المرجعية الفقهية المالكية عند الشيخ عبد الحميد بن باديس بين التعصب المذهبي والتحرر الفكري 2/2
بقلم: د.محمد الدراجي -
المجال الثاني: مجال الفتوى والمناقشات الفقهية والردود العلمية:
أما المجال الثاني، الذي نتلمس فيه معالم المرجعية الفقهية عند الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس، فهو مجال الفتوى والإجابة عن الأسئلة الفقهية، التي كانت ترد إليه من شتى أنحاء القطر بل وحتّى من خارجه، وكذا مناقشته للفتاوى الصّادرة
عن هذه الجهة العلمية أو تلك، وردوده على جملة من الأفكار والآراء الفقهية التي كانت تعجّ بها الساحة الثقافية والعلمية وقتها.
مؤهلات المفتي عند الشيخ عبد الحميد بن باديس:
الفتوى منصب خطير، وخطة جليلة القدر، ذلك أنّ المفتي يوقع عن الله عز ّوجل ويبلّغ أحكامه، ولذلك اشترط العلماء فيمن يتصدّى لهذا المنصب الخطير جملة من الشروط وهي في الجملة الاستبحار في علوم الشريعة، (علوم الآلة وعلوم الغاية)، وإدراك مقاصد التشريع وأسراره، والتضلع في علوم العربية، والإحاطة بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمستفتين، بالإضافة إلى كون المفتي صالحا متدينا، حسن السلوك، رضي السّيرة، حتّى تكون فتواه مقبولة عند المستفتين، يتعبدون الله عز وجل بها وهم كلهم ثقة واطمئنان.
ولا يختلف اثنان في كون الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- كان مستكملا لأدوات الاجتهاد، فهو عالم بالكتاب والسنة، متبحر في الإطلاع على الفروع الفقهية وربطها بأصولها، متضلع في فنون العربية وآدابها، خبير بالواقع الإسلامي، وتكفينا هنا شهادة رفيق دربه في الجهاد وخليفته في رئاسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهو أعرف الناس بابن باديس ومكانته العلمية المرموقة، وتميزه عن كثير من علماء العصر، فقال «وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها، ومدرب جيوشها، عالم ديني ولكنّه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان النّاصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللّماح، والفهم الغوّاص على دقائق القرآن، وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين، ومناشىء أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات من فقه الإسلام، والإلمام بمعارف العصر مع التمييز بين ضـارها ونافعهـــا»(17)
الدعوة إلى تأصيل الفتوى وتعليلها:
لقد دعا الشيخ عبد الحميد بن باديس المفتين إلى وجوب بيان الأدلة التي بنوا عليها فتاواهم من الكتاب والسّنة، لأنّ الله تعبد المسلمين بالنّصوص، وذكرها في نصّ الفتوى يكسبها هيبة وجلالا، ويجعلها أدعى للقبول عند المستفتي، وفي ذكر وجوه الاستدلال منها عند الأئمة الأعلام الذين تواترت أدلتهم في تقريب المستفتين من العلم ودرجة النظر، فقال رحمه الله «ومما ينبغي لأهل العلم -أيضا- إذا أفتوا أو أرشدوا أن يذكروا أدلّة القرآن والسنة لفتاويهم ومواعظهم ليقربوا المسلمين إلى أصل دينهم ويذيقوهم حلاوته، ويعرفوهم منزلته، ويجعلوه منهم دائما على ذكر، وينيلوهم العلم والحكمة من قريب، ويكون لفتواهم ومواعظهم رسوخا في القلب وأثرا في النفوس فإلى القرآن والسنة -أيها العلماء- إن كنتم للخير تريدون»(18) وفي هذا الإطار علّق الشيخ عبد الحميد بن باديس على فتاوى مجلّة نور الإسلام التي كان يكتب فيها كبار علماء الأزهر الشريف، ومما أخذه على تلك الفتاوى، أنها عارية عن الدليل من الكتاب والسنة، خالية من التأصيل، بعيدة عن التقعيد، فقال -رحمه الله- «كنا ننتظر من مجلة يحررها كبار العلماء بالأزهر الشريف، أن تأتينا في باب الفتاوى والأحكام منها بأدلة المسائل ومستندات الأقوال مع إبدائها رأيها في الترجيح بالطرق المعتبرة عند أهله، وكنّا ننتظر لذلك أنها لا ترجع في استدلالها إلاّ إلى الكتاب والسنة الثابتة، فكنّا نخرج منها-لو كان ما انتظرناه- بمسائل محررة وأدلة معتبرة وأحاديث ثابتة، وفي ذلك زيادة على العلم الصحيح تعبيد لطريق النظر والاستدلال وربط الأحكام بأدلتها وهو ما لا تزال معاهدنا الدينية الكبرى في العالم محرومة منه إلى اليوم»(19) ومراد الشيخ عبد الحميد بن باديس من هذا النص هو تأصيل الفتوى وتعليلها، وليس مراده الاقتصار في الاستدلال على الكتاب والسنة وعدم الأخذ بالقياس والتعليل كما هو شأن المذهب الظاهري، فالشيخ بن باديس لم يكن ظاهريا، بل كان يأخذ بالنصوص، ومعقولاتها، من الإجماع والقياس، والاستحسان والأخذ بالمصالح، والغوص في أسرار التشريع والبحث عن المقاصد، ولذلك أجاب الشيخ عبد الحميد بن باديس عن السؤال الآتي وهو المجتهد إذا أفتى مستندا إلى ما يفيد الظن من أخبار الآحاد والأقيسة أو النصوص الأخرى الظنية الدّلالة، هل هو متبع لغير العلم؟.
والجواب لا بل هو متبع للعلم وذلك من ثلاثة وجوه إن كل دليل يكون ظنيا بمفرده، يصير يقينيا إذا عرض على كليات الشرع ومقاصده وشهدت له بالصواب، وهذا هو شأن المجتهدين في الأدلة الفردية إنّ المجتهد يعتمد في الأخذ بالأدلة الظنية لما له من العلم بالأدلة الشرعية الداعية على اعتبارها.
إن تلك الأدلة بمفردها تفيد الظن القوي الذي يكون جزما ويسمّى كما تقدّم علما، فما اتبع المجتهد إلاّ العلم) (20)
وهكذا يدعو الشيخ عبد الحميد بن باديس المفتي إلى تأصيل فتواه، وتعليلها، والاستدلال لها استدلالا صحيحا، سواء أكان الدليل نصا من الكتاب أو السنة إن وجدا، أو إجماعا متيقنا منقولا، أو قياسًا صحيحا، أو مصلحة راجحة، أو مقصدا من مقاصد التشريع شهدت له الأدلة الإجمالية والنصوص القطعية، مما ينفي عن الشيخ تهمة الظاهرية التي حاول البعض إلصاقها به ظلما وزورا، وبالإضافة إلى الدعوة إلى تأصيل الفتوى وتعليلها، فإنّ الشيخ ابن باديس كان يدعو المفتين إلى تحرير الفتوى عن أيّ غموض يكتنفها، بما يجعلها واضحة عند المستفتين، أما أن يعمد المفتي إلى إيراد كل الأقوال المذكورة في المسألة دونما مناقشة لها، أو ترجيح بعضها فهو نوع من إيقاع المستفتي في الخلط والتشويش، وهو أمر منبوذ لأنه يؤدي إلى نتائج غير حميدة، ولذلك قال معلقا على فتوى أحد شيوخ الأزهر «لا والله ما مثل فضيلته مع سائله إلا مثل طبيب قدّم لمريضه زجاجات من الأدوية والعقاقير منها السام القاتل، ومنها المسكّن، ومنها المهيج ومنها غير ذلك، ثم قال لذلك المريض ها أنا قدمت لك ما تداوي به أو ما يمكن أن تداوي به، ولك أيها المريض الرأي في اختيار ما شئت منها فليس من غرضي أن أبين لك ما يصلح لمداواتك وما لا يصلح، وماهي حينئذ قيمة أمانة ذلك الطبيب ونصحه لمريضه، وأين هي ثمرة علمه؟ ومن العجيب أن يقول فضيلته –بعدما نقل أكثر من صفحة من تلك الاحتمالات الواهية والأقوال المسمومة- ولا داعي للاسترسال – وأي استرسال أكثر من هذا»(21).
