الشيخ عثمان بن المكي التوزري ورسالته: «المرآة لإظهار الضلالات»
بقلم: سمير سمراد –
«سُوف» و بلاد «الجريد» اسمٌ لمقاطعَتَيْن كبيرتَيْن تقعان جنوبَ تونس وشرق ضاحية قسنطينة، يحتويان على واحات كثيرة ومدن... «الجريد» هي المقاطعة المعروفة على خريطة إفريقيا ببلاد الجريد أي بلاد التُّمور، وهي التَّسمية الحقيقيَّة لبلاد الجريد.
وكلمة «الجريد» تعني العرجون، أمَّا كلمة «سوف» فتعني الأراضي الدَّفئة الَّتي تتوسَّط المناطق الصَّخرية والمناطق الرَّمليَّة...»(1).
««الجريد»: منطقة توجد بالجنوب الغربي من الجمهوريَّة التُّونسيَّة وعلى الحدود الجزائريَّة اشتهرت بواحات نخيلها وبأهمِّيتها التَّاريخيَّة، لها كثير من العلماء والأدباء، كما أنَّ أهلها كثيرُو الزِّيارة للبلاد الجزائريَّة»(2).
أمَّا «نَفْطَة»: ثاني مدينة في بلاد الجريد بعد عاصمتها «توزر»، فـ«هي البلاد الثَّانية في المنطقة الجريديَّة عُرِفَ أهلُها بالذَّكاء والفطنة.. وقد اشتهرت بفطاحل العلماء، والأدباء...»(3)، وكانت «مقرًّا للعلم والعلماء، فكانت تلقَّب ـ ومنذ أمد بعيد ـ بالكوفة الصُّغرى... ويوجد بهذه البلدة أيضًا عددٌ كبير من الجوامع والمساجد يتجاوز الأربعين كانت أغلبها مواطنَ عِلْمٍ يُتْلى فيها كتاب الله، وتلقى فيها دروس الفقه والحديث واللُّغة والأدب، ويجتمع فيها العلماء للتَّباحث والمناظرة، وكان يسكن في البيوت الَّتي تحيط بالمساجد طلاَّب العلم الَّذين كانوا يتوافدون من الجزائر خاصَّة ومن عدد من أنحاء البلاد التُّونسيَّة للتَّحصيل والدَّرس...»(4)، ومن الَّذين سافروا إلى «توزر» للدِّراسة والتَّحصيل من الجزائريِّين: الشَّيخ عمَّار الأزعر، والشَّيخ عبد القادر الياجوري، وهما من «قمار»؛ من قرى «سوف».
«إنَّ العلاقة بين سكَّان بلدة «نفطة»... وسكَّان القرى والمدن الموجودة جنوب البلاد الجزائريَّة علاقة متينة جدًّا تتجاوز الجوار إلى النَّسب والمصاهرة، ...فكم من عائلة تونسيَّة من هذه البلدة استقرَّت بالجنوب الجزائري وخاصَّة بمناطق الواحات، ويكفي أن نذكر أنَّ فترات من التَّاريخ هي مشتركة بين المنطقتين... ولذلك فإنَّه يمكن لأيِّ ساكن من «نَفْطَة» أن يزور الجنوب الجزائري دون مشقَّة ولا عناء؛ لأنَّه يجد من يكفله مدَّةً لإقامته وكذلك الشَّأن بالنِّسبة إلى زيارة المواطنين الجزائريِّين إلى هذه البلدة وإلى سائر مناطق الجريد وخاصَّة أثناء فصل الخريف لشراء «التمور» مبادلة بالقمح والزَّيت والعسل وصوف الأغنام ووبر الإبل»(5).
وقال أحد الكتَّاب عن «سوف»: «هو اسم الوطن، ويشتمل على عدَّة قرى عربيَّة، وعاصمتها بلدة الوادي... وكلُّ وطن وادي سوف من عمالة قسنطينة الجزائر ومجاوره من النَّاحية الشَّرقيَّة وطن الجريد التَّابع للقطر التُّونسي...»، وقال عن «عاصمة سوف»: «هي بلدة الوادي... ولبلدة الوادي مواصلات يوميَّة تربطها ببلدة «بسكرة» و«تقرت» من ناحية وتربطها بوطن الجريد التُّونسي من ناحيتها الشَّرقيَّة...»(6).
وانظر: كتاب «الجديد في أدب الجريد» لأحمد البختري (الباب الأوَّل: في التَّعريف بالبلاد الجريديَّة الَّتي من أهمِّ مدنها: توزر ـ نفطة...)، وفيه (ص41): «...وتميز تَوْزر إفريقيَّة بالتَّمر يخرج منها في أكثر الأيَّام بالقناطير المقنطرة فيتفرَّق في نواحي كثيرة من بلاد العالم، وتَوْزر هذه تشتمل على سبعة مشائخ تراب [بمعنى: عشائر]، وهي: مسغونة، القيطنة، أولاد الهادف، بلد الحضر، الهبائلة، الشَّابيَّة، الزبدة...».
* مَنْ هو الشَّيخ «عثمان بن المكي»؟
وفي (الباب الثَّاني: في الحديث على طبقات الرِّجال المتقدِّمين في الفقه الإسلامي مع ذكر مؤلَّفاتهم...»، أورد ترجمة «عثمان بن المكي: خادم العلم الشَّريف»، قال فيها (ص150 ـ 151): «هو أبو الشُّيوخ، وطود الرُّسوخ، الأستاذ الأكبر، والمؤلِّف الأشهر، عثمان بن المكِّي الزَّبيدي التَّوزري...» إلخ.
