اليوم تطبِّـق بعض الدول الغربية مبدأ أن "معرفة لغة البلاد وتاريخها هي المدخل الإجباري للحصول على جنسية البلد المعني.. بل إن تلك البلدان لا تمنح الجنسية لطالبيها إلا بعد النجاح في امتحان تـُجريه لهم في لغة البلد، وأهم معطياته التاريخية، ومنجزاته الحضارية.. (وقد نشأت في بعض تلك البلدان شبكة من المدارس الخاصة لتعليم طالبي الجنسية لغة البلد المعني وتاريخه، وإعدادالمترشحين لدخول امتحان الجنسية... من هذه البلدان فرنسا وألمانيا).
3 ـ وأن هذه الأمة ذاتُ "قـومية متمـيزة". وأن الانتماء إلى هذه القومية، والاعتزاز بها، شرفٌ كبير.. لأن في ذلك انتسابا إلى الرسول؛ وعملا بهديه، لأنه ـ عليه الصلاة والسلام "رجلـُها" وقائدها.
4 ـ ثم يقرر الإمام ابن باديس حقيقة أخرى، وهي اليوم من المسَلمات لدى علماء الأجناس والسلالات. وتلك قوله: "تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد. وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تــتكلم بلسان واحـد". أجل، إننا لا نكاد نعرف أمة من الأمم العريقة، في القديم والحديث، ليست لها لغة واحدة، بقطع النظر عما يمكن أن يكون لها من اللهجات المتعددة!.. ومعلوم أننا نتحدث عن الأمة الواحدة، لا عن الأمم التجمعة في دولة فدرالية، لظروف تاريخية خاصة بها كما هو الشأن في بلجيكا، أو سويسرا، أو كندا.. أو كما كان الشأن في تشيكوسلوفاكيا.وفي غيرها...
ثم يصل الإمام إلى المرحلة الحاسمة من تفكيره فيقول "فـليس الذي يكوّن الأمة، ويربـط أجزاءَها، ويوحّد شعورها، ويوجهها إلى غايتها، هو هبوطها من سلالة واحدة. وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمُها بلسان واحد!" (آثار، ج4، ص17ـ21). وبقطع النظر عن الأبعاد الإنسانية العامة للخطاب الباديـسي، فإنه لا يخفى على أحد أن الشيخ الإمام كان مهموما، قبل كل شيء، بالتصدي للتآمر المتواصل من الاستعمار الفرنسي على الهوية العربية ــالإسلامية للشعب الجزائري. ولذلك نراه دائم الاهتمام بتجديد الحديث عن الإسلام والعربيـة، والاستشهاد بأمجاد الأمة العربية ومفاخرها في عصورها الذهبية.ولكن، من هم "العـرب" اليوم؟ ومـا هي "الجنسية العربية" التي لم ينقطع يوما عن نسبة الجزائر والشعب الجزائري إليها؟
خامسا: مَـن هم العرب اليوم؟ وما معنى الجنسية؟
ينطلق الشيخ الإمام، مرة أخرى، من واقع الجزائر في أيامه، فيرى أن الجنسية في حقيقة أمرها تنقسم إلى شقين هما: الجنسية القومية، والجنسية السياسية. ويـشـْـرَع، كعادته، في إقرار القاعدة العامة التي يقيم عليها بناءه النظري. وهي، في سياقنا هذا، أن " الشعوب تختلف بمقوماتها ومميزاتها كما تختلف الأفـراد."... ثم يستنبط من القاعدة خلاصتها المفيدة، وهي في نظره "لا بقاء لشعب إلا ببقاء مقوماته ومميزاته، كالشأن في الأفراد". ولا يخفى ما في هذه العبارة من أبعاد التوظيف والاستخدام في الواقع الوطني الجزائري لما فيها من تنبيه وتحذير. ثم يشرع في تعريف كل من الجنسيتيناللتين ذكـَرَهما؛ فيقول:
1 ـ الجـنسية الـقـومية، هـي: "مجموع تلك المقومات والمميزات (التي) هي اللغة التي يُعْـِرب بها (الإنسان) ويتأدب بآدابها. والعقيدة التي يبني حياته على أساسها. والذكريات التاريخية التي يعيش عليها وينظر لمستقبله من أجلها. والشعور المشترك بينه وبين من يشاركه في هذه المقومات والمميزات". فهـذه الجنسية هي مؤسسة إذن على ثوابـت الأمة التاريخية. وعلى مشاعرها العميقة التي فـُطرت عليها، والتي لا تـَقـْدِرُ أية سلطة في الأرض أن تتحكم فيها، أو تعدّلها كما يحلو لها، ولو كانت سلطة الاستعمار نفسَها..