مناصرة مذهب مالك:
لقد امتازت فتاوى الشيخ عبد الحميد بن باديس –رحمه الله-، بأنها وفق المشهور من مذهب مالك –رحمه الله-، فقد كان –رحمه الله- حريصا على الفتوى وفق المشهور، حريصا على نبذ الأقوال الشاذة وعدم اعتمادها، ولذلك كان يقول –رحمه الله- «فخير لمن يريد السلامة بدينه أن يقتصر على المتفق عليه وحده أو مع إتيان المختلف فيه مع مبالغته في تحسين قصده وتمام تحرّيه» (22).
وها نحن نورد جملة من فتاواه للدلالة على ما نقول:
أ- سئل رحمه الله تعالى عن فتوى أصدرها أحد أدعياء العلم مفادها بطلان صلاة الجمعة في مسجد لا يوجد في وسط القرية ولم ينعكس على المسجد) دخانـها. وأضاف صاحب السؤال التوضيح الآتي: «المسجد وإن لم يكن في وسط القرية حقيقة فهو فيها حكما، لأن ديار العرش وقراه مسترسلة وحائطة بالمسجد من كل جهة، هذه إثر هذه وأقرب دار إليه تبعد عنه بعشر مترات».
فأجاب رحمه الله: «ليس في اشتراط اتصال بنيان القرية حديث، وإنّما ترجع المسألة للنظر»، وقد أفتى بعض الفقهاء باشتراط الاتصال، ولكن الإمام الأبي تلميذ ابن عرفة بعدما ذكر هذه الفتوى في شرحه على صحيح مسلم قال: « والأظهر أنهم إن كانوا من القرب بحيث يرتفق بعضهم ببعض» .
في ضرورياتهم والدفع عن أنفسهم جمعوا لأنهم -وهم كذلك- بحكم القرية المتصلة البنيان-وما قاله الأبي نقله الحطاب وسلمه وزاده تأييدا بما نقل من جزم صاحب الطّراز بعدم اشتراط الاتصال واستدلاله بأن بعض بيوت القرية قد يخرب فيحصل الانفصال ومع ذلك لا يضر ما لم يبعد ما بين البيوت» ولما كان المقصود من القرية هو الترافق والتعارف فإذا حصلا فأهل تلك البيوت قرية وإن انفصلت بيوتها فهي في حكم الاتصال، فالقرية الواقعة في السؤال إذا كانت بيوتها على هذا الوجه فإنها تجمع ولا يضرها الانفصال»(23) .
وعند تحليل رأي ابن باديس -رحمه الله- في هذه المسألة نخلص إلى ما يلي:
المسألة لا يوجد فيها نصّ من قرآن أو سنّة، المسألة مبناها على النظر والاجتهاد، الأمر الذي يعطي مجالا أوسع للفقيه في تقليب المسألة والبحث عن مستند هذا الاجتهاد، وكذا علّته أو سببه، أو مصلحة تغيرت، أو عرف لم يعد قائما إلخ- المسألة ليست محل اتفاق بين فقهاء المذهب كلّهم، وإنّما هو شرط اشترطه بعض فقهاء المذهب فقط، جاء في رسالة ابن أبي زيد القيرواني (والجمعة تجب بالمصر والجماعة) قال أبو الحسن صاحب كفاية الطالب الربّاني لرسالة بن أبي زيد القيرواني (ومذهب مالك أنّها تكون في المصر وفي القرى المتصلة البنيان وفي الأخصاص فعلى هذا لابدّ من تأويل في قول الشيخ تجب بالمصر بأن يقول يريد أو بالقرى المتصلة البنيان، ونحوها) وقال الشيخ العدوي في حاشيته على كفاية الطالب الرّباني قوله (وفي القرى المتّصلة البنيان) أي جنس القرى فيصدق بالقرية الواحدة أو لم يكن هناك اتصال إلاّ أن هناك ارتفاقا أي ولا يشترط أن يكون بها إمام يقيم الحدود) - بعض فقهاء المذهب لم يشترطوا اتصال البيان أو البيوت في القرية الواحدة أصلا، وهو رأي الفقيه صاحب الطراز وعلّل رأيه، بأن بعض بيوت قد يخرب فيحصل الانفصال، والمهم هو أن يحصل الارتفاق بين بيوت القرية، وهذا الرأي انتصر له الفقيه المالكي الكبير الأبي تلميذ ابن عرفة، وشارح صحيح مسلم، واعتمده وقوّاه الإمام الحطاب وعليه فقد انتصر الإمام عبد الحميد بن باديس للرأي القائل بأنه ليس من شروط الجمعة أن تكون بيوت القرية متصلة، بل يكفي فيها أن يحصل الارتفاق فيما بينها، ويحصل التعاون بين أفرادها وهذا الرأي في الحقيقة رأي وسط بين اتجاهين فقهيين، اتجاه يذهب أصحابه إلى اشتراط جملة
شروط لصحة صلاة الجمعة، لا يشهد لها نص من كتاب أو سنّة، بل هي نوع من التعمق والتنطع المذمومين شرعا، وهو توجّه قد تبرّم منه ابن رشد الحفيد لما قال (ولم ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة، ورأى المسجد شرطا لكونه أقرب مناسبة، حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا؟ وهذا كله لعلّه تعمق في هذا الباب ودين الله يسر)(24) وبين اتجاه ثان يذهب أصحابه إلى أنّ الجمعة صلاة كباقي الصلوات الأخرى، لا يشترط لها أيّ شرط لا مصر، ولا عدد، ولا سلطان، حتّى قال صاحب الرّوضة الندية شرح الدرر البهية (وفي هذا الكلام إشارة إلى رد ما قيل أنّه يشترط في وجوبها الإمام الأعظم، والمصر الجامع، والعدد المخصوص، فإنّ هذه الشروط لم يدل عليها دليل يفيد استحبابها فضلا عن وجوبها، فضلا عن كونها شروطا، بل إذا صلى رجلان الجمعة في مكان لم يكن فيه غيرهما جماعة فقد فعلا ما يجب عليهما، فإن خطب أحدهما فقد عملا بالسنة، وإن تركا الخطبة فهي سنة فقط، ولولا حديث طارق بن شهاب المذكور قريبا من تقيد الوجوب على كلّ مسلم بكونه في جماعة ومن عدم إقامتها –صلى الله عليه وسلم- في زمنه في غير جماعة لكان فعلها فرادى مجزئا كغيرها من الصلوات)(25) وهذا الرأي فيه تساهل كبير، إذ مدار المسألة كما يقول ابن رشد (وسبب اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها -صلى الله عليه وسلم- هل هي شرط في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط؟ وذلك أنه لم يصلها –صلى الله عليه وسلم- إلا في جماعة ومصر ومسجد جامع، فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة اشترطها ومن رأى بعضها دون بعض اشترط ذلك البعض دون غيره)(26).
