العلم والقيم الأخلاقية في فكر الشيخ عبد الحميد ابن باديس
بقلم: سعد خميسي-
لا شك أن آيات القرآن الكريم تعج بالدروس و بالمواعظ و بالعبر و العبارات التي تلزم قارئها بالتوقف عندها، منها قوله تعالى:( إنا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). بالرغم من أهمية هذه الآية التي تتحدث عن علاقة الإنسان بربه إلا أنه من بين ما يلفت الانتباه فيها اقتران الظلم كقيمة أخلاقية بالجهل مما يدفعنا إلى حتمية الربط بين العدل والعلم بحكم أنه إذا ارتفع الظلم و الجهل حل محلهما العدل و العلم.
وإذا أردنا أن نوسع من دائرة هذه المسألة أكثر جاز لنا القول أنه كما أن القرآن عقد الصلة بين الرذيلة و الجهل فإنه يمكن جمع الفضيلة بالعلم وهو ما يؤيد ويوافق قول الفيلسوف " العلم فضيلة و الجهل رذيلة".
لقد طرح الشيخ عبد الحميد ابن باديس علاقة العلم بالقيم الأخلاقية انطلاقا من القرآن أيضا وذلك عند تفسيره للقرآن الكريم – كما سيتبين لنا ذلك- فما هو مفهوم العلم عنده، وما هي أدواته و مصادره ثم كيف نظر إلى القيم الأخلاقية ؟ ما هو موقفه من مسألة الحسن و القبح؟ والخير والشر؟ وكيف ربط بين كل ذلك و العلم، وما الغاية المنشودة من عقد الصلة بين العلم و القيم الأخلاقية؟
1-مفهوم العلم و أدواته عند ابن باديس:
يحدد ابن باديس مفهومه للعلم وأدوات تحصيله عند تفسيره لقوله تعالى:
(( ولا تقف ما ليس لك به علم ، إن السمع و البصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا))1
من خلال هذه الآية يحدد ابن باديس مفهوم العلم، كما يحدد الوسائل التي بها يحصل الإنسان على العلم، وهي الوسائل التي جعلته مناط التكليف كما تميز بها عن سائر الكائنات وعلى رأس هذه الوسائل يأتي العقل.
أما العلم فهو عندا بن باديس ذلك التصور المطابق للواقع مع الاقتناع بالحجة على ذلك وهي إما مادية محسوسة، أو معقولة مثبتة بالبرهان و الاستدلال، يقول في هذا الصدد:" العلم إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء أكانت تلك البينة حسا أو مشاهدة، أو كانت برهانا عقليا: كدلالة الأثر على المؤثر، و الصنعة على الصانع. فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن...2"
هذا المفهوم الباديسي للعلم هو المفهوم نفسه لدى علماء الكلام وفلاسفة الإسلام ففي التعريفات للجرجاني وردت جملة من المفاهيم المتقاربة في المعنى، وضع على رأس هذه المفاهيم ما قرأناه عند ابن باديس، حيث قال الجرجاني:" العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع. وقال الحكماء هو حصول صورة الشيء في العقل..."3
ولكن ولما كان العلم بهذا المعنى مرادف لمعنى الحقيقة، بل لليقين و حصول الاطمئنان في النفس، خفف ابن باديس من هذه الدرجة في الجزم، وقال بأنه – أي العلم- يطلق "أيضا على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جدا"4.ويستدل هنا بالقرآن دائما من خلال قوله تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام:" ((وما شهدنا إلا بما علمنا))5 ، "لأنه إدراك كاد يبلغ الجزم لانبنائه على ظاهر الحال ، وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه."6
لما قارب ابن باديس بين حصول اليقين و الاقتراب من ذلك ميز بين هذين الصنفين في العلم _ الجزم و الاقتراب من الجزم- من جهة، وبين باقي الأصناف التي لا تغني من الحق شيئا أو التي ليست بعلم و تختلط لدى بعض الناس بمفهوم العلم، من جهة أخرى، مثل الشك أو الظن و الوهم، وهي بترتيبها تتدرج في الاتجاه نحو اليقين، من الإدراك بالرجحان، إلى تغليب وجه على وجوه أخرى محتملة، وصولا إلى إدراك لأمر على وجه لا يحتمل خلافه.