وعرَّفه صاحب كتاب «تراجم المؤلِّفين التُّونسيَِّين» بقوله: «عثمان بن المكِّي الزَّبيدي (نسبة إلى عرش الزبدة بتوزر) التَّوزري، من أعلام جامع الزَّيتونة، عمَّر وتخرَّج به الكثيرون». اهـ، و لم يذكر سنة مولده؟
وقد استدركت ذلك من التَّرجمة الَّتي كتبها «د.أرنولد هـ.قرين» في كتابه «العلماء التُّونسيُّون 1873 /1915»، ألَّفه بالإنجليزيَّة، وترجمه «حفناوي عمايريَّة وأسماء معلَّى/ دار سحنون للنَّشر والتَّوزيع، ط1. 1416هـ ـ 1995م»، قال (ص339): «ابن المكِّي، عثمان بن بلقاسم ابن المكِّي بلوزة، ولد في حوالي 1850 بتوزر، وهو ابن مالك عقاري ومزارع... بعد الدِّراسة بجامع الزَّيتونة اشتغل قاضيًا بتوزر من 18844 إلى 1885...».
وفي «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين» (1 /197) قال: «...خدم الجنديَّة قبل عصر الاحتلال(7)، وكان يثني عليها في دروسه بأنَّها تعلِّم النَّشاط والاعتماد على النَّفس، وبعد تخرُّجه من جامع الزَّيتونة تولَّى القضاء ببلدة توزر قبل أن يصير مدرِّسا بجامع الزَّيتونة، وبعد الاحتلال الفرنسي بمدَّة قليلة بينما كان ذات يوم بالمحكمة أَتَوْهُ بضابط فرنسي شاب يشتكون منه بأنَّه زنى، ويطلبون تنفيذ الحكم الشَّرعي عليه، فأذن بإقامة الحدِّ عليه جلدًا في ساحة المحكمة.
وبعد التَّنفيذ أدرك خطورة الموقف فبارح المحكمة متوجِّهًا إلى داره وتزوَّد وامتطى صهوة جواده وعزم على السَّفر إلى العاصمة تونس وبعد هنيهة امتلأت ساحة المحكمة بالضبَّاط الفرنسيِّين سائلين عن القاضي فأجيبوا بأنَّه خرج ولا يدرون أين ذهب، ولمَّا وصل إلى تونس قصد منزل شيخه ورئيسه قاضي الجماعة الشَّيخ محمَّد الطَّاهر النِّيفر الَّذي رحَّب به وسأله عن سبب قدومه فحكى له الواقعة، وطلب منه بذل الجهد لإنقاذه من هذه الورطة فوعده خيرًا وبأنَّه في أوَّل مقابلة له مع الباي يسوِّي المشكلة بحول الله، وبرَّ الشَّيخ بوعده وقال للباي: لي قضيَّة أرجو من مكارمكم التَّفضُّل بفضِّها فأجابه الباي: إنْ كان ذلك في مقدوري لا أبخل وهات ما عندك، فقال له: قضيَّة قاضي توزر، فأجابه بأنَّ الفرنسيِّين جادُّون في البحث عنه وعلى كلِّ حال أبذل ما في الوسع لنجاته، وسوّيت القضيَّة وتُنُوسِيَتْ وفي أوَّل فرصة أعلم الباي قاضي الجماعة بما تمَّ، فطلب منه التَّفكير في ضمان مورد رزقه فأجابه مستفسرًا وكيف ذلك؟ فقال له بتوليته مدرِّسًا بجامع الزَّيتونة فوافق الباي على هذا الاقتراح، وصار المترجم له مدرِّسًا».
أمَّا الإنجليزي «أرنولد» فيقول: «...ثمَّ عاد إلى تونس حيث صار عدلاً في 1887، وفي 1893 سمِّي مدرِّسًا بالمدرسة الأندلسية، وفي 1897 أصبح مدرِّسًا مالكيًّا من الطَّبقة الثَّانية بجامع الزَّيتونة، وارتقى إلى مرتبة الطَّبقة الأولى في 1921» اهـ، «وقد قضى عثمان بن المكِّي عشر سنوات في رتبة متطوِّع وستّ عشرة سنة مدرِّسًا من الطَّبقة الثَّانية،...»(8)، «ولم يتولَّ التَّدريس من الطَّبقة الأولى إلاَّ في المرحلة الأخيرة من حياته...»(9).
وقد تتبَّع الإنجليزي «أرنولد» سيرة الشَّيخ الشَّخصيَّة، وذكر ما لم يذكره غيره، من ذلك ـ أثناء حديثه عن العلماء الآفاقيِّين، المدرِّسين بجامع الزَّيتونة، وعن وضعيتهم الاجتماعية ـ قال (ص99): «...يروى أنَّ عائلات ثلاثة شيوخ آفاقيين على الأقل (و ذكر منهم: عثمان بن المكي) كانت لها أملاك ذات شأن...»، وعندما تحدَّث عن بعض هؤلاء وعن مساكنهم الفخمة، قال (ص114): «بينما كان الشَّيخ عثمان بن المكِّي يملك منزلاً واحدًا بضاحية رادس...»، وقال (ص121): «...وكان كلُّ شيخ آفاقي تمكَّن من الدُّخول في سلك علماء تونس يسنده عمدة يعود إليه الفضل في نجاحه إلى حدٍّ ما... كما كان عثمان بن المكِّي يحميه الجنرال عبَّاس آغا (عديله أي زوج لأخت زوجته)...»(10)، بل إنَّه ذكر أسماء زوجاته الثَّلاث ووضعيَّة عائلاتهنَّ، وأسماء أبنائه، ووظائفهم، وأسماء زوجاتهم، ووظائف آبائهنَّ!! وأسماء بناته وأسماء أزواجهنّ!!... ونقتصر هنا على علاقته بالجزائريِّين، قال: «أنجب خمسة أبناء وبنتين هم... محبوبة [تزوَّجت من رجل أعمال جزائري مقيم في تونس]» اهـ.