ب- ومن المسائل الدالة على أن الإمام عبد الحميد بن باديس –رحمه الله- كان يفتي وفق المشهور من مذهب مالك –رحمه الله-، وأنّه لم يكن يتوقف عند حدود إيراد الأقوال فقط، وإنما يتجاوزها ببسط المسألة جيدا وتأصيلها وتعليلها بما يجعل رأي المالكية واضحا جدا، بل يزيد على ذلك كلّه الانتصار للمذهب وتقويته دونما تعصب، مسألة صيام ستة أيام من شوّال، فقد أورد حديث أبي أيوب الأنصاري –رضي الله تعالى عنه، أنّه قال، قال رسول الله ÷ -من صام رمضان ثم أتبعه ستّا من شوال كان كصيام الدّهر رواه مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وجاء بمعناه عن ثوبان وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عمر إذ في الوقت الذي تذهب كتب المالكية المعتمدة إلى كراهية صيام ستة أيام من شوال، ولذلك جاء في المختصر الخليلي «وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وكره كونها، البيض، كست من شوال» والقول بكراهية صيام ستة أيام من شوال، مع صحة الأحاديث في استحباب صيامها، ورواية الإمام مالك نفسه في الموطأ كراهية صيامها إذ جاء في الموطأ قال يحي: «سمعت مالكا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان، إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يتلقى ذلك عن أحد من السلف وأنّ أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك» ولذلك درجت الكتب العامة في أحاديث الأحكام على نسبة الكراهية لمذهب مالك في صيام ستة أيام من شوال، ولكنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس، رأى في هذا التعميم والإطلاق كلاما غير دقيق، وأن الأمر يحتاج إلى ضبط أكبر، وتدقيق أكثر لتحديد رأي مالك -رحمه الله-، فقال: «والذي يظهر من عبارات مالك -رحمه الله- أنّ المكروه هو صوم ستة أيام متوالية متصلة بيوم الفطر، كما يفهم من قوله في صيام ستة أيام بعد الفطر ومن قوله وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء وإنّما يخشى هذا الإلحاق إذا كانت متوالية متصلة بيوم الفطر، فالكراهة إذًا عنده منصبة على صومها بهذه الصفة من التوالي والاتصال، لا على أصل صومها وهذا هو التحقيق في مذهبه ولم يكتف الإمام عبد الحميد بن باديس بهذا، بل راح يكتب شرحا مستفيضا لرأي مالك في المسألة تحت عنوان فقه مالك واحتياطه أوضح فيه أن فقه مالك انبنى على أصلين:
الأصل الأول:أن العبادة المقدرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها وهو أصل عام في جميع العبادات، وفي خصوص الصيام قد ثبت نهيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، وظاهر أن وجه هذا النهي هو خوف أن يعد ذلك من رمضان، فحمى الشارع بهذا النهي العبادة من الزيادة في أوّلها، فبنى مالك -بسعة علمه وبعد نظره- على ذلك حمايتها من الزيادة في آخرها، فكره صوم تلك الأيام متوالية متصلة بيوم الفطر مخافة -كما قال- أن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء، فكان احتياطه في الأخير مطابقا لاحتياطه -صلى الله عليه وسلم- في الأول وذلك كلّه لأجل المحافظة على بقاء العبادة المقدرة على حالها غير مختلطة بغيرها، وقد جاء نظير هذا الاحتياط في الصلاة، فقد روى أبو داود في سننه أنّ رجلا دخل إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين، فقال له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا هلك من كان قبلنا فقال له -عليه الصلاة والسلام- أصاب الله بك يا ابن الخطاب -يعني أن الذين كانوا قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض- فأدّى ذلك إلى اعتقاد جهالهم وجوب الجميع، فأدّى ذلك إلى تغيير شرع الله وهو سبب الهلاك، لا يقال إنّ مقدار العبادة معلوم من الدين بالضرورة، فكيف يظن أنه قد يعتقد الجميع من الأصل والزيادة عبادة واحدة، لأننا نقول إذا دام وصل النافلة بالفريضة، وطال العهد وخلفت الخلوف، أدّى ذلك أهل الجهالة إلى ذلك الاعتقاد والاحتياط للعبادة يقتضي قطع ذلك الاعتقاد من أصله بالنهي عمّا يؤدي إليه وهو من سد الذرائع الذي هو أحد أصول مالك.
ومع هذا فقد نقل الإمام القرافي عن الإمام عبد العظيم المنذري أنّ الذي خشي منه مالك -رحمه الله تعالى- قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحرين على عادتهم والقوانين وشعائر رمضان إلى آخر الستة أيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد.
فلله مالك ما أوسع علمه، وما أدق نظره، وما أكثر إتباعه فرحمة الله تعالى عليه، وعلى أئمة الهدى أجمعين.
الأصل الثاني: أن ما ورد من العبادة مقيدا بقيد يلتزم قيده، وما ورد منها مطلقا يلتزم إطلاقه، فالآتي بالعبادة المقيدة دون قيدها مخالف لأمر الشرع ووضعه والآتي بالعبادة المطلقة ملتزما فيه ما جعله بالتزامه كالقيد مخالف كذلك لأمر الشرع ووضعه وهو أصل في جميع العبادات ومثال ما ورد من العبادة مقيدا، التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا وثلاثين مرة والختم بـ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير فقيدت هذه العبادة المحددة إيقاعها دبر كل صلاة، فالإتيان بها في غير دبر الصلوات مخالفة للوضع الشرعي.
ومثال ما ورد مطلقا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة وسبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة فيلتزمها في وقت معين من النهار، فيخرج عن مقتضى الإطلاق ولفظ يوم من نص الحديث فيكون مخالفا للوضع الشرعي ولفظ الحديث الوارد في هذه الأيام جاء مطلقا في الاتباع صادقا بالاتصال والانفصال، فالتزام اتصالها وتواليها تقييد لما أطلقه الشارع وتزيد عليه.
اقتداء وتحذير: هذان الأصلان اللذان قررنا بهما فقه مالك، هما أصلان مجمع عليهما، كثيرة في الشريعة المطهرة أدلتهما وفي الفروع التي تنبني عليها، فلنا في مالك وغيره من أئمة الهدى القدوة الحسنة في التمسك بهما، فنحتاط لعبادتنا حتى لا نخلط بين فرضها ونفلها، ونتقبل ما جاء من العبادات مقيدا أو محددا بقيده وحدّه، ونتقبل ما جاء منها مطلقا على إطلاقه، فلا نلتزم فيه ما يخرجه عن الإطلاق، ولنحذر كل الحذر من الإخلال بقيود الشارع أو التقييد لمطلقاته ففي ذلك استظهار عليه، وقلة أدب معه وتبديل لوضعه، واختيار عليه، وإنما الخيرة لله ولرسوله، لا لأحد من الناس وإن الغالب على الناس أنهم لا يعتمدون الإخلال بالقيود، وإنما يتعمدون التقييد للمطلقات بأنواع الالتزامات، مع أنهما في المخالفة سواء فلنحذر من الوقوع في مثل هذا على الخصوص.
امتثال نصوم هذه الستة كما رغبنا نبيّنا، طمعا في فضل ربنا، غير ملتزمين وصلها ولا موالاتها، والله يلهمنا والمسلمين أجمعين أنواع المبرّات وإقامتها بمنه وكرمه، آمين»(27).
ومن خلال هذا النص، يبدو لنا الإمام ابن باديس فقيها متضلعا متجها للتأسيس والتأصيل فهو: لم يكتف بالنّقل عن أمهات كتب المالكية بأنّ المذهب هو كراهة صيام الستة أيّام من شوال بل أوضح بأن مراد مالك -رحمه الله تعالى- من كراهية صيامها، إنّما هو صومها متوالية متصلة بيوم الفطر -أوضح بأن رأي مالك -رحمه الله- مبني على أصلين عظيمين هما:
أ- أن العبادة المقدّرة لا يزاد عليها ولا ينقص منها
ب- ما ورد من العبادة مقيدا يلتزم قيده، وما ورد مطلقا يلتزم إطلاقه وبناء على ما تقدم فإنّه قد انتهى إلى أنّ صيام ستة أيام من شوال مستحبّ عملا بالأحاديث المرغبة في صومها، المبيّنة فضلها، لكن بدون الالتزام بوصلها مباشرة بعد العيد، ولا مواصلين بين أيّامها وهذا الذي انتهى إليه ابن باديس في المسألة كان نتيجة حسن إطلاع الرّجل على نصوص السنة، والتحكم الجيد في قواعد أصول الفقه، وحسن التفهم لأقوال أهل العلم، المروية في الكتب المعتمدة والاجتهاد في تعليلها وتأصيلها.
ج- ومن المسائل الدّالة على انتصار الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله-، لمذهب الإمام مالك -رحمه الله-، موقفه من مسألة الصلاة الوسطى، وما هي؟ فعند تفسير قول تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا تعرض إلى موضوع أفضلية الصلوات عن بعضها البعض فكتب قائلا: «من تخصيص صلاة الفجر بجملة التذييل المؤكدة، وما اشتملت عليه من هذه المزية، أخذ جماعة من أهل العلم أفضليتها على غيرها، فإن قلت صلاة العصر أيضا لها هذه المزية كما تقدم في حديث مالك.
قلت إنّ ثبوت هذه المزية للفجر قطعي بنّص القرآن ومتفق عليه في روايات الحديث بخلاف العصر فقد جاء في بعض الروايات دون بعض وتبقى الفجر ممتازة تخصيصها بالتأكيد في نّص الكتاب وكفى هذا مرّجحًا لها » (28).
وواضح من هذا النّص انتصار العلاّمة ابن باديس للرأي المشهور في مذهب مالك رحمه الله الذّي يعتبر أنّ الصلاة الوسطى التي وردت النصوص الشرعية بالتأكيد على المحافظة عليها، كقوله تعالى حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (29)
بأنّها هي صلاة الصبح، جاء في الرّسالة لإبن أبي زيد القيرواني « أما صلاة الصُبح فهي الصلاة الوُسطى عند أهل المدينة وهي صلاة الفجر» (30).