من خلال الآية الكريمة التي دائما بصدد تفسيرها، يحدد ابن باديس أدوات العلم في: المدركات الحسية التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان والمشار إليها في الآية بالسمع و البصر وفي أداة معرفية تفرد بها الإنسان و تميز عن سائر الكائنات، ألا وهي العقل، وذكرها في الآية جاء على أنها الفؤاد، فالفؤاد:"القلب والمراد به هنا العقل من اعتقاده لشيء ما. وإطلاق لفظ الفؤاد و القلب على العقل مجاز مشهور"7.
يعتبر ابن باديس العقل قوة روحية والأداة الرئيسة في التفكير، مهمته تكمن في الاستدلالات و بناء الأقيسة المنطقية بمقدمات صحيحة يستخرج فيها المجهول من المعلوم فتفكيره –أي العقل – هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجابا و سلبا، وارتباط بعضها ببعض نفيا و ثبوتا، وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الارتباط على صورة مخصوصة، ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول . فالتفكير اكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشفا ما دام مفكرا.
" وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان، ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها، ويستقيم تنظيمه لها، تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس و المعقول وقسمي العلوم والآداب"8
ليست العلوم حكرا على حضارة أو مدنية بعينها، بل الحضارات تتأسس و تتطور بناء على كثرة معلوماتها واكتشافاتها وحسن استفادتها من بعضها البعض فحضارة العرب تدعمت بعلوم اليونان بإعطائها الطابع الإسلامي وحضارة الغرب تطورت باستفادتها من علوم العرب مع إعطائها الطابع المسيحي و الغربي، فالعلوم لا أوطان لها، وهي في تطورها تعكس مرور الإنسانية بتحول و تغير في أطوار، و الذكي من يعمل النظر فيما وصل وتراكم لديه من معلومات و يحسن الاستفادة منها ، أما من تخلى عنها ضعف وهان وزال ملكه و سلطانه، "فمن قلت معلوماته قلت اكتشافاته... ومن كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها... بقي حيث هو جامدا، ثم لا يلبث أن تتلاشى من ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل...وهذا هو طور الجمود الذي يصيب الأمم المتعلمة في أيامها الأخيرة عندما تتوافر الأسباب العمرانية القاضية – بسنة الله – بسقوطها".
لهذا كله يلتمس ابن باديس من قومه والشباب منهم على وجه الخصوص أن لا يتوانوا في طلب العلم حيث كان وبأي لغة كانت حتى يتم استرداد المجد الضائع، يقول ابن باديس:"فأرجوكم أيها الشبان الحازمون أن تأخذوا العلم بأي لسان كان وعن أي شخص وجدتموه وأن تطبعوه بطابعنا لننتفع به الانتفاع المطلوب كما أخذه الاورباويون من أجدادنا وطبعوه بطابعهم النصراني وانتفعوا به وهم إذا أنكر بعضهم اليوم فضلنا عليهم فذلك شأنهم أما نحن فلا ننكر فضل من أسدى إلينا الخير الخالص ونعترف له بالجميل الذي لا يراد به سوى الجميل ولا علينا فيمن (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره و لو كره الكافرون ) ولا يكن في صدورنا من خالهم حرج فصدورنا بالإيمان بالله و الثقة به أوسع وعقولنا أرجح وديننا أرحم وأكمل."9
إن ابن باديس يطرح في هذا النص قضية المعاصرة فيدرك تماما مدى التقدم العلمي الذي بلغه الأوربيون ويدرك حاجتنا لهذا التقدم مع ضرورة جعله يتماشى و أصالتنا ، و يتضح من هنا أن سلفية ابن باديس محدثة نهضوية يلتقي فيها مع الأفغاني و عبده. كما تبدو في النص نزعته التفاؤلية بعودة الريادة و السيادة إلى الإسلام و المسلمين، ولكن ذلك لا يتحقق إلا بتوخي الأسباب، وعلى رأس هذه الأسباب العلم . ولبلوغ ذلك يجب إعمال العقل في تحصيل المعلومات و مواكبتها بالاكتشافات بديمومة و صيرورة لا تركن إلى الكسل و الخمول لأن ذلك من أسباب الأفول لا التقدم و الازدهار.
إن اعتماد العقل على وجهه الصحيح والاحتكام إلى النص في نتائجه يثمر عند ابن باديس ثلاثة أمور: اعتقاد صحيح، قول صادق و سداد في الرأي. هذه الثلاثية تقودنا إلى البحث في غائية العلم وأهدافه لدى رائد النهضة الجزائرية فما هي يا ترى؟
2- الحكمة غاية العلم والعمل :
لا معنى للعلم عند ابن باديس إن لم يكن يهدف بالنهوض بصاحبه، ولتتحقق هذه النهضة لابد للعلم من ممارسة تصحبه، وتتجسد هذه الممارسة بالأخص في سلوكات أخلاقية أو في قيم تنم عن شخصية عالمة عاملة هادفة لا عشوائية و لا اعتباطية، وإذا اجتمع العلم الصحيح بالعمل السديد تحققت الحكمة.