* مُجَاهرتُه بإنكار البدع الفاشية:
يذكر الإنجليزي «أرنولد» ـ عن الوضعيَّة الدِّينيَّة في أوَّل القرن الماضي ـ (ص84): أنَّ «العلماء كادوا يجمعون على مساندة الطُّرق»، وقال (ص82):
«حتَّى أولئك العلماء الَّذين ساندوا حركة التَّنظيمات الإصلاحيَّة في القرن التَّاسع عشر فإنَّهم لم ينتقدوا عادة الطُّرق الصُّوفيَّة الشَّعبيَّة».
ويقول (ص84 ـ 85) تحت فصل (العلماء والطُّرق الصُّوفيَّة): «...وأخيرًا فإنَّ المجموعة المحدودة من العلماء ـ والَّتي تشمل الشُّيوخ: سالم بوحاجب وعثمان بن المكِّي والطَّاهر بن عاشور ومحمَّد النّخلي ـ وقد تبنَّت موقفًا سلفيًّا (معاديًا للصُّوفيَّة) خلال العقد السَّابق للحرب العالميَّة الأولى، كانت تتوخَّى الحذر في أحكامها المعلنة، وكان كتاب «المرآة لإظهار الضَّلالات»(1330هـ/19122م) للشَّيخ ابن المكِّي المثال الوحيد للنَّقد الصَّريح للصُّوفيَّة بقلم عالم تونسي قبل الحرب العالميَّة الأولى، وبعبارة أخرى لم يقم العلماء التُّونسيُّون بأيِّ حملة حقيقيَّة ضدَّ الصُّوفيَّة قبل العقد الثَّالث من القرن العشرين، وإلى غاية ذلك التَّاريخ استمرَّ التَّعايش التَّقليدي بين السُّنَّة والتَّصوُّف قائمًا على مستوى المؤسَّسات والأفكار» اهـ.
وقال صاحب «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين» (1 /197): «وكان يقرئ بنصح وبأسلوب يدني الصَّعب إلى الإفهام، ولكنَّه كان صريحًا، يتعرَّض في دروسه لدعاوى بعضهم...».
وقد وصفه الشَّيخ أحمد حمَّاني، وهو يذكر شيوخ الأديب الكبير المعمِّر «موسى الأحمدي نويوات» الجزائري، بقوله: «...والشَّيخ عثمان بلمكِّي التَّوزري وهو ممَّن أعلن الحرب على البدع والضَّلالات،...»(11).
وذكره تلميذه: الشَّاعر الأديب النَّاقد حمزة بوكوشة، وهو يتكلَّم عن روح النَّقد والانتقاد، الَّتي تعلَّموها من جامع الزَّيتونة، وذلك أثناء معركة قلميَّة جرت بينه وبين بعض تلاميذ الشَّيخ ابن باديس ـ بعد أن انتقد شيخَهُمْ! ـ، حيثُ فَهِمَ منهم (أي: التَّلاميذ) عبارات، مفادُها أنَّ حريَّة الفكر، والانتقاد على الشُّيوخ وليدة الجامع الأخضر، وخصوصيَّة لتلاميذ ابن باديس، لا عهد لتلاميذ الزَّيتونة بها؟! قال: «...أمَّا ما توهَّمه الكاتب من أنَّه لم يعهد من تلامذة الزَّيتونة انتقادًا على شيوخهم فهو رجم بالغيب... ومن الَّذي ينكر مواقف أستاذنا الشَّيخ «عثمان بن المكِّي»رحمه الله في الانتقاد حتَّى على الشَّيخ ابن عاشور نفسه، وإنكار المحدثات والبدع بالقلم واللِّسان قبل نزول مدرِّس الجامع الأخضر إلى الميدان وبعد...»(12).
* الشَّيخ «ابن المكِّي» بقلم تلاميذه الجزائريِّين:
ممَّن ذكر الشَّيخ «عثمان بن المكِّي» منْ تلاميذه منَ الجزائريِّين:
* الشَّيخ عمَّار الأزعر القماري السُّوفي: فقد درس في جامع الزَّيتونة (من سنة 1334هـ إلى سنة 1343هـ).
يقول في ترجمته لنفسه(13): «ومن فضل الله عليَّ أنِّي أدركت الكبار من هؤلاء العلماء... منهم الشَّيخ عثمان بن المكِّي التَّوزري قرأت عليه بعضًا من العاصميَّة وله عليها شرح كبير يُنْتَفَعُ به وله عدَّة تآليف في عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة منها «المرآة في إظهار أهل الضَّلالات» وكتب أخرى من هذا القبيل، ودروسه عامرة بالدَّعوة إلى التَّوحيد وإظهار طريقة السَّلف...» اهـ.
* الشَّيخ موسى الأحمدي نويوات: الَّذي يصف الشَّيخ «عثمان بن المكِّي»: «بأنَّه كان رجلاً صالحًا... وكان يعطف عليَّ لفقري، وقد صحَّحت معه شواهد كتاب «قطر النَّدى وَبَلُّ الصَّدى لابن هشام» فقال لي: أتأخذ المخطوطة أم المطبوعة؟ وقبل إجابته ناولني الأوراق المطبوعة وقال: الأصل للأصل، والفرع للفرع. مكثنا في تونس أربع سنوات، وكنت أنا وزميلي،نستشيره عند إتمام الدِّراسة ونقول له: إنَّنا لن نعود في السَّنة الآتية، فيقول لنا: ستعودان إن شاء الله، وهكذا يقول لنا في السَّنوات الثَّلاثة حينما نستشيره، وفي السَّنة الرَّابعة الَّتي توفي فيها قال لنا: عندما استشرناه: روحَا تصحبكما السَّلامة!»(14).