قال أبو الحسن صاحب «كفاية الطالب الرباني لرسالة بن أبي زيد القيرواني »:«ونسبته إلى أهل المدينة أنّها الوُسطى يحتمل أن يكون متبرئًا منه، ويحتمل وهو الأقرب أن يكون مرتضيا له فكأنه يقول الصلاة الوسطى التي أكد الله الأمر بالمحافظة عليها هي صلاة الصبح بإجماع أهل المدينة وإجماعهم حُجة عند مالك » (31).
وجاء في حاشية العدوي « ... وقيل هي العصر ومال إليه أكثرهم منهم ابن العربي وابن عبد السلام والفاكهاني في الأحاديث والآثار الواردة في ذلك وقد ذكر الشارح في الكبير ما يؤيد أنها الصُبح...»(32)
وهكذا يتضح بأن في المسألة رأيان، الرّأي المشهور في مذهب مالك بأن صلاة الفجر هي الصلاة الوسطى، وٍرأي ثان قال به كثير من محققي المالكية كأبي بكر العربي وابن عبد السلام،وعمدة الفريق الثاني هذا هو الأحاديث الواردة المصّرحة بأنّ صلاة العصر، هي الصلاة الوسطى وفيها حديث على عليه السلام أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوُسطى حتى غابت الشمس» متفق عليه، وحديث مُسلم واحمد وأبي داود « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ».
وحديث علي عليه السلام قال «كنا نراها الفجر، فقال رسول ÷ هي صلاة العصر، يعني الصلاة الوسطى »(33).
لكنّ الرأي الأول الذي انتصر له ابن باديس رحمه الله، وهو القول بأنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الصُبح، يحتج له بحديث الإمام النسائي عن ابن عباس قال «أدلج رسول صلى الله عليه وسلم ثم عرّس فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس فصلى وهي الصلاة الوسطى »(34).
وحديث مالك في الموطأ « عن أبي يونس مولي عائشة أم المؤمنين أنّه قال أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا ثم قالت إذا بلغت هذه الآية فآذني حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين، قالت عائشة سمعتها من رسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلّم»(35).
وحديث مالك في الموطأ كذلك عن عمرو بن رافع أنّه قال كنت أكتب مُصحفا لحفضة أم المؤمنين فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذنّي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى و صلاة العصر وقوموا لله قانتين فلما بلغتها فأملت عليّ: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين(36).
أملت أو عن مالك أنه بلغه أن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس كانا يقولان الصلاة الوسطى صلاة الصبح، قال مالك وقول علي وابن عباس أحب ما سمعت إليّ في ذلك (37).
هذه عمدة أدلة الرأي القائل بأن الصلاة الوسطى هي صلاة الصبح، وهي أدّلة قويّة موّزعة بين المرفوع والموقوف، وجملة الاعتراضات التي اجتهد بعض أهل العلم في إيرادها حولها كما فعل الإمام الشوكاني في نيل الأوطار، فهي مجرد احتمالات كما يمكن إيرادها على الرأي الأوّل الذي انتصر له الإمام الشوكاني ورجحّه، ولكن الإمام عبد الحميد ابن باديس بالإضافة إلى استناده إلى هذه الأدلة وتعويله عليها، فقد كان له منزع آخر في الترجيح، وهو إشارة القرآن الكريم إلى هذه الأفضلية لصلاة الصبح « وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودا» ومن الأصول في مذهب مالك رحمه الله تقديم ظاهر القرآن على السُنّة عند التعارض ما لم تكن السُنّة متوترة أو معضدة بعمل أهل المدينة،(38)
ذم التعصب المذهبي: بالرغم من اعتزاز الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله- بتمذهبه بالمذهب المالكي في الفروع، ومناصرته له، وإفتاؤه وفق المشهور من الأقوال فيه فإنه لم يكن متعصبا لا يرى الحق إلاّ في مذهبه، ولا يتصور الصواب مع غيره، بل كان رحمه الله يؤمن بأنّ المذاهب الفقهية كلّها مناهج اجتهادية صحيحة، اجتهد أصحابها في استنباط الأحكام الفرعية من نصوص الكتاب والسنّة، ومن العمل بمعقولها أو القياس عليهما، وكان الإخلاص رائدهم جميعًا، وعليه فالاختلاف الفقهي في الأحكام الفرعية يمثل ثروة تشريعية تعتبر مبعثا للافتخار والاعتزاز ، لأنه في حقيقتة ما هو إلآّ تعدد النظريات والمبادئ والطرائق الحقوقية في استمدادا من التشريعات الأخرى، لذلك قال سيدنا عمر بن العزيز رحمه الله خامس الخلفاء الراشدين « ما أحب أنّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يختلفون، لأنّه لو كان قولا واحدًا لكان النّاس في ضيق، ,أنهم أئمة يقتدي بهم، فلو أخذ رجل بقول أحدهم لكان سُنّة ».
وعليه فالفقيه المعاصر على وجه الخصوص يجب أن ينظر إلى جميع المدارس الاجتهادية بعين الإنصاف، وأن يجتهد في الاستفادة من جميعها، وأن يبتعد عن التعصب المذهبي المذموم، فلا يرى الأمور، إلاّ من خلاله ولا يقيس الأشياء إلاّ بمقياسه.
ومن هنا وجدنا الإمام عبد الحميد ابن باديس يؤكد على وجوب الإطلاع الواسع على المذاهب وآرائها بالنسبة لمن يتخصصون في الفتوى، وفي القضاء الشرعي، فيقول « .. فيتوسع لهم في فقه المذهب ثم في الفقه العام، وتكون (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها، ويدرسون آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، ويدرسون علم التوثيق، ويتوسعون في علم الفرائض والحساب،ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذهب الضيقة » (39).
ولقد أحسن ابن باديس صنعًا حين جعل كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) للعلاّمة ابن رشد الحفيد، هو الكتاب الذي يُدّرسُ للطلاب الذين يريدهم أن يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الاسلام الواسعة ، وذلك أن كتاب ابن رشد.. كما قال عنه الدكتور فتحي الدريني « من أنفس ما كتب في الفقه الإسلامي المقارن، دقة علمية وموضوعية ، ونزاهة وتبدو عنايته واضحة في تحرير "منا شيء الخلاف" ».
والموازنة بين الأدلة أصوليا وكثيرًا ما يرجح الرأي الأقوم، وقد يأتي برأي جديد، في حين أننا نجد في كتب الحنفية مثلاً نقلاً للآراء الضعيفة لفقهاء المذاهب الأخرى، ثم يشرعون في الرد عليها، متجاهلين الآراء القويمة لمخالفيهم، مما بشعر بتجافي "الحق العلمي " بدافع نزعة حب الانتصار على المذهب المخالف، وهو لون من التعصب المذهبي الذي ينبغي أن يكون القضاء عليه غاية من غايات الفقه المقارن » (40)
فالفقيه المعاصر يجب أن يستفيد من جميع المذاهب الفقهية، والمدارس الاجتهادية، و إلاّ يكون قد حرم نفسه وبالتالي أمتّه من خير كثير، وأوقعها في الحرج، لأنّ المذهب الواحد لا يسع الأمة بكل احتياجاتها، وفي هذا الإطار وجدنا العلاّمة عبد الحميد بن باديس يوّجه انتقادًا لاذعًا لمجلة الأحكام العدلية، تلك المجلة التي صدرت عام 1286 للهجرة، والتي فصلت بمواد ذات أرقام متسلسلة كالقوانين الحديثة، وتبلغ عدد المواد فيها 1851 مادةً، وكلّها مستقاة من قسم المعاملات من المذهب الحنفي الذي عليه عمل الدولة، فقال رحمه الله، « لسنا نبرر صنيعه في رفض الأحكام ولكننا نريد أن يذكر النّاس أن تلك المجلة المبنية على المشهور وراجح مذهب الحنفية ما كانت تسع حاجة أمة من الأمم في كل عصر، لأنَّ الذّي يسع البشرية كُلّها في جميع عصورها هو الإسلام بجميع مذاهبه لا مذهب واحد أو جملة مذاهب محصورة كائنا ما كان وكائنة ما كانت، ونريد أن يذكر الناس أيضا أن أولئك العلماء الجامدين ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا غير ما عرفوه من صغرهم من مذهبهم وما كانت حواصلهم الضيّقة لتتسع لأكثر من ذلك.
كما لا يجب أن يذكروا أن مصر بلد الأزهر الشريف ما زالت إلى اليوم الأحكام الشرعية – غير الشخصية- معطلة فيها، ومازال كود نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم .ومازال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء – غير المذهب الحنفي مهجورًا كذلك إلاّ قليلاً جدًّ»(41).
