قضية المرأة في منظومة الفكر الباديسي – الحلقة الثالثة : نظرة ابن باديس إلى المرأة من منظور الإسلام لها
بقلم: د. محمد بن سمينة-
دور المرأة أساسي في نهضة المسلمين: إن الإمام ابن باديس لا ينطلق في نظرته إلى مكانة المرأة ودورها في الحياة، من تلك الحال التي تردى إليها وضعها في عصر السقوط ، و إنما كان ينطلق في ذلك من منظور شريعة الإسلام الذي حررتها مما كانت تعاني منه في الجاهليات الأولى من مهانة و ظلم وإذلال، و من هذه القناعة كان الكاتب يؤمن أن دور المرأة إنما هو مكمل لدور الرجل ، ذلك أن الوحدة البشرية لا تكمل إلا بكمال الجنسين فهي شقيقة الرجل في الخلقة و شريكته في الحياة، يشد الصلة بينهما قانون الزوجية العام الذي تخضع له سائر الكائنات الحية ، و لذلك فإن الحياة الإنسانية بما فيها من نظام وعمران، لا يمكن أن يستقيم أمرها و يزدهر حالها ، إلا على أساس من تضافر جهود الجنسين : المرأة والرجل » لا تقوم الحياة إلا على النوعين اللذين يتوقف العمران عليهما و هما الرجال و النساء « (1) .
ويتطرق الشيخ إلى الموضوع من زاوية أخرى ، مؤكدا أن المسلمين لا يمكن أن ينهضوا بنهضة حقيقية إلا إذا شاركتهم النساء في ذلك في نطاق ما يحدد الشرع لهن من صون واحتشام وعدم اختلاط . » فلن ينهض المسلمون نهضة حقيقية إسلامية إلا إذا شاركهم المسلمات في نهضتهم في نطاق عملهن الذي حدده الإسلام ، وعلى ما فرضه عليهن من صون و احتشام « (2)
وإذا كانت نهضة المسلمين لن تتحقق لهم بدون نسائهم فإن الحياة الكريمة كذلك لن يظفروا بها إلا إذا كانت هذه الحياة قد مست قلوب وعقول مجموع أفرادهم نساء و رجالا (3)
العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل وليست علاقة مساواة مطلقة : و توضح هذه النظرة الصائبة إلى العلاقة الحقيقية بين المرأة والرجل وتكامل دورهما في الحياة ، هشاشة الأفكار الهدامة التي تنادي بالمساواة المطلقة بين الرجل والمرأة ، وتكشف في الوقت ذاته سلبية أولئك الذين ينظرون إلى المرأة نظرة دونية و يذهبون إلى أفضلية الرجل عليها بمجرد أنه رجل ، سيطر على المرأة وتحكم في شؤونها في مرحلة زمنية اختلت فيها موازين الحكمة و اعتلت فيها العقول و القلوب ، فجهلت بعض النفوس المريضة ما بين وحدة العنصر البشري من تكامل، يبرز ظاهرة العدالة و المساواة بين الرجل والمرأة في التكاليف الشرعية و الكرامة الإنسانية و في الحقوق والواجبات و يوضح ما يضطلع به كل منهما من مهام في الحياة العامة و الخاصة ، بحسب ما جبل عليه من أصل الفطرة في تركيبته النفسية و الجسمية (4) .
ذلك أن الله قد أعطى لكل منهما من تلك الخصائص ما يلائم ما يناط بكاهله من أعباء الحياة فقد ملأ الله قلب المرأة عطفا ورقة و حنانا لتتمكن من القيام بما يناسب طبيعتها من واجب الرعاية الأسرية : الحمل ، الإنجاب ، التربية .
وملأ قلب الرجل بالشعور بالمسؤولية و القوامة ، و غرس في نفسه غريزة الحدب على شؤون الأسرة والحرص على حمايتها و الدفاع عنها .
الحياة بين الجنسين قسمان : وقد ترتب على هذا التكوين الطبيعي الخاص بكل نوع من الجنسين أن قسمت الحياة الإنسانية إلى قسمين اثنين : قسم داخلي و قسم خارجي.