2 ـ والجنسيــة السياسية، هي "أن يكون لشعبٍ مــا لشعبٍ آخر من حقوق مدنية، واجتماعية، وسياسية، مثل ما كان عليه... من واجبات (كانت أيضا) على الآخر (إذ) اشتركا فيها لظروف ومصالح ربطت بينهما"... هذا النوع الثاني من الجنسية هو الذي كان ينبغي أن يكون ثمرة للجنسية الفرنسية التي تفرضها سلطة الاحتلال على الشعب الجزائري، دون أن تعطي مقابلها ما يلزم من الحقوق... وقد رأينا كيف ضاقت اللغة بالشيخ، وهو البليغ الفصيح، فلم يستطع أن يهتدي إلى التوفيق بين المتعارضَـيْن بطبيعتيهما، فحار بين الحقيقة التي في نفسه، وهامش الكلام الذي لا يثير غضب ذلك الرقيب الشرسالذي لا تغفل له عين!
سادسا: الموقف من الوحدة العربية
تحت الاحتلال للوحدة العربية مظهران عند الإمام ابن باديس، هما الوحدة القومية، والوحدة السياسية بين العرب. وقد كانت للشيخ الإمام مساهمة متميزة في ذلك النقاش الحامي الذي دار حول وحدة الأقطار العربية بين "الأمير شكيب أرسلان"، ومن أسماه "سعادة سليمان باشا الباروني"، حول قضية سماها "مسألة عظـيمة" ، هي "الوحدة السياسية للأمة العربية من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلنطيقي". وقد ناصر فيها ابن باديس شكيب أرسلان، مع أنه هو الذي كتب في المقالة التي أثارت النقاش: " للمغرب العربي وحدته، وللمشرق العربي وحدته، ويمكن أن تكون بينهما علاقات". وخالف شيخُنا ابـنُ باديس سليمانَ الباروني مع أنه هو الذي كان يرى ضرورة إدماج أقطار المغرب العربي في الوحدة العربية المنشودة، بدون تمييز بين المشرق والمغرب العربيين، إذ لا تكتمل وحدة العرب في نظر البارون إلا إذا شملت عـرب المشرق وعرب المغرب بلا استثناء. وكان لابن باديس تفسيره لموقفه ذاك...
سابعا: الاحتجاج لعـروبة الجزائر
ما كان باسـتـطاعـة الشيخ الإمام أن يمـضي في الدفاع عن عروبة الجزائر، والجهاد من أجل الهويـة العربية ـ الإسلامية، من دون أن يثبت هذه الصفة بحجج تاريخية وبراهـين مقـنعة، في ذلك الوقت الذي كان الاستعمار يعـلـِّم فـيه أطـفال الجزائر أن "أجدادهم هم الغاليون"
1 ـ كيف صارت الجزائر عربية؟: يقول ابن ياديس في مجلة الشهاب (فبراير1938)، "مـا مِن نكـير أن الأمة الجزائرية كـانت مازيغـية من قديم عهدها"، ولم تستطع أمة فـي التاريخ "أن تقلبها عن كيانها (أو) أن تـَخرُج بها عن مازيغيتها ... بل كانت هي تبتلع الفاتحين... فلما جاء العرب وفتحوا الجزائر فتحا إسلاميا لنشر الهداية، لا لبسط السيادة... دخل الأمازيغ... الإسلامَ، وتعلموا لغة الإسلام، العربية، طائعين، فامتزجوا بالعرب بالمصاهرة، ونافسوهم في مجالس العلم، وشاطروهم سياسة الملك وقيادة الجيوش، فاتحدوا في العقيدة والنِحلة، كما اتحدوا في الأدب واللغة، فأصبحوا شعبا واحدا عربيا متحدا غايةالاتحاد، ممتزجا غايــة الامـتـزاج! وأيّ افتراق يبقى بعد اتحاد الفؤاد واتــحــاد اللسان؟" وقد اقتضت عقيدة الإمام أن يواجه بالمنطق والحجة كل المتنكرين لما سماه "الذاتية الجزائرية". وكان الاندماجيون في مقدمة أولئك المنكرين.