- نصُّ إجازة الشَّيخ «ابن المكِّي» لتلميذه «موسى الأحمدي نويوات»:
«وقد أجيز الأحمدي من شيخه عثمان ابن المكِّي التَّوزري جريًا على عادة ذاك الزَّمن في إعطاء إجازات التَّأهُّل والتَّحصيل، وقد جاء في هذه الإجازة ما نصُّه:
«الحمد لله الَّذي جعل الإجازة سلم سعادة الدِّين، وسبب بثِّ العلوم الشَّرعيَّة، ورسوخها ما كان بالسَّند، والصَّلاة والسَّلام على الواسطة العظمى، سيِّدنا محمَّد ﷺ، صاحب المقام الأسمى، والجناب الأحمى، وعلى الصَّفوة الأخيار، وآله الخِيَرة الأبرار، وأصحابه المبلِّغين، ما حفظوا من أقواله وأفعاله، أمَّا بعد: فإنَّه لَمَّا كان العلم أمانة، والتَّحلِّي به تلزمه الصِّيانة، والتَّباعد عن الخيانة ركب الجهابذة من الأمَّة في طلب تحصيله كلّ صعب وذلول، وبذلوا الوسع في إدراك المعقول منه والمنقول، وإنَّ ممَّن جدَّ في نيل هذا الفضل، وفارق للاتِّصاف به الوطن والأهل، الفقيه الفاضل الزَّكِّيُّ المشارك «نويوات السَّيِّد موسى ابن الحاج محمَّد بن الملياني الأحمدي الدرَّاجي»، وثابر على القراءة وواظب على مجالس العلم، واستمرَّ فظفر، بما قدّر له تحصيله منه، ولم تقصر به ما ناله عن مرتبة الإرشاد والأخذ عنه، و لَمَّا عزم على الرُّجوع إلى بلده، ومنبت أصوله وسلفه، التمس منِّي إجازة عامَّة ـ على ما عليه السُّنَّة بين علماء الشَّريعة ـ الَّتي هي من خصيصة هذه الأمَّة الرَّفيعة، فأقول: «قد أجزت لهذا الفاضل، في كلِّ ما تصحُّ روايتي عنِّي، سواء ما سمعه عنِّي أو لم يسمعه، على الشَّرط المقرَّر المبسوط في كتب إجازات الأئمَّة، كما أجازني في ذلك، مولانا الإمام، العلم الهمام، الشَّيخ: «سيدي محمَّد الطَّيِّب النّيفر الباش مفتي المالكيَّة» وهو عن شيخه السيِّد «أحمد زيني» شيخ العلماء بالحرم الشَّريف المكِّي ـ زاده الله تشريفًا وتعظيمًا ـ، وهو عن شيخ الشُّيوخ بالحرمين السَّيِّد «عثمان الدمياطي»، وهو عن شيخه خاتمة المحقِّقين محمَّد الأمير الكبير، وأنَّ المجاز المذكور يوصى في ذلك بما أوصى به الله تعالى في محكم كتابه بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ الله ...﴾[النساء:131]عاملاً عند تعليمه وجوابه عمَّا سُئل عنه بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ﴾ أي و لا تقل، ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿... مَسْؤُولا﴾ [الإسراء:36] وأن لا ينساني من صالح دعواته في مظانِّ الإجابة جزاءً لما عليَّ من الحقِّ، والله يبلِّغ كلَّ واحد منَّا من الخير مناه، ويجعل أبرك أيَّامنا وأسعدها يوم لقاه، بجاه(15) سيِّدنا محمَّد رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم.
قاله وكتبه: فقير ربِّه «عثمان بن بلقاسم ابن المكِّي» عرف بعثمان ابن المكي، في ذي الحجة الحرام خاتم شهور ثمانيَّة وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة النَّبويَّة على صاحبها أفضل الصَّلاة وأزكى التَّحيَّات»(16).
ومن تلاميذه،الذين أثَّرَ فيهم، فساروا على خطته الإصلاحية،في انتقاد البدع:
- الشَّيخ العلاَّمة العربي التَّبسِّي رحمه الله، الَّذي التحق بالجامعة الزَّيتونيَّة في عام 1332هـ، آخر عام 1913م، ومكث بها سبع سنين إلى عام 1338هـ/1920م، قبل أن يرحل إلى الأزهر بمصر، وقد لحق به بعد ذلك الشَّيخ مبارك الميلي (سنة1338هـ/ 1919م ـ 1925م)، وقد كان الأوَّلُ ملازمًا للشَّيخ «ابن المكي» على ما ذكره «محمد دبُّوز»، قال(17):
«...وكان من الأساتذة البارعين في الجامعة الزَّيتونيَّة في ذلك العهد العلماء الأعلام (وذكرهم، ومنهم)... الشَّيخ عثمان بن المكي،...».
ثمَّ قال عن الشَّيخ العربي: «وكان أساتذته لإعجابهم بصلاحه وبرِّه العظيم بهم، وبجِدِّه وتقدُّمه في العلم، ولسنِّه أيضًا وما أورثه من النُّضوج، يحبُّونه حبًّا جمًّا، ويرونه صديقهم فيقرِّبونه، فيزورونه في بيته، ويحضرونه مجالسهم الخاصة، وكان من مشايخه هؤلاء الشَّيخ عثمان بن المكِّي الأستاذ المصلح الغيور الاجتماعي، وكان العربي وزملاؤه النُّجباء الصَّالحون شديدي الصِّلة به خارج الدَّرس، يجتمعون به كثيرًا فيوجِّههم في التَّعلُّم، ويغرس فيهم عقيدة الإصلاح، ويريهم ما يجب عليهم في المستقبل من جهاد طويل مرير لإصلاح المغرب وتحريره، وقد نال العربي من مجالسه فوائد عظيمة، وهو يعدُّه صديقه وأحسن من غرس فيه العقيدة الإصلاحيَّة في تونس» اهـ.