ورغم تأييدنا المطلق لجوهر فكرة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله- وهي أنَّ المذهب الواحد لا يسع أمة من الأمم في كل عصر، وأنّ المذهب الواحد لا يمثل الإسلام، وإنّما الذي يمثل الإسلام هي المذاهب الإسلامية كلّها، فهي كلها روافد للإسلام، وعليه فلا بد على الفقيه المعاصر من الاستفادة من جميع المذاهب الفقهية الصحيحة، حتى يتأتى له تقديم إجابات معاصرة لمجمل المشكلات والتحديات التي تواجه الإنسان المسلم والمجتمع المسلم في العصر الرّاهن.
لكن لابد من الملاحظة هُنا بأنّ مجلة الأحكام العدلية هي خطوة في الاتجاه الصّحيح، إذ جعلت من اليسير مراجعة الأحكام الفقهية ومعرفة مظانّها، كما أنها راعت المصلحة الزمنية فأخذت ببعض الأقوال الضعيفة في المذهب، وتركت المشهور والذي عليه الفتوى،وتطبيقا لهذا المبدأ عدم التعصب المذهبي، والاستفادة من المدارس الفقهية كلّها وجدنا الإمام عبد الحميد ابن باديس في فتاويه إذا وجد في غير المذهب المالكي رأياً يحقق مصلحة ما فإنّه يفتي به، ومثال ذلك أنّه سُئل – رحمه الله- (إذا ضرب إنسان دجاجة أو شاة بحجر أو عمود فأصابها وبقيت تتخبط من ذلك الضرب، فبادر إليها الضارب أو غيره فذبحها فهل تؤكل أم لا؟
فأجاب رحمه الله « إذا أدركها غير منفوذة المقاتل فإنّه يذكيها ويأكلها اتفاقًا، وإذا كانت منفوذة المقاتل فالذكاة لا تفيد فيها في مشهور مذهب مالك وتفيد فيها في مذهب الشافعي وجماعة من المالكية وهي فسحة ينبغي اعتمادها »(42)
فهناك حالة متفق عليها وهي أن الشاة إذا نطحت أو ضربت أو سقطت من مكان عالٍ، فأدركت راجية حياتها، أي لم تكن منفوذة المقاتل، فذّكيت فإنها تؤكل قولاً واحدًا بلا خلاف.
وأما الحالة المختلف فيها هي إذا أدرك الشاة النّطيحة أو المضروبة أو الساقطة من مكان عالٍ منفوذة المقاتل أي لا ترجي حياتها، أي لا يعيش الحيوان بعدها عادة، فمشهور مذهب مالك عدم جواز تذكيتها، جاء في الرسالة لإبن أبي زيد القيرواني
« والمنخنقة بحبل ونحوه والموقوذة بعصا وشبهها والمتردية و النّطيحة وأكيله السبع إن بلغ ذلك منها في هذه الوجوه مبلغا لا تعيش معه لم تؤكل بذكاة »(43) و هناك رأي آخر في المذهب غير مشهور يرى بأن الذكاة تعمل فيها، أما مشهور مذهب أبي حنيفة والشافعي فهو أنّ الذكاة تعمل فيها قال ابن رشد في بداية المجتهد « واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال قوم تعمل الذكاة فيها وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي، وهو قول الزهري وابن عبّاس، وقال قوم لا مل الذكاة فيها، وعن مالك في ذلك الوجهان، ولكنّ الأشهر أنها لا تعمل في الميؤوس منها... »(44)
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هو الاستثناء الوارد في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (45)
فالجمهور من العلماء والفقهاء قالوا بأنّه استثناء متصل، وهو راجع على كل ما أدرك ذكاته من المذكورات وفيه حياة.
فإن الذكاة عاملة فيه، في حين ذهب الإمام مالك رحمه الله إلى أن الاستثناء منقطع، أي حرمت عليكم الأشياء المذكورة، لكن ما ذكيتم فهو لا يحرم(46) ،
ونلاحظ هنا أنّ ابن باديس رحمه الله قد أفتى بخلاف المشهور من مذهب مالك رحمه الله، بل أفتى بالقول الآخر في المذهب الموافق للمشهور من مذهب أبي حنيفة ومذهب الإمام الشافعي، وعلل فتواه بالقول « وهي فسحة ينبغي اعتمادها» والذي دعا ابن باديس إلى أخذ بهذه الفسحة، هو أنّ كثيرا من محققي المالكية كابن العربي وابن عبد البر قد رحجا هذا القول ورأيا بأنه رأي مالك في الموطأ، وهو الذي يتماشى مع أصول مذهبه التي من جملتها القياس ما لم يصادم نصّا قال ابن العربي: اختلف قول مالك في هذه الأشياء، فروى عنه أنّه لا يؤكل إلاّ ما ذكي بذكاة صحيحة.
والذي في الموطأ أنّه إن كان ذبحها ونفسها يجري وهي تضطرب فليأكل، وهو الصحيح من قوله الذّي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد طول عمره، فهو أولى من الروايات النّادرة، وقد أطلق علماؤنا على المريضة أنّ المذهب جواز تذكيتها ولو أشرفت على الموت إذا كانت فيها بقية حياة، وليت شعري أي فرق بين بقية حياة من مرض، وبقية حياة من سبع لواتسق النّظر وسلمت من الشبهة الفكر وقال أبو عمر (بن عبد البر) قد اجمعوا في المريضة التي لا ترجى حياتها أنّ ذبحها ذكاة لها إذا كانت فيها الحياة فيها حين ذبحها وعلم ذلك منها بما ذكروا من حركة يدها أو رجلها أو ذنبها أو نحو ذلك واجمعوا أنها صارت فيها حال النّزع ولم تحرك يدًا ولا رجلاً أنَه لا ذكاة فيها وكذلك ينبغي في القياس أن يكون حكم المتردية وما ذكر معها في الآية(47) .
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن هذا الرأي الفقهي مراعًا فيه اليُسر والسماحة ومن مقاصد الشريعة الإسلامية، عدم إيقاع المكلفين في الحرج، ومن القواعد المشهورة بين أهل العلم في هذا الشأن قاعدة « المشقة تجلب التيسر» - ورحم الله سفيان الثوري الذي انعقدت له الإمامة في الفقه وفي الحديث القائل «أنما العلم الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد».
وهكذا لم يجمد ابن باديس على المنقول في كتب المتأخرين فقط، ولم يتقوقع داخل المذهب، وإنما وسع مداركه، وأجال النظر وأفتى بغير المشهور في المذهب.ولا نترك القول في مسألة التعصب المذهبي، دون الإشارة إلى قضية اخطر من مجرد الجمود على أقوال المذهب، واعتبارها حقا مطلقاً، ألا وهي محاولة توظيف الاختلاف المذهبي لضرب الوحدة الإسلامية، يتعاون في تحقيق هذا الهدف دهاقنة الاستعمار وأعداء الإسلام من الخارج ورجال المذاهب المتعصبون، المنغلقون الذين حرموا حسن الفقه في الدين، فتراهم يتعصبون لمذاهبهم أكثر من تعصبهم للإسلام الجامع ذاته، ولا يجدون أدنى حرج في التعاون مع أعداء الإسلام من أجل الإيقاع بإخوانهم في الدين المخالفين لهم في المذهب.
ولقد بذل الاستعمار الفرنسي جُهودًا جبارة من أجل إفساد ذات البين بين الإباضية والمالكية، وكان بعض قالة السوء من المنتسبين للعلم وأهله يغذون هذا التوجه، ويذكون ناره، واستغلوا حادثة منع الاباضية للمالكية من الآذان، فأعلن كل فريق الحرب ضد الآخر، وأراد كل فريق أن يستميل الشيخ عبد الحميد ابن باديس إلى صفه، ولمّا لم ينحز رحمه الله إلى أي طرف، زاد كل فريق في لومه والحنق عليه، فكتب رحمه الله يقول « ... واليوم وقد اتفق الجانبان على إنكار سُكوتنا وحمل الحنق علينا وسوء الظن فينا، فإننا نقول كلمتنا للحق والنصفة غير منحازين بها إلى إحدى الفئتين، بالغة ما بلغت، في إرضاء من رضي وإسخاط من سخط، حيث كنا نعتقد أننا أرضينا بها الحق والوجدان فنقول:
- قد ثبت عندنا أنّ بعض الإباضية بغرداية منذ زمان بعيد بني مسجدًا وجعل له مأذنة، واحدث فيه أذانًا ثانيا، فاتفقت كلمة جماعة الإباضيين على منعه وهدم مأذنته. فعلمنا بهذا أن الإباضية لم يمنعوا مالكية غرداية من الأذان تعصبا عليهم لأنّهم مالكية – كيف وقد منعوا قبل ذلك الإباضية مثلهم وهدموا الصومعة-وإنما منعوهم لأنهم يرون الاكتفاء في البلد بآذان واحد.