2 ـ مواجهة الاندماجيـّين: "الاندماجي" مصطلح سياسي، تاريخي، دل في الجزائر على" من يؤمن بما يسمـّى "الاندماج"، (l'intégration)، ومعناه إدماج الشعب الجزائري في الشعب الفرنسي من أجل أن تكون له نفس الحقوق التي هي للفرنسيين. والاندماجي هو الذي يناضل سياسيا وثقافيا من أجل بلوغ هذا الهدف. و كان الزعيم/ فرحات عباس/ قد كتب في جريدة "الوفـاق" التي تصدر باللغة الفرنسية؛ واسمهـا " لانـْطـانـَتْ " (l'Entente)، يوم 23 فبراير 1936، مقالا (باللّغة الفرنسية) تحت عنوان " فرنسا هي أنا"، قال فيه ما تَرْجَمَـته: "لو كنتُ اكتشفتُ الأُمّة الجزائرية لكنتُ وطنيا... لن أموت من أجل الوطن الجزائري، لأنّ هذا الوطن غيرُ موجود! لم أعثر عليه.! وقد ساءلتُ التّاريخ، وساءلتُ الأحياء، وساءلتُ الأموات، و زرتُ المقابر، فلم يُحدّثني عن هذا الوطن الجزائري أحد"!!
وتصدّى الشيخ الإمام ابن باديس للردّ عليه في مقال كان له صدى واسع، ودويّ كبير، تحت عنوان "كلمة صريحة"، ردّ فيه على فرحات عباس. بدأه قائلا: " إن هؤلاء المتكلّمين باسم المسلمين الجزائريين، و الذين يُصوّرون الرّأي العام الإسلامي الجزائري بهذه الصّورة... هم في وادٍ والأُمّة في واد...". ثم يُضيف في صرخة استنكار: "لا، يا سادتي! نحن نتكلم باسم قسم عظيم من الأُمّة، بل نـدّعي أننا نتكلم باسم أغلبية الأمّة، فنقول لكم، ولكلّ من يُريد أن يسمعنا... إنّنا نحن فتـشنا في صُحف التّاريخ، و فتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأُمّة الجزائرية المسلمة متكوّنة، موجودة كما تكوّنت و وُجِدت كلّ أُمم الدّنيا. و لهذه الأُمـّة تاريخُـها الحافـل بـجلائل الأعمال، و لها وحـدتـُها الدينية واللغوية، ولهـا ثقافتها الخاصّة... "ثم يخلص الإمام إلى أهم فقرة في مقالـه، وهي التي يقول فيها: "ثم إن هذه الأُمّة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت!! بل هي أُمّة بعيدة عن فرنسا كل البعد: في لغتها، وفي أخلاقها، و في عنصرها، و في دينها. لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود، معين، هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة... "وعلى أولي الألباب أن يقيسوا هذا الفيض الصافي من الوطنية الراسخة، الصادر عن الإمام منذ ستٍ وسبعين سنة، (عام 1936)، بشعارهذا الملتقى الذي تنظمه صحيفة جزائرية، تصدر بالفرنسية، اليوم السبت26 ماي 2012 (وأنا عاكف على وضع اللمسات الأخيرة لهذه الفقرات)، تحت عنوان مثير، بعد خمسين سنة من استقلال البلاد! وهو: "الأمة الجزائرية في طور البناء" Nation algérienne en construction La، وليقارنوه، أيضا بهذه المناسبة بقول من قال "الجزائر أمة في طور التكوين"...
