دمعة على الأستاذ عبد الوهاب حمودة!
أ.د مولود عويمر-
توفيّ الأستاذ عبد الوهاب حمودة مساء يوم الثلاثاء 10 أكتوبر 2017 في بيته بعين البنيان (الجزائر) بعد صراع طويل مع المرض الذي حرمه في السنوات الأخيرة من النشاط الفكري، ومنعه من حضور الندوات والملتقيات التي كان يحرص عليها من قبل.
محطات مضيئة:
ورغم شهرة هذا الرجل في صفوف المهتمين بالثقافة العربية والمتابعين للفكر الإسلامي في الجزائر، إلا أن القليل يعرف مساره العلمي والمهني باستثناء عمله في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، لذلك أرى أنه من المفيد أن أعرض هنا باختصار أهم المحطات في حياته العامرة.
لقد بدأت رحلة حياة الأستاذ عبد الوهاب في عام 1939 بالجزائر العاصمة. درس في ثانوية المقراني (حاليا)، ثم التحق بجامعة الجزائر حيث تحصل على شهادة الليسانس في الآداب. وكان من أنشط الطلبة، وقد ساهم في تأسيس مسجد الطلبة، وإصدار مجلة "ماذا أعرف عن الإسلام؟" باللغة الفرنسية، ومرافقة بعض الشخصيات العلمية التي كانت تزور الجزائر من حين إلى آخر لتقدم المحاضرات في المراكز الثقافية أو الجامعات، وكذلك نشر فكر أستاذه مالك بن نبي في الوسط الطلابي.
سجل الأستاذ عبد الوهاب في جامعة السوربون لتحضير شهادة الدكتوراه مع المستشرق المعروف روجيه أرنالدز لكنه لم يستطع إتمام كتابة أطروحته بسبب أعماله الإدارية المتعددة التي سأتطرق إليها لاحقا.
في صحبة مالك بن نبي:
اتصل الأستاذ عبد الوهاب مبكرا بالمفكر مالك بن نبي، وتأثر كثيرا بفكره ومقارباته ومنهجه في تحليل القضايا. قال في هذا الشأن: " لم تكن حلقات بن نبي حلقات فقه وعقيدة وهو يعترف بأن ذلك ليس من تخصصه هو، كان يعلمنا كيف نحلل القضايا وكيف نفكر فيها، فقد يكون موضوع الندوة مقالا صحافيا. ومن أهدافه الأساسية هو أن يفهم تلاميذه مكانة الإنسان في هذه الدورة الحضارية".
وكان الطالب حمودة يمثل حلقة وصل بين الطلبة وهذا المفكر، فهو يعرفهم بأفكاره، ويوزع عليهم مقالاته وكتبه ويصحبهم إلى داره لحضور ندوته الفكرية الأسبوعية. ولما تضاعف عدد الطلبة ولم يستوعبهم صالون مالك بن نبي انتقلت الندوة إلى خارج البيت، وكانت هذه الخطوة هي اللبنة الأولى لما سيعرف لاحقا بملتقيات الفكر الإسلامي الشهيرة.
في رحاب وزارة الشؤون الدينية:
عمل الأستاذ عبد الوهاب حمودة مديرا لمعهد العلوم الاجتماعية ثم انتدب إلى وزارة الشؤون الدينية والأوقاف حيث عيّن مسؤولا عن مديرية إحياء التراث، وبعدها صار مسؤولا عن مديرية الثقافة الإسلامية، وأخيرا عيّن أمينا عاما لهذه الوزارة في عهد صديقه الوزير الدكتور سعيد شيبان، أطال الله عمره.
كان الأستاذ حمودة يعمل في صمت وهدوء لكن أعماله كانت لها تأثيرات كبيرة. وهنا أتوقف عند مثال أساسي، وهو إعداده للملتقيات السنوية للفكر الإسلامي التي تستضيف نخبة من العلماء والمفكرين العرب والمسلمين وكذلك المستشرقين لمناقشة قضايا فكرية تراثية ومعاصرة. وقد ساهمت في نشر الوعي الفكري وتفعيل العمل الدعوي ونشر ثقافة الوسطية والاعتدال والحوار من جهة، كما ترددت أصداؤها الحسنة في أنحاء أخرى من العالم من جهة ثانية.