- فنحن بهذا قد برأنا الإباضية من تعصبهم على المالكية لأنهم مالكية ولكننا من ناحية أخرى نرى أنه حق عليهم أن يرجعوا في هذه المسألة عن ٍرأيهم ويسمحوا لإخوانهم المالكية بالآذان:
- أولاً: إصلاحا لذات البين بين المسلمين، وهي في الإسلام من أوّل ما تجب وتتأكد المحافظة عليه والقيام به،
- ثانيا: حفظا للوحدة الإسلامية بحفظ القلوب غير متصدعة بداء الفرقة القتال المعدود في الإسلام من أكبر المحرمات المهلكات.
ثالثا:مجاملة لبقية إخوانهم المالكية بالقطر الذين تربطهم بهم رابطة الدين والوطن والمصلحة.
هذه كلمتنا نقولها بعهد الله، لا نقصد بها إلاّ القيام بواجب الصّدع بالحق والدعوة إليه والإصلاح بين المسلمين، فإن كانت صوابا فمن الله الكريم الرحيم وإذا كانت خطأ فمنا وعلينا، وليست بالأولى من خطئنا »(48).
وإنه لموقف جدير بالتنويه والاعتبار إذ لم يسارع رحمه الله إلى حصر المشكلة في الاختلاف المذهبي بين الإباضية والمالكية، حول تعدد الآذان في البلدة الواحدة، بدليل أنّ الإباضية منعوا إخوانهم الإباضية من أحداث آذان ثان بل وهدمو مآذنتهم التي أحدثوها لهذا الغرض، ولكن رغم هذه التبرئة من تهمة التعصب المذهبي لما قاموا به من منع المالكية من الآذان في مساجدهم، فإنّ هذا لم يمنعه من الحكم على تصرفهم بالخطأ، بل وبوجوب الرجوع عنه، لما يترتب عليه من المفاسد و الأضرار، كالتباغض و التحاسد والافتراق والتشرذم، وحرصًا على تحقيق الأخوة في الدين، والمحبّة في الله، وهما من أعظم الواجبات في الإسلام.
فإيمان الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله- بوحدة الأمة الإسلامية، وسعيه الدءوب وعمله المتواصل من أجل تحقيق الاتحاد بين المسلمين هما الأمران الذان جعلاه يركز على القواسم المشتركة بين المسلمين، ويقوّيّها، ويدعو إلى تمتينها، وينظر إلى القضايا الخلافية،التي هي نتيجة الاجتهاد المذهبي نظرة متَفهم متسامح، فكان رحمه الله يقول « هذا العاجز- كما يعلم الناس كلهم- كان ولازال من دعاة التوحيد والإتحاد وكنت ولازالت أقول في مجالسي ودروسي إنّ المذاهب الفقهية غير الأربعة المشهورة هي كالأربعة، تتفق وتختلف عن نظر واجتهاد.....»(49)
ومن هذا المنطلق وجدنا الشيخ عبد الحميد بن باديس – رحمه الله- يدعو إلى تجاوز الخلافات بين السُنّة والشيعة، باعتبارهما أكبر طائفتين في الأمّة الإسلامية، ولأن أعداء الإسلام وحدّهم هم المستفيدون من استمرار الصراع بين الطائفتين، خصوصًًا لمّا يتخذ هذا الصراع طابع الحرب والدموية،وإن تعجب فاعجب للمتعصبين من العلماء في الطائفتين، الذّين لا يؤمنون أصلاً بإمكانية التقارب بين الفريقين، فتراهم لا يركزون إلاّ على نقاط الاختلاف ويضخمونها، ويشحنون نفوس الأتباع باستحالة التقارب بين الفريقين، بل يصوّرون أي حركة في هذا الاتجاه، هدمًا للدين، وتقويضًا لبنيانه، وتخريبا لأركانه، وكأنه لا توجد نقطة واحدة هي محل اتفاق بين الفرقين، يمكن الانطلاق منها لفهم ما هو محل اختلاف، مع أن كلاً الفريقين يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ويوحدونه توحيدًا يليق بجلاله، ويؤمنون بنبوة محمد ÷ وانّه خاتم الأنبياء، ويؤمنون بالقرآن الكريم وأنّه وحي الله الأخير للبشرية وهكذا....
صحيح أن هناك بعض الشذوذ في الفهوم، والأحداث في التاريخ، التي تقف حجر عثرة في طريق التقريب، لكن هذه العقبات يمكن التغلب عليها، أو على الكثير منها، إذا باشر العملية في الفريقين، علماء منصفون معتدلون، فقهاء في الشرع ومقاصده، يعرفون ما هو أصلي وما هو فرعي، مميزون بين مراتب الأحكام، علماء بالتاريخ وأحداثه، خبراء بالصراع وتقنياته.
وقبل هذا وذاك أن يكون ولاءهم لله وللرّسول وللأمة الإسلامية لا غير، فلا يكونوا مرتبطين بنظام سياسي معين، يقدمون مصلحته على مصلحة الأمة الإسلامية جمعاء، يقول تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (50).
ومن هؤلاء العلماء ولا شك – الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله- الذي كتب معلقا على كلام لسلامة موسى، المفكر المصري الذي حاول أن يقدم تعليلاً لعدم انتشار الرّسم والنحت في الحضارة العربية الإسلامية، بالقول بأن الإسلام ذو نزعة توحيدية كان يحارب هذا اللّون من الفنون، ولكن يُستثني – في نظره- أمتان من هذا الحكم العام وهما الفرس ومصر في عهد الفاطميين، وذلك لأنهما أمتان شيعيتان، والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام والخروج عن الملّة، فقال رحمه الله: « لاشك أن حضرة الكاتب يجهل أنّ جمعاً كبيرًا من علماء الإسلام لا يمنعون من الصور ما كان مثل رقم في ثوب، إنما يمنعون ما كان تمثالا تام التصوير، وليس جهله بهذا هو الذي يدعونا إلى الإنكار عليه.
ولكن قوله:« والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام ».
هو الجدير بكل إنكار، فقد حسب نفسه لما عرف شيئا من تاريخ الفنون أنّه عارف بمذاهب الإسلام، فحكم على الشيعة بالانشقاق عنه، وهذا الكاتب لم يكفه أن ينفي- في أكثر ما يكتب- عن الإسلام كل ما يحسبه فضيله.
حتى جاء يحاول أن ينفي عنه أمما كاملة من أبنائه، ونعوذ بالله من سوء القصد وقبح الغرور»(51)
ولا يسعنا إلاّ أن نترحم على روح أمامنا ابن باديس وأن نبدي إعجابنا الكبير، وتأييدنا المطلق لهذا الفكر الموّحد، والفقه الجامع، الذي يركز على القواسم المشتركة بين الطوائف الإسلامية، والفرق المذهبية، ويدعو إلى التحرك من خلالها لخدمة قضايا الإسلام العامّة، والمشكلات المصيرية، التي تواجه المسلمين.
وعلماء يملكون هذه الروح المتوثبة لتوحيد صفّ المسلمين، وهذا العقل النّير الذي يحسن وضع سلّم الأولويات، ويُميّز بين مراتب الأحكام، و يوازن بين المفاسد والمصالح، يستطعون أن يحلوا كثيراً من العقبات التاريخية، والإشكالات العلمية، التي تقف حجر عثرة في سبيل توحيد الأمة الإسلامية، بحيث يصبح المسلمون على اختلاف مذاهبهم يدًا واحدة على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ومن هنا وجدنا الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس دائم التصريح بأنّ الأصول التجديدية التي أقامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عليها دعائم الإصلاح، لم تضق ذرعًا بالاختلافات المذهبية لأن المنطلق كان هو الإسلام الجامع الموّحد، الذي يسّع كل صاحب مذهب، أو منتمٍ إلى فرقة كلامية، بأنّه ممثل فيه، وله بداخله المكانة اللائقة به من دون إقصاء أو هميش، فقال رحمه الله « إذا كانت الجمعية بلغت – بتوفيق الله- إلى شيء من غايتها، فذلك لأنّها أتت هداية الأمّة من بابها، فخاطبتها بلسانها، وقادتها بدينها الذي هو زمام روحها ، والجزء الأعظم الذي تتكون منه وتحيا به شخصيتها، فعالجتها بالكتاب والسنة وهدي صالح الأمة، حيث يتوجه كل مسلم منشرح الصّدر، مطمئن النّفس، وحيث تنضوي كل المذاهب والفرق، فيقل الخلاف أو يخف أو ينعدم، فلو كان في الجزائر جميع مذاهب الإسلام لوسعتهم الجمعية بعلاجها النافع، - بإذن الله- للجميع »(52).