* مراسلة علماء «سوف» للشَّيخ «ابن المكِّي»:
وقد كانت شهرة الشَّيخ «ابن المكي»، وصِيته قد بلغَا إلى منطقة «الجريد الجزائري»: «سوف» و«بسكرة»، وكان الفقهاء والقضاة «في وادي سوف يبعثون إلى علماء الجريد وتونس العاصمة»، ويراسلونهم «للاستعانة بآرائهم في أحكامهم إذا كانت ممَّا يستوجب ذلك، كمراسلتهم... عثمان بن المكِّي»، هذا ما ذكره أبو القاسم سعد الله(18)، وقال معلِّقًا: «بعض أخبار ذلك عند الشَّيخ محمَّد الطَّاهر التليلي في قمار» اهـ(19).
* وفاته:
يقول الإنجليزي «أرنولد»: «توفي في 6 جوان 1931»، وذكر صاحب «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين» أنَّ سنة وفاته في (1348هـ/1930م»، أمَّا صاحب كتاب «الجديد في أدب الجريد»، فقال:
«توفي رحمه الله عام 1350 خمسون وثلاثمائة وألف هجرية الموافق عام 1930 ميلادية».
والصَّواب ـ بعد التَّأمُّل ـ ما ذكره الإنجليزي «أرنولد»، ويبدو أنَّ مصدره في ذلك هو حفيد الشَّيخ، والتَّاريخُ الَّذي ذكره: يوافق سنة (1350هـ)، كما ذكر صاحب «الجديد في أدب الجريد».
وإنَّما أخطأ هذا الأخير في تقدير السَّنة بتاريخ النَّصارى!... ويؤيِّد ما ذكرتُ تواريخُ نشر المراثي الَّتي قيلت في إثر وفاته، وسيأتي بعضٌ منها ـ قريبًا ـ.
* مؤلَّفاته:
وقبل سرد ما تيسَّر الوقوف عليه منها، أذكر أنَّ كثيرًا ممَّن ترجموا للشَّيخ من المتأخِّرين، لم يهتدوا لتاريخ وفاته، فقدَّرُوا ذلك، بناءً على آخر ما وقفوا عليه من مؤلَّفاته، الَّتي في آخرها غالبًا، ذكرُ تاريخ الفراغ من تأليفها، فمنهم مقاربٌ ومباعدٌ.
فهذا صاحب «معجم المؤلِّفين» يكتفي بقوله: «كان حيًّا سنة 1312هـ، ومن آثاره: «معالم الاهتدا شرح قطر النَّدى وبل الصَّدى» في النَّحو، فرغ من تأليفه في 15 جمادى الثَّانية سنة 1312هـ» اهـ.
وتعقَّبه الشَّيخ علي الحلبي بقوله في مقدِّمة تحقيقه ونشره لكتابه «القلائد العنبرية على المنظومة البيقونيَّة» [دار ابن عفَّان ـ ط3/ 1423هـ/ 2002م]: «...ولم يذكر كتابنا هذا! ولم يشر إليه!!» اهـ.
ولقد أثبت الشَّيخ عليٌّ على غلاف طبعته تاريخ وفاة المترجم له بقوله: «المتوفى بعد سنة «1330هـ» رحمه الله»، وهذا بناءً على أنَّ تاريخ الفراغ من تأليف «القلائد العنبرية» كان «في رابع جمادى الثَّانية من عام تسعة وعشرين وثلاث مئة وألف هجريَّة»، وطبعت في المطبعة التُّونسيَّة بتونس سنة 1330هـ!! ولكن ظهر للشَّيخ عثمان مؤلّفٌ آخر؛ وهو «المرآة لإظهار الضَّلالات» طبع في المطبعة التُّونسيَّة سنة 1330هـ، وأعادت طبعه «دار الوطن» بتصحيح وتعليق الشَّيخ عبد الله البرَّاك [ط.1/ 1420هـ/ 2000م]، وكان الفراغ من تأليف هذه الرِّسالة «في السَّابع والعشرين من شهر رمضان المعظَّم من عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف»، ولقد نقل المحقِّق «البرَّاك» في ترجمة المؤلِّف، ما ذكره الزِّركلي في «الأعلام» (4 /212) [وهو ممَّا فاتَ الشَّيخَ عليًّا ذكرُهُ!] من أنَّ «له: «توضيح الأحكام على تحفة الحكَّام» مطبوع، فرغ من تأليفه سنة 1338هـ،...»، ثمَّ قال المحقِّق «البرَّاك» ـ بناءً على ذلك ـ: «توفي بعد سنة 1338هـ»(20).
ففي هذا زيادةٌ على ما ذكره الشَّيخ الحلبي من أنَّه توفي بعد سنة 1330هـ!... وكنت قد جريتُ قديمًا على هذه الطَّريقة، فأثبتُّ ـ بناءً على ما وقفتُ عليه من تحديد السَّنوات الَّتي قضاها «موسى الأحمدي» في الزَّيتونة [من 1929 إلى 1932م!] ـ على ما ذكره أحمد حمَّاني ـ؛ ملازمًا للشَّيخ «ابن المكِّي»، أنَّهُ: كان حيًّا سنة 1348هـ، وربَّما عاش إلى سنة 1351هـ!!.. وبعدُ: فقد أغنانا وقوفُنَا على تاريخ وفاته بالتَّحديد، عن التَّقدير والمقاربة، والحمد لله.