فالحكمة عند ابن باديس إذن هي الجمع بين العلم الصحيح و العمل المتقن،وإن شئت قلت الجمع بين التصور و التصديق بالعمل لما في الذهن ، لذلك جاء في القرآن الكريم بأنه من نالها فقد حاز الخير الكثير، مصداقا لقوله تعالى:)) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ))10
ولا شك أن أول ما يجسد الحكمة في الإنسان وما يعبر عنها هو اللسان، ومن هنا أعطى ابن باديس قيمة خاصة للسان استمدها من القرآن الكريم، باعتبار اللسان معبر عن العلم، وعاكس لمستوى خلق و ثقافة الإنسان، بل لشخصيته عموما، وقديما قيل :" المرء مخبوء تحت لسانه"
فاللسان في نظر ابن باديس سيف ذو حدين: ويستعمل في وجهي الأخلاق: الحسن و القبح، "فإذا حسن قويت روابط الألفة وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد و العشائر و الأمم، وتقاربت العقول و القلوب بالتفاهم، و تشابكت الأيدي بالتعاون و التآزر...وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك. فالكلام السيئ قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد و الاستمداد و التعاون وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة و المحبة بطلت الألفة و التعاون، وحلت القساوة و العداوة، وتبعها التخاصم و التقاتل، و في ذلك كل الشر لأبناء البشر."11
بهذا يكون الإنسان بما يملكه من أدوات الإدراك الحسي، التي تجمعه بالحيوان وتفرقه عن الجماد و النبات وبالعقل الذي ميزه عن سائر الكائنات إنسانا يؤمن و يعمل وهو ملزم بضرورة مطابقة العمل للإيمان حتى يبلغ الحكمة، المعبر عنها باللسان ذلك الترجمان على ما بلغه من علم والرابط بينه و بين غيره و هو عاقد للألفة و الآلاف. يقول ابن باديس:" اللسان أداة البيان وترجمان القلب و الوجدان. والكلام به يتعارف الناس و يتقاربون، وبه يتحاجون و يتفاضلون ، لو لاه لما ظهرت ثمرات العقول و المدارك، ولما تلاقحت الأفكار و المشاعر، ولما تزايدت العلوم و المعارف، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز عن بقية الحيوانات"12 قيمة اللسان هذه عبر عنها الشاعر بقوله :
لسان الفتى نصف و نصف فؤاده فلم يبقى إلا صورة اللحم و الدم.
3-الحسن و القبح عند ابن باديس:
يرى ابن باديس أن العقل الذي هو الأداة الرئيسة في العلم ،هو أيضا الفيصل و المميز لحسن الأفعال من قبحها، وقد وهبه الله هذه الملكة حتى إذا اقتاد لأوامر الشرع ونواهيه يكون اقتياده عن وعي و تبصر، فالشيخ عبد الحميد بن باديس يقرر أن"حسن الطاعات وقبح المعاصي مركوز في العقول"13.
فهما إذن أي الحسن و القبح ذاتيين ، أما علاقتهما بالشرع فتكمن في أن الله حبب إليه ولعباده الحسن فأمر به و كره القبح ونهى عنه، ومن ثمة جاءت الشرائع موافقة العقل. ويتفق هنا إلى حد ما ابن باديس مع المعتزلة في جعل الحسن و القبح ذاتيين ، ولا يبتعد كثيرا في الوقت نفسه عن رأي الأشاعرة في أن الحسن و القبح شرعيين، وما يؤكد توسطهما و موافقتهما- أي المعتزلة و الأشاعرة - في نفس الآن قوله أن :"السيئ : هو القبيح ، و القبائح المنهي عنها ...قبيحة لذاتها و لنهي الله تعالى عنها" نفهم من هذا القول توفيقه و جمعه بين القول بذاتية الحسن و القبح و بشرعيتهما في نفس الآن. مع الإشارة هنا أن الاختلاف مع الأشاعرة يكمن في هذه المسألة في أن الله يمكنه أن يحسن القبيح أو يقبح الحسن إذا أراد ذلك ، يقول ابن باديس في هذا الصدد :"عرّف الله تعالى عباده ...أن ما أمرهم به هو الحسن المحبوب، وأن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض. فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع ونواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح و الفطرة السليمة ، وأنه تعالى لا يأمر بقبيح ولا ينهى عن حسن ، وفي علمهم بهذا ما يحملهم على الامتثال و يرغبهم فيه . فإن الحسن تميل إليه النفوس. و القبيح تنفر منه"14.