فالمصلحة العامة للأمة الإسلامية لا تتقدمها أية مصلحة مذهبية، أو طائفية أو قطرية، والعمل الدؤوب من اجل لمّ شتات المسلمين ورصّ صفوفهم، ومحاربة مظاهر الفرقة بينهم، هي المقصد الأسمى للدين بعد التوحيد .
ذلك أن الإسلام دين يقوم على كلمة التوحيد، وكذا توحيد الكلمة، يقول تعالى: وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(53)
ويقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (54) يقول الشيخ عبد الحميد ابن باديس «عند المصلحة العامة من مصالح الأمّة يجب تناسي كلّ خلاف يُفرّق الكلمة، ويصدع الوحدة ويوجد للشر الثغرة، ويتحتم التآزر و التكاثف حتى تنفرج الأزمة وتزول الشدة بإذن الله، ثم بقوة الحق وأدراع الصّبر، وسلاح العلم والعمل والحكمة » (55).
الدعوة لممارسة الاجتهاد لمواجهة المستجدات:
لقد رفع الشيخ عبد الحميد بن باديس- رحمه الله- صوته عاليا بالدعوة إلى ممارسة الاجتهاد ممن استكمل تحصيل ادواته، وتحققت فيه شروطه، ذلك أن الاجتهاد هو الذي يكسب الفقه الإسلامي حركية ومرونة، وينفي عنه صفتي الجمود والانغلاق.
فبالاجتهاد تتحقق صفة الشمولية لهذه الشريعة الغرّاء، ولهذا الفقه العظيم، إذ كل من له أدنى إلمامه بالتشريع الإسلامي يعلم أن النّصوص فيه محدودة ومعدودة.
وكل من له أدنى مسكة من عقل يعلم أن الوقائع والأحداث والمستجدات، متعددة ومتجددة.
فكيف يحصل الشمول الذي معناه صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، إذ هي ليست خاصة بزمن دون زمن، ولا ببيئة دون بيئة، ولا مكان دون مكان آخر، وإنما هي للإنسان أي كان وحيثما كان.
يقول تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (56)
وقال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَىٰ قُل لَّا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (57)
وقال رسول صلى الله عليه وسلم « وكان الرسول يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الأحمر و الأسود».
والإجابة على هذا السؤال متضمنة في طبيعة التشريع الإسلامي ذاته، فنصوصه ليست كباقي النّصوص القانونية التي عرفها تاريخ التشريع البشري فهي عبارة عن مبادئ عامة، وقواعد كلية، تتلاءم مع كل البيئات والأزمنة والأمكنة ناهيكم عن قلتها ومحدوديتها.
وأصول هذا التشريع الإسلامي وأدلته الإجمالية راعت الفروق والاختلافات الناشئة عن اختلاف البيئات والأزمنة كالاستصحاب، والعرف والاستحسان و الاستصلاح....إلخ .
ولهذه الأسباب استطاع الفقه الإسلامي احتواء بيئات جديدة، وإن كانت هذه البيئات عريقة في الحضارة والمدينة كالعراق والشام وبلاد فارس، واعمالا لمبدأ الاجتهاد دائما- أي تعدد وجهات النّظر في المسألة الواحدة وجدنا فقيها عظيماً كالإمام الشافعي رضي الله عنه له مذهبان، مذهبه القديم في العراق ومذهبه الجديد في مصر.
ووجدنا إمامين جليلين هما محمد بن الحسن الشّيباني وأبو يوسف صاحبي أبي حنيفة النعمان الإمام الأعظم يخالفانه قي ثلتي المذهب، وكانا يقولان: إن اختلافنا معه هو اختلاف عصر ومكان وليس اختلاف حجة وبرهان.
ووجدنا المناقشات العلمية، والمراسلات الفقهية، والردود والجدال بالتي هي أحسن.
والمهم أنّ العقل الإسلامي كان في قمة عطائه الفكري، وذروة اجتهاده الفقهي، ولم يكن التقليد قد عرف طريقه إلى الحياة ألإسلامية.
ولكن بمرور الوقت بدأت الهمم تكل، والفتور الفكري يشيع، فشاع القول بأن باب الاجتهاد قد سُد، وأن تقليد الأئمة السابقين واجب في كل شيء، وعليه فكل نازلة تقع، أو حادثة تطرأ فلا بد من بحث الحلول الملائمة لها في كتب الأوّلين.
واستمر الأمر كذلك حتى كانت النهضة الإسلامية الحديثة التي أرست دعائمها مدرسة المنار العتيدة، وأئمتها العظام، التي جعلت من تحرير العقل الإسلامي من رقبة التقليد، وبعث الاجتهاد من أهله وفي محله، أساسا مهماً من أسس مشروعها الحضاري الكبير،ومن الأصوات التي تجاوبت مع صوت المنار، صوت الإمام الداعية والمفكر المصلح الشيخ عبد الحميد ابن باديس، الذي اعتبر التقليد عمومًا وصمة عار في جبين الأمة الإسلامية، يبوء بإثمها العلماء، وطلاب العلم، الذين كلت هممهم وفترت عزائمهم، ورضوا من العلم، بترديد أقوال السابقين، واعتبر هذا الأمر من أهم أسباب تخلف المسلمين، فقال رحمه الله « كما أدخلت على مذهب أهل العلم بدعة التقليد العام والجامد التي أماتت الأفكار وحالت بين طلاب العلم ومعين السنة والكتاب، بل صيرتها – في زعم قوم- غير محتاج إليهما من نهاية القرن الرابع إلى قيام الساعة، لا في فقه، ولا استنباط، ولا تشريع، استغناء عنهما، "زعموا" بكتب الفروع من المتون و المختصرات، وصارت معاينها الظاهرة بله الخفية مجهولة حتى عند كثير من كبار المقصودين »(58)
فطالب العلم أحوج ما يكون إلى التفكير الصحيح، والاستقلال فيه، لأنّه بهذه الملكة ترسخ قدمه في العلم، ويصبح أهلاً للفتوى والاجتهاد، لمواجهة المستجدات، وتقديم الحلول لعويص المشكلات، وفي هذا الصدد يقول ابن باديس « إذا كان التفكير لازما للإنسان في جميع شؤونه، وكل ما يتصل به إدراكه، فهو لطالب العلم ألزم من كل إنسان فعلى الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل، وفيما ينظر من الأدلة تفكيرا صحيحا مستقلا عن تفكير غيره، وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به، ثم لا بد له من استعماله فكره هو بنفسه.
بهذا التفكير الاستقلالي يصل الطالب إلى ما يطمئن له قلبه، ويسمى حقيقة علما، وبه يأمن الوقوع فيما أخطأ فيه غيره، ويحسن التخلص منه إن وقع فيه....
فالتفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد وخير منهما الجاهل البسيط »(59)
ولم يكتف الإمام عبد الحميد بن باديس بالدعوة النظرية للاجتهاد، وذم التقليد، بل كانت نزعة الاجتهاد بادية في الفتاوى التي كان يفتي بها سائليه، إذ لم يكن يكتف بنقل الأقوال من الكتب الفقهيه المعتمدة كما جرت بذلك عادة المتأخرين من الفقهاء الذين سيطر عليهم التقليد، وكانوا يهابون أن يخالفوا ما هو موجود في كتب المتقدمين، بل كان رحمه الله يفحص الأقوال، وينظر إلى العلل والمقاصد التي بُنيت عليها الأحكام.
ولا يتوقف عند حدود الألفاظ من ذلك إجابته على السؤال التالي: « هل يجوز كراء الأسواق العامّة وأخذ ثمن الدخول على أرباب المواشي والسلع؟ ».