- وهذا سردٌ لمؤلَّفاته:
* «معالم الاهتدا شرح قطر النَّدى وبلّ الصَّدى» في النَّحو: فرغ من تأليفه في 15 جمادى الثَّانية سنة 13122هـ.
* «القلائد العنبرية على المنظومة البيقونيَّة»: فرغ من تأليفه في 4 جمادى الثَّانية من عام 1329هـ.
* «المرآة لإظهار الضَّلالات»: فرغ من تأليفه في 27 رمضان من عام 1329هـ. [وكانت أوَّل طبعة له، على ما ذكره «أرنولد» في سنة 1330هـ/ 1912م، ثمَّ تعدَّدت طبعاته ـ على ما أشار إليه «بوكوشة»، فيما يأتي ـ، ومن ذلك ما ذكره صاحب «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين» (1 /198) بقوله بعد ذكر الرِّسالة: «تونس1344هـ/24ص، في مقاومة البدع والمنكرات».
* «توضيح الأحكام على تحفة الحكَّام»: «وهو شرح على «تحفة الحكَّام» لابن عاصم في الفقه المالكي في القضاء وتوابعه، ط. بالمطبعة التُّونسيَّة بتونس سنة 1339هـ في أربعة أجزاء وهو أكبر مؤلَّفاته»: فرغ من تأليفه سنة 1338هـ، وقد تقدَّم نقلُ ثناءِ الشَّيخ «عمَّار الأزعر» على هذا التَّأليف، وقد سألتُ الشَّيخ «الطَّاهر آيت علجت» [صباح يوم الأحد 22 شوال 1425هـ] ـ وهو زيتونيٌّ(21) ـ عنه، فأخبرني أنَّه كان يملك الأجزاء الأربعة منه، ثمَّ ضاعت إلاَّ جزءً واحدًا، أثناء ثورة التَّحرير الجزائريَّة، وقد ذكر لي كذلك: أنَّ من مؤلَّفات (ابن المكِّي): «شرح على إيساغوجي» في المنطق؟
* «الهداية لأهل البيان» في فقه مالك؟ [ذكره لهُ الزِّركلي في «الأعلام»].
* «الحلل على نظم المجرادية في الجمل»: طبع بالمطبعة التُّونسيَّة ـ تونس سنة 1347هـ، [وقفتُ على نسخةٍ منه في المكتبة الوطنية ـ الجزائر]، يقول في أوَّله (ص2): «...فهذا شرح مختصر لطيف مهذَّب على منظومة الشَّيخ أبي عبد الله محمَّد بن محمَّد بن عمران الشَّهير بالمجرادي في قواعد الإعراب المعروفة بالمجرادية سمَّيته...»، ويقول في آخره (ص32): «...قلت: وهو أوَّل كتاب قرأته وانتفعت به في «نفطة» عام أربعة وتسعين ومائتين وألف ولله الحمد اهـ» اهـ(22).
وهناك مؤلَّفات ذكرها صاحب «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين»، وهي:
* «شرح السَّمرقنديَّة في الاستعارات»،ط. تونس.
* «المسكة الفائحة في الأعمال الصَّالحة»، ط. تونس.
وقد كان هذا الكتاب من عُدَدِ المصلحين الجزائريِّين، لردِّ البدع وقمعها بالححج، فهذا تلميذُ المترجم «موسى الأحمدي»، يذكر لنا ما حصل معه في قريته،إذ استدرجه رجالات الطُّرقيَّة فيها إلى مجلسٍ، ليوقعوا به، يقول: «وكان قد أخبرني بذلك أحد تلامذتي، فقلت له: طالع كتاب ابن الحاج، و«الاعتصام» للشاطبي، و«الباعث في إنكار البدع والحوادث» لأبي شامة، و«الزَّواجر» لابن حجر، و«المسكة الفائحة في الأعمال الصَّالحة» للشَّيخ عثمان بن المكِّي التَّوزري...»، ثمَّ كان الاجتماع، وأفحم «الأحمدي» ورفيقُه، أشياخَ الطُّرقيَّة، وعارضوهم بالحجج الدَّامغة(23).
3«مجموعة من الأحاديث النَّبويَّة» (تونس).
3 «النِّبراس لرفع الالتباس على من كان من أشباه النَّاس في نازلة نكاح التياس»: رسالة ألَّفها سنة 1328هـ، منها مخطوطة في مكتبة الأخ الأستاذ السَّيِّد محمَّد الطَّيِّب بسيس (وهو الَّذي كاتبني بهذه الإفادات مشكورًا»» اهـ.