ولكن هذا الاختلاف الطفيف مع الأشاعرة لا يعني لديه فكرة اعتزالية بحتة لأن ابن باديس يستطرد في أثناء تفسيره لقوله تعالى(ولا تمش في الأرض مرحا...) فيبن أن ذاتية الحسن و القبح لا تعني أن العقل قادر على إدراك جزئيات و تفاصيل والمرامي من الحسن والقبح في الأفعال و كل الحكمة من ذلك لأن ذلك فوق طوره فلا بأس من أن يتوخى الإنسان و عقله الكمال ولكن لا يعني ذلك إدراك الكمال الإلهي، يقول ابن باديس:"...غاية الترغيب في الحسن والتنفير من القبيح[عند ربك]، فإن الحسن جد الحسن ما كان حسنا عند الله تعالى، و القبيح جد القبيح ما كان قبيحا عنده.وفي اسم الرب تنبيه على أن العلم بالحسن و القبيح على وجه التفصيل و التدقيق حتى يكون المأمور به حسنا قطعا – إنما له تعالى ، وأن أوامره و نواهيه – تعالى – الجارية على مقتضى ذلك هي من مقتضى ربوبيته – تعالى – وتدبيره لخلقه."15
مجمل القول في هذه المسألة أن ذاتية الحسن والقبح وإدراك العقل لها هو من حيث محدوديتها أما مطلق الحسن و القبح فإلهيين لا طاقة للعقل بهما.ثم بالموازاة مع معقوليتها فهي شرعية .
4-الخير و الشر في نظر ابن باديس:
في حديثه عن الشر و الخير وهو يفسر المعوذتين ميز ابن باديس تمييز الفلاسفة بين الخير المحض والشر المحض، كما ربط بين الشر و الظلام و بين الخير و النور،لا ثنائية وثنية(زرادشتية ومانوية) بل من حيث التشبيه والرمزية فقط، أو من حيث أن الشرور والمآثم عادة ماترتكب في جنح الظلام.
وإذا كان عالم الأرواح عالم نوراني فهو خير محض كما هو الحال بالنسبة للملائكة، ويعد ابن باديس الأنبياء من عالم الخير المحض أيضا، ثم يشير إلى أن " المخلوقات كلها خلقت بحق ولحكمة فهي في نفسها خير، فإن كان لا ينشأ من أعمالها و آثارها إلا الخير فهي الخير المحض، وإن كان ينشأ عنها الشر أحيانا أو دائما فعملها هو الشر و هو المستعاذ منه...فالله لا يرضى بالشر و لا يكلف به."16
يميز ابن باديس بين ثلاثة مفاهيم في ثنائية الخير و الشر : فهناك الخير لذاته، و الشر لذاته، و الشر النسبي. فأما الخير لذاته، فمثله "كالمال الذي سماه الله خيرا في القرآن، يكسبه صاحبه من الوجوه الشرعية و ينفقه في الوجوه المشروعة، ويتحرى رضا الله في جمعه و تفريقه فيكون خيرا بذاته وبعمل صاحبه"17 وأما الشر لذاته، أو الشر ذاتيا فأمره بين وهو على نقيض الخير لذاته ، ونماذجه كثيرة كالكفر و الظلم و الكبر...إلخ، بينما الشر النسبي فهو انقلاب النعمة إلى شر و بلاء بسبب سو التصرف فيها.
إن الإنسان من حيث هو مكلف يظهر الخير و الشر في أفعاله ، وقد منحه الله قوة التمييز، ولكن لم يمنحه قوة الاستعصام امتحانا له في تطبيق القوانين الثابتة للخير و الشر و التي حدد له ملامحها الرئيسية الشرع . ومن هنا كان اللجوء الدائم إلى الله ضروريا لينور بصيرته و يسهل السبل لعقوله لبلوغ أعلى درجات اليقين و الحكمة حتى تتوافق العلوم مع الأخلاق وينجح في الامتحان الإلهي له.
5-غاية العلم و الحكمة و الأخلاق: السعادة وتحقيق الكمال:
إن الهدف من وراء استعمال المدركات الحسية و العقل وتحصيل العلوم والمعارف وبلوغ درجات الحكمة هو بلوغ السعادة و نيل الكمال، فالكمال والسعادة بالعلم و الأخلاق معا.