فكان جوابه:
المعروف أنّ هذه الأسواق هي ملك للبلدية وإذا قلنا هي ملك للبلدية فهي ملك للعامة التي تنوب عنها البلدية، فللبلدية أن تبيع منفعتها بثمن معلوم فيجوز اكتراؤها منها كذلك، ويجوز للمكتري أن يكري الانتفاع بها كذلك فيجوز له أن يأخذ على كل داخل لماشيته أو سلعته أجرا في مقابل انتفاع ذلك الداخل بالمكان الذي يحل فيه والذي هو مملوك المنفعة لصاحب السوق، ونظيره من اكترى اصطبلا ثم يأخذ على أرباب المواشي أجرة بقاء مواشيهم في اصطبله مدة محدودة (60).
ورغم وضوح الفتوى، وتأسيسها، إذ عمد الشيخ رحمه الله إلى أن المسألة لا تخرج عن كونها عقد إجارة بثمن معلوم لأجل معلوم، في المرة الأولى حين يكتري شخص السوق من البلدية، وفي المرة الثانية، حين يكريه إلى الأشخاص الداخلين إلى السوق، لبيع المواشي والسّلع، فقد وجد من اعترض على الشيخ في هذه الفتوى، ورأى بأنّ كراء الأسواق من باب المكس المنهي عنه شرعًا، إذ جاء في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود في سننه أنه ÷ قال: « لا يدخل الجنة صاحب مكس»(61)
فعاد الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه اله إلى تناول الموضوع من جديد،وإلى مناقشة الخصوم أو المخالفين له في الرأي، وأوضح بأن الحالة التي أفتى فيها ليست من المكس في شيء، فقال: « وقد كانت الأسواق ملكا مشاعا بين النّاس يقفون فيها بسلعهم فكان أخذ فرد المكس منهم ظلمًا لهم هذه هي حالة الأسواق في العهد القديم أما اليوم فإن أوضاع الأسواق وغيرها من الأماكن العامة يحتاجون في القيام بمصالحهم المدنية من تنظيف أقنية وإنارة شوارع وتعبيد طرقات ونظام أمن وغير ذلك من المرافق تتولاها المجالس البلدية فكانت البلدية تتصرف في الأسواق التي هي ملك العامة في مصلحة العامة وكانت العامة المالكة لتملك الأسواق قد نوّبت عنها نوابا فوّضت لهم أن يتصرفوا في ممتلكاتها لأجل مصلحتها فأولئك النّواب الذين هم وكلاء العامة هم أعضاء البلدية يعرضون السوق للكراء بالمزاد فيكتريه زيد أو عمر فهذا المكتري قد اكترى شيئا معينا بثمن معين من نوّاب مالكيه وهم العامة فقد وجدت أركان عقد الإجارة كلها فكان هذا العقد لذلك صحيحاً جائزًا »(62).
وهكذا نلاحظ أن الشيخ عبد الحميد ابن باديس لم يتوقف عند حدود الألفاظ، والأعراف القولية، التي تسمى هذه العملية مكسًا وبالتالي فهي حرام، وإنما راح يحقق المناط ويبحث عن العلّة في الفرع المبحوث وهو كراء الأسواق إذا كان مكساً أو ليس مكسًا.كما راح ينقح المناط من خلال تهذيب العلّة وتصفيتها، فوجد بأن العلّة التي حرم المكس من أجلها و هي أخذ أموال الناس بالباطل لا وجود لها هنا، وأخيراً فإنه أعمل القاعدة الفقهية التي تقول: «العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني»(63)
وينتهي إلى أنّ كراء الأسواق هو عقد إجارة بثمن معين إلى زمن معين، تتحقق فيه كل أركان عقد الإجارة، وبالتالي فلا حرج فيه شرعًا.
وقضية أخرى أفتى فيها الشيخ عبد الحميد ابن باديس- رحمه الله- فتوى أبانت عن نزعته الاجتهادية، وعدم التوقف عما هو موجود في كتب الفقه، بل لا بد من الاجتهاد لمواجهة المشكلات، والفتوى في النوازل، فلما جاءه السؤال الأتي: « هل يجوز للمرأة أن تستعمل دواء يمنعها من الحمل لأنها ضعيفة بالمرض؟»
أجاب رحمه الله تعالى بما يلي: « أصل هذه المسألة هو العزل أي عدم إنزال الرجل المني في الفرج وهذا كرهه البعض، والمشهور في المذهب جوازه، بإذن المرأة الحرة لحقها في الوطء، والإنزال من تمام لذتها وفي العزل منع الولادة.
فيقاس عليه شرب الدواء لمنع الولادة فيجوز ما لا يلحق ضرارً بالجسم إذا كان بإذن الزوج لأنّ له حق في الولد وإذا كانت ضعيفة عن الولادة فلا تتوقف على إذنه » (64).
فألحق المسألة المبحوثة وهي تناول الدواء لمنع الحمل بالعزل، لأن الوسيلة التي كانت متاحة لمنع الولادة قديما هي العزل، فتلحق به الوسائل المستحدثة من أدوية وحبوب وغيرها، ولما كان حكم العزل الجواز فحكم هذه الأدوية الجواز كذلك، ولكنه رحمه الله فيّد الجواز بشرطين اثنين وهما:
1- عدم ترتيب أي ضرر على الجسم
2- استئذان الزوج في ذلك، لأنّ للزوج حقَا في الأولاد، واستعمال الزوجة لهذه الأدوية دون استئذانه تفويت لهذا الحق، ويستثنى من هذا الحالة التي تكون فيها الزوجة ضعيفة عن الولادة، فلا يشترط إن الزوج، وأخذ موافقته.
والخلاصة التي ننتهي إليها بعد هذا التجوال في فكر الشيخ ابن باديس التشريعي، وثرائه الفقهي – أنّه كان يملك رؤية واضحة المعالم في تفقيه طلبة العلم، وبناء المجتهد المعاصر، وكيفية ممارسة الفتوى، ما لو أخذنا بها لتجاوزنا الكثير من الزعازع التي تتهددنا.
الهوامش:
17 - آثار الإمام الإبراهيمي، ج2/ ص196.
18- مجالس التذكير، ص 142.
19 - آثار الإمام ابن باديس ج3/ ص240.
20- مجالس التذكير، ص 142،143.
21 - أثار الإمام ابن باديس، ج3/ ص241.
22 - آثار الإمام ابن باديس، ج3/ص 255.
23- آثار الإمام ابن باديس ج3/ ص304.
24- بداية المجتهد، ابن رشد ج1/ ص160.
25- الدرر البهية، ج1/ ص134.
26- بداية المجتهد ج1/ ص159، وانظر كلام الشيخ أحمد محمد شاكر في التعليق على صاحب الروضة السابق، في ج1/ ص 136
27- مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص 56.
28 - مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص 175.
29 - سورة البقرة، الآية 238.
30 - حاشية العدوي، ج1، ص 212.
31 - نفسه ج1، ص 212.
32 - نفسه ج1، ص 212.
33 - أنظر هذه الأحاديث وتخريجها في نيل الأوطار ج2، ص 35 وما بعدها .
34 - سنن النسائي
35 - الموطأ شرح الزرقاني ج1، ص 283.
36- نفسه ج1، ص 283.
37 - نفسه ج1، ص 283 وما بعدها.
38 - المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، ج1 ص 212.
39 - آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس، ج4 ص 60.
40 - الفقه الإسلامي المقارن، مع المذاهب، د. فتحي الدريني ، ص 5، مطبعة جامعة دمشق 179.
41 - آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس، ج 3 ص 124-125
42 - أثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 3 ص 257.
43 - شرح زروق على الرّسالة ج2، ص 382.
44- بداية المجتهد، ج1، ص322.
45 - سورة المائدة، الآية 3.
46- بداية المجتهد، ج1/ ص322.
47- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج6/ص50.
48 - أثار الإمام عبد الحميد ابن باديس ج5، ص 452.
49 - آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 5 ص 449.
50 - سورة المائدة، الآية 55.
51 - آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس، ج 5، ص 88.
52 - الشهاب ج8،مجلد12، 1936م.
53 - سورة المؤمنون، الآية 52.
54 - سورة آل عمران ، الآية 103.
55 - آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، ج 5 ص 156.
56 - سورة الفرقان، الآية 1
57 - سورة ألأنعام، الآية 19.
58 - آثار الأستاذ الإمام عبد الحميد ابن باديس ج5/ص 38.
59 - آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس ج3/ص 91.
60 - آثار الأستاذ الإمام عبد الحميد ابن باديس ج 3/ ص256.
61 - سنن أبي داود.
62- آثار الإمام ابن باديس ج 3/ ص 260.
63 - شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقاء، ص 13.
64 - آثار الإمام عبد الحميد ابن باديس ج 3/ ص 258.