وقد أشار الشَّاعر التَّوزري إبراهيم بن سالم في مرثيَّته للشَّيخ، إلى إحدى مؤلَّفاته بقوله:
على الدِّينِ مُـسْـتَـوْلَى النِّـضَالُ مُقاوِمًا
إلى «البدعِ» الدَّهْمَا «بِمنْظُومَةِ الجَهْرِ»(24)
* «رثاءُ الشَّيخ حمزة بوكوشة لشيخه ابن المكي»:
نُشِر الرثاء في جريدة «النَّجاح» [العدد (1183): 6 ربيع الأول 1350هـ/ 22 جوليت 1931م، (ص3)]، تحت عنوان: «مات صاحب المرآة، فهنيئًا لأهل الضَّلالات»:
هـنـيـئًـا لـهـم فـليأمنوا كلَّ صائح
فقد أسكت الصَّوت الَّذي كان عاليًا
كادت نفسي تذهب حسرات عندما قرأت بجريدة «الزَّهرة» نعي أستاذنا المنعم الشَّيخ عثمان بن المكِّي ذلك الفقيد الرَّاحل الَّذي قضى حياته من لدن شبَّ حتَّى شاب بين تدريس وتأليف وإن كان قد تقلَّدَ خطَّة قضاء الجريد ردْحًا من الزَّمن لكنَّه تنازل عنها لما رآها فقدت الحريَّة في تنفيذ الأحكام، لا سيما على الحكَّام، وتلك الخطَّة أشرف خطَّة في الإسلام، لا ترضخ لأحدٍ أيًّا كان، كما قال عليه السلام: «لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَمِينَهَا»، وقد اتَّفق حسبما قصَّ عليَّ أحدُ مواطني الأستاذ أيَّام كنت بالكليَّة الزَّيتونيَّة أنَّ أحد المتوظِّفين بالجريد عهد تولية الأستاذ القضاء بها وجب عليه حدّ فحدَّه الأستاذ رغمًا فاشتكى للمراقب فأعفاه من القضاء فولَّى وجهه شطر المهد المعمور وتطوَّع بدروس للنَّاشئة إلى أن تقلَّد خطَّة التَّدريس الثَّانية ولم يزل مواليًا المشاركة في مرتبة التَّدريس الأولى حتَّى تأهََّل تلاميذه لمزاحمته فيها فأشار عليهم تلميذه الأستاذ محمَّد الزغواني بالتَّنازل له عنها فتنازلوا عنها وارتقى منصتها الفقيد حيث تعيَّنت عليه وكاد أن لا يوجد تلميذ بالكليَّة الزَّيتونيَّة إلاَّ وهو تلميذ للأستاذ إن لم يكن مباشرة فبواسطة [لأنَّه] كان مشغوفًا بتعليم النَّاشئة في المرتبة الأخيرة وعليه إقبال عظيم؛ لأنَّ دروسه لا تخلو من أسئلة تمرينيَّة وكان رحمه الله ينصح للتَّلامذة ويحذِّرهم من الوقوع في حبائل أصحاب البدع والخرافات ويقف القارئ على ذلك في رسالته «المرآة»، تلك الرِّسالة الَّتي لخَّصها من كتب التَّصوُّف المعتمدة كـ«المدخل» لابن الحاج(25) وكادت أن تقضي القضاء الأخير على أدعياء التَّصوُّف ولقد أبرقوا لها وأرعدوا وقاموا وقعدوا وسرعان ما نفدت وجدّد طبعها وله غيرها من التَّآليف وإن كان فيهم من يفوقه في المعلومات لكن قبض يد المساعدة وفقد الشَّجاعة الأدبيَّة هو الَّذي ترك كتب الكثير منهم في زوايا الإهمال وشحُّوا بها على أبناء جلدتهم وجادوا بها على السوس، هذه نبذة من حياة الأستاذ وعساي أن أشفعها بأخرى إذا ساعدتني الظُّروف وختامًا فلتحزن السُّنَّة بفقده وأنصارها لفقدهم قائدًا إلى لفظه النَّفس الأخير وهو موالي الدِّفاع ولتهنأ بفقده البدعة وأبناؤها الرِّعاع،
ومن كان يفرح منهم لـــه
فقل يفرح اليوم من لا يموت
حمزة بن بكوشة» اهـ.
* رثاءُ جزائريٍّ آخر:
ونشرت جريدة «النَّجاح» [العدد (1189): 22 ربيع الأول 1350هـ/ 7 أوت 1931م، (ص3)]:«نعي عالم جليل ـ تونس الخضراء»: «تلقَّينا بمزيد الحزن والأسى نَعْيَ شيخنا العالم العلاَّمة البحر الفهامة سيِّدي عثمان بن المكِّي الزَّبيدي التَّوزري الجريدي المدرِّس من الرُّتبة الأولى بالكليَّة الزَّيتونيَّة ـ عمرها الله ـ، غادر هذا العالم الفاني شيخنا المذكور بعدما قضى أكثر عمره في تدريس وتأليف وبلغت كتبه أقصى البلاد الإسلاميَّة حتَّى صار يضرب المثل بها في القطر التُّونسي...، كان رحمه الله يشير علينا دائمًا بإرشادات ونصائح نافعة في أسلوب القراءة وله محبَّة زائدة في أبناء القطر الجزائري والمغربي حتَّى إنَّه كان مع بذله جهده في تعليمهم يمنحهم دروسًا زائدة على قانون النَّظارة العلميَّة، وقد رأيته مرارًا يدرس في شهر رمضان إبَّان العطلة وذلك مع كبر سنِّه ونحولة جسده... ويحذِّرهم [أي: تلامذته] من اتِّباع الخرافات وأصحاب البدع، فنم أيُّها الرَّاحل في ثرى العاصمة الخضراء وكن مطمئنَّ البال أنَّ علمك قد أبقى لك ذكرًا لا يمحوه الدَّهر؛ لأنَّك قضيت حياتك في بثِّ العلم الجامع الأعظم وجدير بتلامذته أن يفتخروا ويعترفوا بفضله وعلمه ونبله ومن صميم الفؤاد أرفع تعزيَتنا الحارَّة في هذا الفقيد الكريم المحبوب إلى جميع تلامذته الأخيار وأهاليه الأمثال ومشائخ الزَّيتونة ومحبِّيه الأفاضل راجين للجميع صبرًا جميلاً و للرَّاحل مغفرة من الله ورضوانًا.
علي بن السّراج البوسعادي ـ مترجم بلدية أقادير» اهـ.