والدليل في كل ذلك هو العلم الصحيح الذي يعطي اعتقادا يقينيا فيثمر و يجسد في سلوك أخلاقي قويم جميل، يتوخى الخير و يتجنب الشر بنوعيه الذاتي و النسبي، يقول ابن باديس:"إن الغاية التي يسعى إليها كل عاقل هي السعادة الحقة ، وإن التكاليف الإسلامية كلها شرعت لسوقه إليها"18
ومساوقة للتكليف الشرعي كرم فضل الله الإنسان بالعقل ليهتدي إلى نور العلم ويسلك الأخلاق الفاضلة، كما يتجنب الرذائل حتى ينال السعادة و يتدرج في سلم الكمال، ويكون أهلا للتكريم و الفضل، يقول ابن باديس:" نعم، الانسان أعظم من الأرض و الجبال بعقله، ولكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحا، لأن عقله يبصره بعيوب نفسه ونقائص بشريته...فما مرح إلا وهو محروم من نور العقل مفتون بمادة الجسم19 ..."
والسبيل إلى بلوغ درجة الاستفادة من نور العقل والاقتداء بالشرع لا يكون حسب ابن باديس إلا بالتربية و التعليم، لذلك قال:" إن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا وتربية غيرنا ، هو تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق ، فالباطن أساس الظاهر وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله"20
خاتمة :
خلاصة القول أن فلسفة ابن باديس في العلم و في الأخلاق منطلقاتها من القرآن، ولو أنه من القرآن ذاته حدد مفهوم العلم باعتباره معرفة منظمة يقينية أو تقارب اليقين قدر المستطاع، كما حدد وسائل المعرفة مركزا على المعرفة الحسية ثم العقل الذي عده آلة العلم الرئيسية، و بالعلم و بممارستة و تجسيده سلوكا يأتي الحديث عن الأخلاق، التي مصدر حسن الأفعال فيها أو قبحها ذاتي و شرعي، لهذا على الإنسان إذا أراد أن يبلغ العلم النافع ويمارس الفضائل أن يعمل عقله ويحتكم للشرع فينال السعادة و الكمال بقدر ما اجتهد و اكتشف، و النص الموالي لابن باديس قد يوجز العلاقة بين العلم وعلى الأقل النظر والسلوكات الأخلاقية:" سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطا و ثيقا : يستقيم باستقامته ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه.لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته،وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره و نظره."21
ثم ينصح بقوله :"على مرشدي المسلمين أن يعانوا أدواءهم بالعلاقات النافعة و يشخصوها لهم عند الحاجة بالعبارات الرقيقة المؤثرة في رفق و هوادة متجنبين كل ما تقنيط أو تثبيط، وأن يعرفوهم بأنهم وإن ساءت نواح من أحوالهم فهنالك نواح ما تزال صالحة . وهنالك علاجات من الإسلام تربية ناجعة وأن يعرفوا ما فيهم من فضائل وما لهم من مجد، وما لهم بهذا الإسلام من قدر و عز ليثيروا فيهم النخوة و يبعثوهم على العمل و الخير. وإذا ذكروا لهم سيئاتهم ذكروا لهم قرب السبيل إلى النجاة منها بالاقلاع عنها فيسرعون بالتوبة و الانابة."22
الهوامش :
1- سورة الاسراء ، اللآية37.
2- ابن باديس : التفسير ، ص. 129.
3- الجرجاني : كتاب التعريفات، ص.155.
4- ابن باديس : التفسير ، ص.130.
5- سورة يوسف، الآية،81
6- المصدر نفسه، ص.130
7- المصدر السابق، ص.130
8- المصدر نفسه، ص 131.
9- ابن باديس : الأعمال الكاملة، ج2، ص340.
10- سورة البقرة، الآية،269
11- التفسير، ص 148.
12- المصدر نفسه، ص 147
13- محمود قاسم: الإمام عبد الحميد بن باديس، دار المعارف بمصر،1968،ص.108
14- التفسير، ص144.
15- المصدر نفسه.
16- الأعمال الكاملة، ص 112.
17- المصدر نفسه، ص112.
18- التفسير ص 142.
19- التفسير ص141.
20- الشهاب،ج7،م7، ص423، عدد يوليو 1931
21- التفسير، ص.133.
22 - ابن باديس : الأعمال الكاملة، ج2 ص 168.