جمعية العلماء الجزائريين (1) باعثة الأمة الجزائرية والمغرب العربي وهادمة الاستعمار
بقلم:الشيخ الفضيل الورتلاني -
كان يمكن أن تختفي الجزائر من الوجود، لولا أن قيض الله لها جمعية العلماء الجزائريين، ولا يمكن أن نقدر بحق، ذلك الدور الخطير، الذي لعبته هذه الجمعية، في بعث الأمة الجزائرية القوية، إلا إذا عرفنا ولو بإيجاز، هدف الاستعمار الفرنسي في تلك الديار، وما بذله من جهود جبارة في سبيل محوها وإلى القراء القصة باختصار -:
كان الهدف الأول للاستعمار الفرنسي في الجزائر، هو قتل الروح المعنوية في الأمة قبل كل شيء، فما كادت رايتهم الحمراء ترتفع على تلك الربوع العريقة في الحضارة، حتى انطلقت أفاعيهم الاستعمارية، تنفث سمومها في جميع أطرافها الحية، وتعمل على هدم كيانها من الأساس، وظنوا أنهم قادرون على مسخها، والعود بها إلى الهمجية الأولى، ثم اتخاذ أبنائها عبيدا، وأدوات للسخرة والعمل، من غير أن يبقى معهم من الصفات ما يخيف، على أنهم أدركوا بداهة أن ذلك أمر خطير، وأن الوصول إليه دونه خرط القتاد، أو بعبارة أصح، دونه العروبة والإسلام، وعلموا جيدا، بأن من تحصن بالعروبة قومية، وبالإسلام دينا وعقيدة، فقد وضع بينه وبين الفناء أو الذل، أقوى قلاع، وأمنع الحصون.
العروبة والإسلام
لذلك قرروا من أول يوم، أن يعبئوا بل ما يملكون، من الأسلحة المادية والمعنوية، ثم تصويبها إلى الهدفين الأساسيين: .. العروبة، والإسلام، فمن ناحية العروبة، أعلنوا حربا على لغتها، لا هوادة فيها، وعدوها عدوهم اللدود، الذي يجب القضاء عليه قضاءا مبرما، لتحل محلها اللغة الفرنسية بأي ثمن، فأقفلوا جميع المعاهد التي تدرسها، ثم تدرجوا في إذلالها، فجعلوا اللغة الفرنسية هي وحدها اللغة الرسمية في دوائر الدولة، ومعنى ذلك أن اللغة العربية لم تعد صالحة البتة، لأكل الخبز في الجزائر، والناس من طبيعتهم يحبون الخبز ويحبون الحياة ثم تدرجوا في احتقارها فأصدروا قانونا يعدها لغة أجنبية، في عقر دارها، تعامل كما تعامل كل لغة أجنبية في الظاهر، وتعامل في الباطن وعند التطبيق، معاملة العدو غير المرغوب في حياته.
تشكيك الجزائريين في عروبتهم
تم حاولوا من الناحية القومية أن يشككوا الجزائريين في عروبتهم، فزعموا لهم أحيانا، أنهم من بقايا الرومان العظام، وأحيانا أخرى يزعمون لهم أنهم من أصل البربر، الذين ضرب المثل بشجاعتهم وأصالتهم، والذين من أسلافهم هانيبال وأضرابه، وأنهم أرباب البلاد الأصليين، أما العرب الهمج أبناء الصحراء، رعاة البقر والغنم، وأحلاس الإبل، فإنهم أغراب طارؤون، إلى غير ذلك من ألوان السحر الذي يفرق بين المرء وزوجه، وظلوا يمارسون هذا السحر غير الحلال، مع الأمة الجزائرية العربية، طيلة قرن وبعض القرن، وتعاونت معهم كل فئاتهم من إدارة وبوليس، وجيش ومبشرين ومال، ثقافة، على إحراز نصر في هذا الميدان، ولو كان قليلا، فما فلحوا، فظل الجزائري عربيا يعتز بعروبته، - علم الله - أكثر من سكان الحجاز أنفهم، وصار يغار عليها أكثر من سواه، لأنه قد حورب فيها، فاجتمع عنده عامل الغيرة عليها، مع عامل العناد في الدفاع عنها، كجزء من كرامته.