خدمة القرآن الكريم وطلبته:
اللافت للنظر أن الأستاذ عبد الوهاب اهتم كثيرا بالقرآن الكريم من جوانب مختلفة وبوسائل متعددة. بدأ ذلك في بداية السبعينيات بتقديم دروس دينية في التلفزيون الجزائري.
والواقع أن أبرز عمل قام به في هذا المجال هو تعاونه في التسعينيات مع الأساتذة سعيد شيبان وعمار الطالبي ومحفوظ سماتي في إعداد حصة أسبوعية على قناة التلفزيون تهتم بتفسير القرآن باللغة الفرنسية، ودامت أربع سنوات تم خلالها تفسير القرآن الكريم من الفاتحة إلى سورة النور. وعرفت هذه الحصة إقبالا كبيرا من طرف المشاهدين خاصة المقيمين في أوروبا وكندا.
ولا شك في أن هذا قد أفاد كثيرا في بعث الدراسات القرآنية من مرقدها، وكانت لها إيجابيات كثيرة نظرا لإهمال القنوات الأجنبية لمثل هذه الموضوعات الدينية وعدم الاهتمام بها أو تناولها أحيانا من أجل تشويه كتاب المسلمين الأول.
من ناحية أخرى، أشرف على إحياء زاوية والده في قنزات التي تستقبل الطلبة من كل أنحاء الجزائر لحفظ القرآن ودراسة علومه. وقد زرتُ هذه الزاوية العامرة يوم الجمعة 29 أوت 2014، واطلعت على انجازاته ولامست جهوده الجبارة في خدمة كتاب الله وطلبة العلم والمعلمين الذين يكنون له كل علامات التقدير والاحترام والمحبة. وقد زارها أيضا المفكر مالك بن نبي في سنواته الأخيرة، وأقام فيها للاعتكاف والتأمل بعيدا عن ضوضاء الجزائر العاصمة.
هكذا عرفته:
لقد تعارفنا في عام 2001 على هامش الملتقى الدولي الذي نظمه المجلس الإسلامي الأعلى حول موضوع حوار الثقافات والحضارات. وتعمقت علاقاتنا بعد ذلك، والتقينا مرات عديدة في مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وفي فضاءات ثقافية أخرى للمناقشة في قضايا فكرية أو لإعداد ملتقى علمي أو ندوة فكرية.
كان الأستاذ عبد الوهاب حمودة رجلا صموتا، وعالما حكيما، وإداريا منضبطا، وإنسانا خلوقا، حدثني كثيرا بتواضعه المعهود عن إعجابه بكتاباتي التاريخية والفكرية، وشجعني باستمرار على مواصلة البحث والكتابة وإلقاء المحاضرات.
جمعتنا ملتقيات وندوات علمية، وكان دائما يقوم بدور المعد لها أو رئيس جلساتها، ونادرا ما يقدّم محاضرة. وكانت آخر نشاطنا العلمي المشترك هو الندوة التأبينية التي نظمتها جمعية العلماء الجزائريين بنادي الترقي يوم السبت 2 رمضان 1432 الموافق لـ21 جويلية 2012م حول المفكر رجاء غارودي.
وقد ترأس هذه الندوة الدكتور عبد الرزاق قسوم رئيس الجمعية، وشارك فيها الدكتور سعيد شيبان، والأستاذ عبد الوهاب حمودة، وكاتب هذه السطور. وتحدث الأستاذ عبد الوهاب حمودة عن فكر غارودي من خلال قراءة نصوص مختارة من كتبه، ثم تحليلها تحليلا دقيقا كشف تنوّع اهتمامات هذا المفكر المسلم، وعمق دراسته لقضايا واقعنا المعاصر.
لقد رحل الأستاذ عبد الوهاب وهو يحمل معه تاريخ نصف قرن من الدعوة الإسلامية في الجزائر، لا يعرف بعض مداخله ومخارجه إلا هو. هل دوّن كل ذلك في مذكراته أم أنه لم يتسع وقته للتأليف، ولم يسمح له المرض بكتابتها؟
رحم الله الأستاذ عبد الوهاب، وأسكنه فسيح جنانه، وألهم أهله الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.