1 ـ القسم الداخلي : تنشط المرأة في هذا القسم بقيامها برعاية البيت و شؤون الأسرة و تربية الأولاد و العناية بالحقوق الزوجية، وقيامها إذا دعت الضرورة ببعض الأعمال الملائمة لطبيعتها كالتمريض والتعليم وما يضارعهما.
2 ـ أما القسم الخارجي : فيتحرك في آفاقه الرجل ، يكد و يجد ، يسعى و يرتزق من أجل توفير أسباب العيش الكريم لمن يعولهم من أفراد أسرته .
و قد أعطى الله كلا من الرجل و المرأة من » قوة العلم و قوة الإرادة و قوة العمل « (5) ، القدر الذي يكفيه للقيام بوظيفته في قسمه الخاص به ، و يؤكد الإمام أن المرأة » خلقت لقسم الحياة الداخلي « (6) و لذلك » أعطيت من القوى الثلاث القدر الذي تحتاج إليه فيها ، و هو دون ما يحتاج إليه الرجل الذي خلق للقيام بقسم الحياة الخارجي ، فكانت بخلقتها أضعف منه في العلم و الإرادة والعمل فكانت لذلك دونه في الكمال (....) ولو أعطيت المرأة مثلما أعطي لما صبرت على البقاء في قسمها ، فأخلته فاختل النظام فحصل الفساد « (7)
و يوضح هذا النص أن اقتحام المرأة لميدان الرجل إخراج لها من طبيعتها التي خلقت لها ، و في هذا ما فيه من خطر على توازن شخصيتها و إخلال بوظيفتها الإنسانية التي خلقت لها وهي التربية و الرعاية الأسرية .
وإن هذا الإخلال يؤدي إلى حرمان الأولاد من العطف و الحب و الحنان ، وغيرها من مشاعر الأمومة ، التي لا يمكن أن يتلقاها الطفل على وجهها الأكمل ، إلا من قلب أم حنون رؤوم و هذا الإخلال بالوظيفة الأصلية للمرأة هو الذي أدى بالمرأة الأوروبية إلى وضعيتها الشاذة مما تسبب في اعتلال كيان المجتمع الغربي و اضطرابه و فساده (8)
تنوع وتكامل في الوظائف بين الجنسين : و ليس في هذا التنوع في الوظائف بين الجنسين، شيء من الصراع و التناقض، و إنما هو تكامل و تعاون فالمرأة أم الرجل وابنته و أخته و زوجته، وقد أمر الإسلام الرجال بالإحسان إلى النساء و الرفق بهن وأخذهن بالاعتدال في جميع الأحوال . و إن الشيخ إذ يرى أن المرأة أضعف من الرجل في الخلقة و أن الرجل يفضلها و يتقدم عليها بما تميز به دونها من (قوة العقل و قوة البدن) (9) ، و هو لا يقول ذلك تخمينا ، وإنما يقرر بذلك حقيقة قرآنية ، و هي قوله تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض }(10) . و ينبغي ألا يفهم من هذه الآية الكريمة ، أن القرآن يحرم على النساء ما يمكن أن يقمن به إلى جانب الوظيفة الأسرية مما يلائمطبيعتهن من مشاركة الأزواج في بعض الأعمال العامة في نطاق ما حدده الشرع لهن في هذا المضمار » من صون و عدم زينة و عدم اختلاط «(11)
الوظيفة الطبيعية للمرأة تربوية اجتماعية : يقرر الإمام في هذا المضمار أن المرأة لا تصلح للولاية (12) لما ركبت عليه خلقتها النفسية من رقة و رأفة و عطف . و أن الوظيفة الطبيعية الاجتماعية لها ، إنما هي » القيام على مملكة البيت و تدبير شؤونه و حفظ النسل بالاعتناء بالحمل و الولادة و تربية الأولاد « (13) وإذن فإن الوظيفة الأساسية للمرأة في نظر الكاتب إنما هي بناء أسرة صالحة ، و تربية أطفال و رعاية شؤون بيت ، و قيام بحقوق الزوجية . و يؤكد بصفة خاصة على وظيفتين اثنتين يرى أنهما أساسيتان لعمل المرأة و هما تربية الأولاد و حفظ النسل ، و يذكر أن الله قد خص المرأة من زاد الفضائل ما يساعدها على القيام » بهذين الأمرين العظيمين « (14)، وهي إذ تقوم بذلك ، إنما تقدم خدمة جليلة للأمة إذ لا بقاء لأمة من الأمم إلا بانتظام أسرها وحفظ نسلها (15) ، ويبرز هذا أهمية الخدمة التي تقدمها المرأة للأمة بقيامها بهذه الوظيفة الأسرية .
