الوسطية والاعتدال في فكر الشيخ عبد الحميد بن باديس 1/2
د. رقية بوسنان-
لا يختلف باحث في مجال الفكر في أن الإسلام دين وسطية واعتدال، ينبذ التطرف والغلـو والتشدد بجميع أشكاله وأنه دين سمح عالمي لا عرق له، يدعو كل الناس وعلى اختلاف أجناسهم وألسنتهم إلى توحيد الله وإتباع رسله وعمارة الأرض وفق منهج لا اعوجاج فيه ولا انحراف وقـد شهد لهذا المنهج المستقيم شهود من أهله ومن غير أهله.
ومن الذين اعتنقوا منهج الوسطية والاعتدال علماء أفذاذ من مختلـف الأصـقاع العربيـة والإسلامية، وكان ديدنهم في ذلك الاقتداء بسيرة أشرف خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته والخلفاء من بعده والتابعين بإحسان، ولأن المقام لا يسمح بِعَدِّهم والحديثِ عنهم، ارتأيت أن أكتـب حـول شخصية عبد الحميد بن باديس الجزائري الذي اعتنق التوحيد عقيدةً، ومنـهج السـلف الصـالح مسلكًا وطريقًا؛ ليبلغ الناس ويقيم الحجة عليهم، بالرغم من الظروف والملابسات التي أحاطت بـه من انتشار للجهل والخرافات والبدع بالإضافة إلى تسلط المستدمر الفرنسي الذي سـيطر علـى الجزائر ما يقارب 132 سنة.
ولعل أهم سبب دفعني إلى أن أكتب حول عنوان هذه المداخلة هو انحـراف فهـوم بعـض المثقفين وغير المثقفين لمنهج الشيخ ابن باديس التجديدي واقتصارهم على تأويل بعض النصـوص والأفكار التي طرحها في مجالات عدة محملين "سلفيته القويمة" الجمود والغلو، منطلقين بـذلك إلى نخر لحمة المجتمع والعودة إلى الابتداع والتطاول على العلم والعلماء. فقد جمدوا العقل بحجة التفسير الظاهري للنص، واستباحوا دماء وحرمات المسلمين وغير المسلمين باعتبارهم خارجين عن الدين، واستغرقوا الحديث في الغيبيَّات على أساس أنها كل العقيدة وأحجموا عن العمل والعلم النافع ممـا توصل إليه غيرهم، ولإزالة اللبس عن فكر بن باديس ارتأيت أن أضع بين أيديكم هـذه الورقـة المختصرة .
المبحث الأول: مدخل إلى سيرة ابن باديس
إذا كانت الكتب تعرف بعنواناتها فالأمم تعرف برجالها، فَعُنْوانات الكتب تعكس ما فيها من آراء وأفكار ومواقف وظواهر وحدود ومعالم، ورجال الأمم يجسدون ما في أممهم من قوة أو ضعف، ومن تقدم أو تأخر، ومن عظمة أو ضعة، ومن أصالة واستعصاء على الفناء، مهما تعاقبت عليها السنون بالغير والأحداث، أو ضعف أو تواكل وقابلية للموت والزوال.
وأحسن العنوانات أصدقها دلالة وأبعدها عن الزخرف الكاذب والتمويه الخادع، وأصدق الرجال تمثيلًا لأممهم وأبلغهم تصويرًا لها في كل أحوالها وهم أولئك الذين عاشوا لأممهم وقيم مجتمعام وتفاعلوا معها في آمالها وآلامها، في سعادتها وشقائها، فكانوا في أقوالهم وأفعالهم أممًا تلخصت فيهم وتجمعت.
ولم ينجح هؤلاء الرجال، ولم تدون لهم سيرهم، إلا إذْ كانت معبقة بقيم مجتمعاتهم المجسدة في الدين الإسلامي القويم، الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الغي إلى الرشد، وفق منهج قويم لا شطط فيه ولا نفور، منهج وسط(1)، ارتضاه الله عز وجل لأمة تحكم بالعدل والقسطاس، تؤلف ولا تفرق، تبشر ولا تنفر.