وقـد بلغ من تأثير هذا المـقـال، في المحـيط السياسي، أن قامـت على الشيخ الإمام ضجّة كبيرة أراد أصحابها من خلالها أن يستفـزّوا عليه سلطات الاستعمار بحُجّة كونه ضدّ "الوجود الفرنسي في الجزائر". أما المعنيّ نفسه، وهو "الأستاذ فرحات عبّاس"، كما يسميه الشيخ ابن باديس بكـل أدب، فقد زاره في مكتبه بإدارة مجلة الشهاب بقسنطينة، وشرح له، خلال تلك الزيارة، أنه إنما كان يريد أن يُحِقّ حقوق الجزائريين في المُساواة مع الفرنسيين. ثم كتب، (فرحات عباس) بُـعيد ذلك، مقالا في جريدة "لاديفانس" (الدفاع) مقالا توضيحيا حاول أن يخفف فيه من وطأة المقال الأول، ومـا كان من آثارهالسلبية في الرأي العام الوطني.
الـخــلاصــــة:
كانت كل مرجعيات الهوية، في فكر شيخنا الإمام، واحدة، موحِّـدة!! وهي مستمدة، في أهم مقوماتها، من تاريخ واحد على امتداد حقب طويلة من الزمان. وهي، من ناحية أخرى، خلاصة مخاض طويل من العيش المشترك، وكفاح متواصل خاضته الأمة بكل فئاتها تحت راية واحدة، دفاعا عن الوطن ومقدساته. وهي أيضا نتاج حضارة مزدهرة، جامعة، كان للجزائريين فيها، ضمن محيطهم المغاربي، نصيب وافر في صُـنعها، ونشر قيمها السامية، ومثلها العليا. وقد فازوا بمقدار كبير من فضل الجهاد في سبيلها. وهي، أعني تلك الحضارة الراقية، ثمرة يانعة لثقافة عربية ـ إسلامية عالمية، نهلوا منها، ودونوا فيها أهم صفحات تاريخهم المشترك، بلغة القرآن التى غدت مع الإسلام رباطا متينا صنعته يد الله، وصانته العناية الإلهية من مكائد الاستعمار، وحماه الشعب، بتضحياته التاريخية.
بهذه العناصر وغيرها حُـقّ لإمامنا الجليل أن يقول عن الجزائريين إنهم "أصبحوا شعبا واحدا، عربيا، متحدا غاية الاتحاد، ممتزجا غاية الامـتـزاج!.. وأيُّ افتراق يبقى بعد اتحاد الفؤاد واتحاد اللسان؟ ". هذه هي الهوية الجزائرية كما فهمها إمام النهضة الجزائرية في العصر الحديث. وكما فهمها كل الذين مثلوا وطنية الجزائريين، وكانوا رواد الركب الحضاري، وكواكب إبداعاته في كل المجالات.. فمن هم الأحق بتحديد هوية الجزائريين؟ أهم أمثال ابن باديس من أعلام المجتمع وعلماء الأمة، وَرَثـَة الأنبياء، وحَـفـَظـَة العهود والعقود؟... أهمُ الشهداءُ الذين قدموا أرواحهم الغالية لإنقاذ الوطن من مغـتصبيه ، وتحرير البَلـَد من مستعمريه، واستعادة الكرامة لشعب كابد ما كابد من ألوان الإهانة والإذلال؟... فأسلموا أرواحهم الغالية لباريها، وعبارة " اللـَّهُ أكبر" تـَفيض بها صدورُهم، وتـُدَوِّي بها حناجرهم، فترددها صخور الأودية وقمم الجبال.. أهم المجاهدون الحقـيقـيون الذين غسلوا عار الهزيمة التي ضلت جرحا داميا في في روح الأمة وجسدها متذ ذلك اليوم الأسود، ذات يوليو من عام 1830، فأعادوا للنهر مجراه، وجددوا لمعنى النصر عنوانه ومحتواه، وما بدلوا تبديلا.!؟ أهم هؤلاء الكبار العمالقة؟ أم هم أولئك الفتية المستـَلبون، الضائعون، ذوُو النفوس الشاغرة، والعيون الغائرة، أولئك الذين يريدون أن يصنعوا أمة بنقر أوتار قيثارة، والنفخ في جوف زُرْنة؟ ويُفـتـّتوا بالأوهام، والخرافات، شعبا عظيما، ضحى في سبيل هويته الأصيلة، الواحدة، الموحدة بالملايين من أبنائه، وحقق بها أعظم الانتصارات...فيا لبؤس الأمة والوطن إن قـُدِّرلأولئك الفتية ومن لف لفهم أن يكونوا، لا كتب الله ولا قـدّر، هم الغالبين!!