و يعود الإمام ثانية إلى الحديث عن هذين الجانبين الأساسيين من جوانب مهام المرأة، ويعبر عن ذلك بصورة تكاد تنطق بما يريد أن يقوله ، من أن ليس للمرأة من وظيفة أحسن من تلكما الوظيفتين » خلقت لحفظ النسل و تربية الإنسان في أضعف أطواره « (16)
ويختار الإمام للتعبير عن إيمانه بهذه الحقيقة صيغة (الفعل الماضي) (خلقت) مبنياً للمجهول ، مما يساعد على إعطاء هذه الدلالة بعدا قويا و حركة ضاغطة خارجة على نطاق الذات ، ثم جاء من بعد صيغة البناء للمجهول تلك (بلام التعليل) للتأكيد على دلالة ثانية ، و هي دلالة علة (الخلق) التي يحددها (لام التعليل) تقريرا لوظيفة المرأة و هي» حفظ النسل و تربية الإنسان« (17)
و إن الشيخ إذ يركز على الدور الأسري للمرأة ، فإنه يود بذلك أن يؤكد أن المهمة الرئيسية للمرأة ، إنما هي الوظيفة التربوية الاجتماعية، و يلتقي الإمام في هذه النظرة مع معظم المفكرين المسلمين في هذا العصر ، ولعل أقرب هؤلاء إليه في هذه القضية هو الإمام (محمد رشيد رضا) الذي يذهب أن الوظيفة المثلى للمرأة هي »القيام بما خلقها الله لأجله حق القيام وميزها به على الرجل و هو أن تكون( زوجا) صالحة محصنة ، و(أما) رؤوما مربية ، و( رئيسة) منزل مقتصدة منظمة « (18) . وكان ابن باديس قد نشر للشيخ رضا له ـ نقلا عن مجلته ( المنار) سلسلة من المقالات في سبع حلقات تحت عنوان (مناظرة في مساواة المرأة للرجل) (19)
ونستخلص مما تقدم أن موقف ابن باديس من دور المرأة في المجتمع كان معتدلا لانطلاقه فيه من التصور الإسلامي للموضوع ، وقد تركز ذلك الموقف أساسا على الوظيفة التربوية الاجتماعية للمرأة في قسم الحياة الداخلي ، مع إمكانية قيامها ببعض الأعمال الملائمة لطبيعتها ـ إن استدعت الظروف ذلك ـ في قسم الحياة الخارجي ، في نطاق ما يقره الشرع في هذا المجال ، و قد دفعه هذا الحديث عن خروج المرأة لبعض شؤونها إلى الحديث عما يتصل بذلك من قضية الحجاب والسفور، فكيف كان ينظر ابن باديس إلى ذلك ؟ وما هي مواصفاته لهذا و ذلك في نظره ؟
الهوامش :
1 ـ ابن باديس حياته و آثاره 4 : 116 م- س
2 ـ م . ن : 117
3 ـ ينظر آثار الإمام 3 : 53 م - س
4ـ5 ـ 6 ـ 7 ـ ابن باديس حياته و آثاره 2 : 209
8 ـ ينظر مالك بن نبي : شروط النهضة ص 179 ـ 182 بيروت 1969
9 ـ ابن باديس حياته و آثاره 3 : 472
10 ـ النساء : الآية 34
11 ـ آثار الإمام 3 : 53 . و ينظر م . ن : 61
12 ـ 13 ـ ابن باديس حياته و آثاره 2 : 44 ـ و ينظر م . س 3 : 513
14 ـ 15 ـ م . س 2 : 222
16 ـ م . س 3 : 469
17 ـ ابن باديس حياته و آثاره 3 : 469
18 ـ محمد كامل الخطيب : القديم و الجديد ص 519
19 ـ الشهاب : من (ج 6 م 6 إلى ج 12 م 6) (من صفر ـ شعبان 1349 إلى جوليت 1930 ـ جانفي 1931) من (361 ـ 734 )
يتبع