ومن هؤلاء الرجالات الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي كانت حياته سلسلة من المواقف الكريمة والشجاعة والتحديات القوية الصارمة ضد الجهل وضد الخرافات وضد الاستعمار بكل تدليساته، فاتخذ من الإصلاح والتجديد مسارًا للنهوض بمجتمعه، وفق منهج وسطي أساسه القرآن والسنة وسيرة الصحابة والخلفاء الراشدين.
ففي ميدان العقل دعا ابن باديس بإلحاح إلى الإيمان الصحيح ونبذ التقليد الأعمى، وأهاب بالعقل أن يستيقظ ويهتدي بالعلم والمعرفة ودلائل الحوادث.
وفي ميدان الدعوة نعى على المسلمين تزييفهم للتعاليم الإسلامية السمحة، وعاب على العلماء إسرافهم في ملاحظة أدق تفاصيل العبادات، وافتراضاتهم الوهمية التي يضيع العمر في تحديدها وتحليلها، حتى أدى ذلك إلى النفور أحيانًا، واستثارة السخرية من أعداء الإسلام أحيانًا أخرى.
وفي ميدان الثقافة أنشأ المدارس الحرة والنوادي والمنظمات الثقافية وظل طوال عمره يلقي الخطب والمحاضرات، وينشر البحوث والمقالات، ويلقي الدروس في مختلف العلوم الدينية واللسانية والعقلية، وتواصل تفسيره للقرآن الكريم خمسًا وعشرين سنة، وكان ختمه حدثًا تاريخيًا مشهودًا سيظل مفخرة من مفاخر الأمة الجزائرية وعنوانًا بارزًا على جهاد الإمام في ميدان القرآن بالخصوص.
وفي ميدان السياسة حارب الإمام عبد الحميد ابن باديس الاستعمار الفرنسي وعملاءه وشخص فداحة خطره على الأمة الجزائرية وعلى كل أمة تمنى بالاستعمار، فراح يجسم آفاته ويؤجج نار الوطنية في الصدور بالخطب الواعية والمقالات الهادفة في صحيفتي المنقذ والشهاب. وحتى تتضح شخصية بن باديس ووسطيته في الدعوة ارتأيت أن أتناول هذه المداخلة وفق النقاط الآتية:
المطلب الأول: التعريف بالشيخ
ولد عبد الحميد بن محمد بن المصطفى بن مكي ابن باديس في الرابع من شهر ديسمبر سنة 1889 للميلاد في مدينة قسنطينة بالشرق الجزائري(2)، وهو سليل أسرة شهيرة في الجزائر والمغرب العربي الإسلامي، فقد لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ المغرب سياسيًا ودينيًا وعلميًا منذ القرن الرابع الهجري وتولى أفراد منها السلطة فيه بعد انتقال مقر الخلافة الفاطمية من القيروان عاصمة إفريقيا والمغرب الأوسط (الجزائر) إلى مصر.
فقد أسند الخليفة الفاطمي المعز لدين الله السلطة على إفريقيا والمغرب الأوسط إلى الجد الأول لأسرة ابن باديس، وهو الأمير بلكين بن زيزي بن مناد في الفترة من عام 362 إلى 373 هـ(3) ومن رجالات هذه الأسرة المشهورين في التاريخ والذي كان ابن باديس يفتخر بهم المعز لدين الله بن باديس، الذي عمل قبل نهاية حكمه على انفصال المغرب الإسلامي سياسيًا ومذهبيًا عن الخلافة الفاطمية بمصر وحارب الشيعة الرافضة وأخذ يحمل الناس على اعتناق المذهب(4) المالكي السني ونبذ المذهب الشيعي.