موقفهم من الإسلام
هذه إشارة عابرة إلى موقف الاستعمار الفرنسي، من العروبة في الجزائر، لأن التفاصيل لا تتسع لها المجلدات، وأما موقفهم من الإسلام، فكان أبشع من ذلك بكثير .. كانوا يرون أن الإسلام، هو العقبة الكؤود، في طريق برنامجهم الوحشي الخبيث، وهو العمل على مسخ الأمة الجزائرية وإفنائها، أو إدماجها في الأمة الفرنسية، وكانوا يرون أن اللغة العربية والقومية العربية، لا يمكن التأثير عليهما، ما دام سلطان الإسلام على النفوس، ونفوذ تعاليمه على المجتمع قائما مسيطرا، لأن الجزائري، يرى اللغة العربية في لغة الإسلام، التي لا يفهم الدين فهما سليما إلا بها، ولا تحفظ معانيه من الانحراف والتشويه إلا بها، فهي إذن مفتاح الدين .. وحارسه الأمين .. إنما يحيا الحياة الحقيقية بحياتها، وقد يموت بموتها، فالدفاع إذن عن وجودها وحياتها، إنما هو دفاع عن الدين نفسه، وتكاد تكون نظرة الجزائري إلى القومية العربية، بنفس هذا المنظار، وأن التخلي عنها هو تخلي عن الدين نفسه، هذه عاطفته، وهذا حسه .. لأنه يؤمن من أعماق قلبه بما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أن العروبة إنما هي باللسان وليست بالعرق، فمن تكلم بالعروبة فهو عربي، وهؤلاء القوم قد اندمجوا في العروبة، اندماج السكر بالماء بعد الذوبان، وتكلموا بلغتها منذ أربعة عشر قرنا، دون انقطاع، فلو اجتمع أهل الدنيا إذن بحيلهم، وعبقريتهم، وتعاونوا على تشكيك الجزائريين في عروبتهم، لن يفلحوا ما دام الإسلام دينهم.
هذه حقيقة فهمها الفرنسيون جيدا، لذلك خصصوا لها أعظم جهدهم لتفويض أركان هذا الدين، لأنهم وثقوا بعد الدرس والتحقيق بأنه هو الأساس في مناعة هذه الأمة، والباقي كله مبني عليه، فبانهياره ينهار معه كل شيء، وبأقل المجهودات.
هنا اعتمدوا لهدم الإسلام وسيلتين أساسيتين، ليست الواحدة منهما أقل خبثا وقبحا من الأخرى:
أما الأولى - فهي نشر الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وتشجيعها في الأوساط الإسلامية، واستعملوا في هذه الوسيلة كل أصناف الدجالين والمشعوذين، وفي مقدمتهم كثيرون من مشايخ الطرق الصوفية، الذين تحولت الرسالة عندهم إلى مهنة تجارية.
أما الثانية - فهي نشر الإلحاد في أوساط الشباب الإسلامي، بواسطة المدارس وغيرها، الأمر الذي كان سيؤدي إلى انتشار الشيوعية بشكل مريع، وقد أنفق الاستعمار في هذا السبيل جهدا ومالا لا حد لهما، حتى بدا لهم في الصورة الظاهرة، كأنهم نجحوا نجاحا واسعا، فكان مظهر الخرافات في الأوساط المتدينة، أكبر منفر للشباب الواعي من تعاليمه، وكانت موجة الإلحاد التي يقودها الاستعمار، ويشن حربها بمهارة وفن، تتعاون مع تخريف رجال الدين، فشاعت البلبلة في النفوس، والاضطرابات في العقول، حتى وجد من بين كبار المثقفين الجزائريين، من أنكر وجود أمة حرة اسمها الجزائر في التاريخ، ووجد كثرة من أولئك المثقفين، دعوا إلى الإندماج في فرنسا، حتى ظنوا أن ذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى حياة حرة كريمة ..
وهنا جاء دور جمعية العلماء الجزائريين، لتصرخ في وجه التيارات المدمرة أن .. قف!! هنا العروبة في صفحاتها المشرقة، وهنا رسالة الإسلام الإنسانية الواضحة ليلها كنهارها. وسأحدث القراء في الكلمة الآتية عن دور هذه الجمعية الخطير، في بعث الجزائر والمغرب العربي بشيء من التفصيل.
شروط الجنسية العربية
قال سيد العرب محمد - صلى الله عليه وسلم -"إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
أيها الناس: إن الأب واحد، والرب واحد، والدين واحد، وليست العروبة بأحدكم من أم ولا أب، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي.
جريدة بيروت المساء فيفري 1956 والمنار الدمشقية