تلقى ابن باديس تعليمه على يد نخبة من الأساتذة في الجزائر وخارج الجزائر وخاصة جامع الزيتونة، ولقد كان لهؤلاء الأثر الواضح في تكوين شخصيته العلمية والدينية والعملية، ومنهم الشيخ حمدان لونيسي المهاجر إلى المدينة المنورة والمدفون بها، زاول عنده الدراسة الابتدائية، والشيخ محمد الطاهر بن عاشور، حيث درس عليه الأدب العربي واللغة، والشيخ محمد النخلي القيرواني(5 (الذي تأثر به تأثرًا عميقًا في فهم القرآن وتفسيره ، ومن غير هؤلاء كثيرون لا يسع المقام ذكرهم
المطلب الثاني: منطلقات الفكر الباديسي
إن المقصود بمنطلقات الفكر الباديسي على مستوى المداخلة، أهم المرجعيات التي أثرت بوضوح في مسيرة ابن باديس الإصلاحية وكانت دافعًا قويًا للنهوض وإرساء أسس التغيير الشامل بمنهج معتدل بعيد عن الغلو والتطرف يكتسب أصالته وقيمه من القرآن والسنة.
ينتمي ابن باديس إلى المدرسة الإصلاحية السلفية التي ظهرت في العالم الإسلامي خلال القرن الثامن عشر للميلاد على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب (1696-1891) والإمام محمد ابن عبد الله الشوكاني (1757-1834)، ثم جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، ومحمد عبده (1849-1905(، ورشيد رضا (1865-1935)، وعبد الرحمن الكواكبي (1848-1903) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين(6)، وقد عملت هذه المدرسة منذ البداية في ثلاثة ميادين هي:
1 .إحياء جذوة الدين الإسلامي في نفوس المسلمين والنهوض بهم باعتبار الإسلام نظام حياة فهو دين ودولة.
2 .تطوير اللغة العربية وحمايتها باعتبارها لغة القرآن.
3.مكافحة البدع والضلالات والأفكار الشاذة التي باتت لصيقة بالإسلام بكيد بعض الأعداء من الداخل والخارج.
والملاحظ أن المناداة بإحياء الإسلام والرجوع إلى أصوله ليس وليد عصر محمد بن عبد الوهاب ومن سار على نهجه، فقد سبقه إلى ذلك الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في أواخر القرن السابع والنصف الأول من القرن الثامن للهجري إذ كانت دعوتهما ترتكز على:
1 .الرجوع إلى الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة وإتباع سبيل السلف الصالح من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
2 .محاربة البدع والمنكرات.
3 .فتح باب الاجتهاد وإعلان الحرب على المقلدين والمتعصبين للمذاهب والآراء(7).
تلقى ابن باديس تعاليم الإسلام وتشرب روحه المعنوية فكانت روحه الفلسفية متوجهة نحو تسليط تلك التعاليم وهاتيك الروح على ما بين جنبيه وجنبي عموم الشعب الجزائري من حالة الذهول عن الذات والانقطاع عن تأثير تلك التعاليم الظاهرة والروح الإسلامية(8).
"إن الإسلام الذي ندين به هو دين الله الذي أرسل به جميع أنبيائه، وكمل هدايته وعمم الإصلاح البشري به على لسان خاتم رسله، وهو دين جامع لكل ما يحتاج إليه البشر أفرادًا وجماعاتٍ لصلاح حالهم ومآلهم، فهو دين لتنوير العقول وتزكية النفوس وتصحيح العقائد وتقويم الأعمال فيكمل الإنسانية وينظم الاجتماع ويشيد العمران ويقيم ميزان العقل ويشيد الإحسان(9).
كانت دعوة ابن باديس الإصلاحية يقصد بها رجوع المسلمين إلى عقائد الإسلام المبنية على العلم وفضائله، المبنية على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان ونظمه المبنية على التعارف بين الأفراد والجماعات والتآلف والتعامل والتعاون، وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ومن اتقى الله فهو أنفع الخلق لعباد الله(10).
لقد تعرف الشيخ عبد الحميد بن باديس على مدرسة التجديد لأول مرة عن طريق أساتذته في جامع الزيتونة، وخاصة على يدي الشيخين الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي، اللذين تأثرا بآراء محمد عبده(11) وازداد إيمانًا بها واقتناعه بجدواها في النهوض بالجزائر بعد سفره الطويل إلى المشرق العربي عام 1913، اجتمع من خلاله بعدد كبير من رجال الفكر والإصلاح في العالم العربي، من بينهم الشيخ بخيت المطيعي شيخ الجامع الأزهر _سابقًا_ والشيخ حمدان لونيسي، والشيخ حسين الهندي، المجاور في المدينة المنورة، الذي نصحه بوجوب العودة إلى الجزائر لاحتياجها الشديد إلى علمه وتفكيره، كما التقى بالشيخ محمد الإبراهيمي، الذي تجسد عنه إنجاز في قمة النفع والمتمثل بجمعية العلماء المسلمين(12).
المطلب الثالث:دعوة الجمعية ورسالتها:
أوضحها ابن باديس بقلمه في مقال له بعنوان "دعوة جمعية العلمـاء المسـلمين الجزائـريين وأصولها". (13)
1 .الإسلام دين الله الخالد الذي وضعه لهداية عباده وأرسل به جميع رسله وكمله على يد نبيه صلى الله عليه وسلم.
2 .الإسلام هو دين البشرية الذي لا تسعد إلا به وذلك لأنه يدعو إلى:
- الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين ويذكر بالأخوة الإنسانية بين البشر أجمعين.
- يسوي في الكرامة البشرية وحقوق الإنسانية بين جميع الأجناس والألوان.
- يفرض العدل فرضُا تامُا بين جميع الناس بلا أدنى تمييز.
- يدعو إلى الإحسان العام.
- يحرم الظلم بجميع وجوهه.
- يمجد العقل ويدعو إلى بناء الحياة كلها على التفكير.
- ينشر دعوته بالحجة والإقناع لا بالختل والإكراه.
- يترك لأهل كل دين دينهم يفهمونه ويطبقونه كما يشاءون.
- يدعو إلى رحمة الضعيف، فيكفي العاجز ويعلم الجاهل ويرشد الضال ويعين المضطر ويغيـث الملهوف وينصر المظلوم ويأخذ على يد الظالم.
3. القرآن هو كتاب الإسلام.
4 .السنة القولية والفعلية الصحيحة تفسير وبيان للقرآن الكريم.
5. فهوم أئمة السلف الصالح أصدق الفهوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسنة.
6. البدعة كل ما أحدث على أنه عبادة أو قربة ولم يبثث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل بدعة ضلالة.
عند المصلحة العامة من مصالح الأمة يجب تناسي كل خلاف يفرق الكلمة ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التآزر والتكاتف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله، ثم بقـوة الحق وواسع الصبر وسلاح العلم والعمل والحكمة، "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ " )يوسف: 108) هذه الآية القرآنية أنهى ابن باديس توضيح دعوة الجمعية.
الهوامش:
1 (إن مصطلح الوسطية لا يصح إطلاقه إلا إذا توفرت فيه صفتان وهما الخيرية والبينية، فالخيرية ما يدل عليها كالأفضل والأعدل، والبينية سواء أكانت حسية أم معنوية وكل وسطية تلازمها الخيرية ولا بد مع الخيرية من البينية حتى تكون وسطًا، (أنظر: علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، دار النفائس، لبنان، 1998، ص41).
2) تركي رابح: الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح الإسلامي والتربية في الجزائر، ط5، وزارة المجاهدين، 2001 ص153.
3( عبد العزيز سالم:تاريخ المغرب منذ أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، العصر الإسلامي، القاهرة، 1966 ،ج2، ص641-650.
4( ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر، ج٦ ،طبعة بولاق، ص325.
5( تركي رابح: المرجع السابق، ص 158، 159.
6) أحمد أمين: زعماء الإصلاح في العصر الحديث، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1949 ،ص5-ص9.
7) محمد يوسف موسى: ابن تيمية، أعلام العرب، عدد 5 ،القاهرة، 1962..
8( محمد الصالح الصديق: الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس من آرائه ومواقفه، دار البعث، قسنطينة، 1983، ص 30.
9( الشهاب، ج11، م10 ،رجب، 1353.
10( الشهاب، ج8 ،م12 ،شعبان، 1355 نوفمير 1936.
11( البصائر، عدد16، السنة الأولى، أفريل، 1936.
12( رابح تركي، مرجع سابق، ص 198.
13( صحيفة البصائر، السنة 2 ،العدد 71 ،جوان 1937.