* من فوائد رسالة «المرآة»:
قال الشَّيخ عثمان بن المكِّي في رسالته «المرآة...»: (فصل في ذمِّ البدع) (ص17):
«قال مؤلِّفه ـ وفَّقه الله ـ: ومن الأعياد المحرَّمة عيد الدّبيلة ـ قرية من قرى سوف بجريد الجزائر ـ يكون أوَّل يوم من مايه الأعجمي وأوَّل يوم من فصل الخريف، يستعملها جميع قرى وطن سوف، ثمَّ إنَّ أهل تلك البلاد لَمَّا كانوا يستوطنون توزر من جريد تونس سَرَتْ تلك العادة فيهم بالمجاورة، وبيان كيفيَّة ما يستعملونه فيه يؤدي إلى التَّطويل، وهو قريب من فعل المجوس».
وقال (ص21): «...قلت: ومن البدع المنكرة: استعمال السُّبحة الرُّومانيَّة الأصل في اليد، أو العنق ليظهر مستعملها للنَّاس أنَّه من الذَّاكرين العابدين...».
وقال (ص24): «...التَّسبيحُ بالسُّبحة المنظومة بدعةٌ محرَّمة لِمَا يعرض لها من العوارض، منها: إظهارها، وعدم الذِّكر بها، وكونها من عمل الرُّهبان؛ فلهذا كانت مثلَّثة وعلى شكل صليب، فلو كان الشَّاهدان طويليْن لظهر ذلك غاية الظُّهور، ولا أظن أنَّ أحدًا من العلماء المهتدين يقول بجواز استعمالها لما ذكرنا، ولا زال الرُّهبان يستعملونها إلى الآن، وإنَّما استعملها بعض المتصوِّفة ليظهر على نفسه أثر العبادة؛ فيعظِّمه النَّاس...» إلخ.
7الشَّيخ «الطَّيِّب العقبي» يوصي برسالة «ابن المكِّي»:
قال الشَّيخ الطَّيِّب العقبي رحمه الله في مقاله البديع: «يقولون ـ وأقول!!..»(26):
«70 ـ يقولون: يجب على كلِّ مسلم أن يتَّخذ له «سبحة» ولا بأس بجعلها في عنقه أو حملها في يده كيفما كان وفي كلِّ محلٍّ ومكان لا فرق في ذلك بين السُّوق والجامع... لأنَّ مجرَّد حملها يذكِّره الشَّيخ والطَّريق ومتى ذكر الشَّيخ ذكر الله...
وأقول لهم: راجعوا ما كتبه الشَّيخ «عثمان ابن المكِّي الزَّبيدي» وتأمَّلوا بإنصاف ما نقله عن المشائخ والعلماء الكبار في مبحث «السُّبحة» من رسالته «المرآة» عساكم تعترفون معنا بأنَّ حملكم لها على هذه الكيفيَّة من أشنع البدع وأكبر الحدث في دين الإسلام حيث إنَّها في نفسها رومانيَّة الأصل لا صلة لها بالإسلام لا في الشَّكل ولا فيما تكون به الإشارة منها؛ لأنَّها تدلُّ على التَّثليث (لا على التَّوحيد) وشكلها الصَّليبي (كما قال العلماء الَّذين لا تقتدون بهم...) يقرِّر ذلك ويشهد به، وحمل القساوسة والرُّهبان والمترهِّبات «لسورات»(27)لها إلى اليوم أوَّل دليل على صحَّة ما قاله العلماء الأعلام، وقاله صاحب تلك الرِّسالة الهمام، فراجعوها وأمعنوا النَّظر فيها لعلَّكم تهتدون، وإن كنتم بما جاء بها وبغيرها لعلماء الظَّاهر لا تؤمنون؟...» اهـ.
الهوامش:
(1) من تعليقات «كمال فيلالي» على ترجمته لكتاب «الإخوان» لإِدْوَارْد دُو نوفو (ص81).
(2) «الرَّحلات الجزائريَّة» لمحمَّد صالح الجابري (ص29).
(3) «الجديد في أدب الجريد» (ص14).
(4) «محمَّد الخضر حسين، حياته وآثاره» لمحمَّد مواعدة (ص26 ـ 27).
(5) «محمد الخضر حسين، حياته وآثاره» لمحمَّد مواعدة (ص40).
(6) «حديث متجول النَّجاح: في الصَّحراء... من وراء الرِّمال»، «النَّجاح» العدد (3899)، 28 أفريل 1951م، (ص1و2).
(7) «في شهر جمادى الأولى سنة 1298، الموافق شهر ماي سنة 1881، نزلت الجيوش الفرنسيَّة بتراب المملكة التُّونسيَّة، وفرضت عليها وضعًا استعماريًّا جديدًا، هو وضع «الحماية»... عن «الحركة الأدبية والفكريَّة في تونس» للفاضل بن عاشور (ص21).
(8) «العلماء التُّونسيُّون» (ص122) (مقابلة مع قصي المكي حفيد عثمان بن المكِّي).
(9) «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين» لمحمَّد محفوظ (1 /198).
(10) «مقابلة مع قصي المكي» (تونس في 10 سبتمبر 1971).
(11) «صراع بين السُّنَّة والبدعة...» (2 /21217).
(12) مقال «أقر الخصم وارتفع النزاع»، أمضاه باسم «طالب بجامع الزَّيتونة حرُّ الفكر لم يقرأ بالجامع الأخضر ولا الأحمر»: «البصائر»، السَّلسلة الأولى، العدد (23)، (ص4).
(13) «مجلة المنهل» ج8، س35، م30، شعبان 1389هـ/ أكتوبر ـ نوفمبر 1969م، (من أعلام المدينة المنوَّرة...) بقلم محمَّد سعيد دفتردار.
(14) «الأديب موسى الأحمدي نويوات... حياته وآثاره» لنجيب ابن خيرة (ص4 ـ 41).
(15) التَّوسُّل بجاه النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبجاه غيره من الأنبياء، لا يُشْرعُ ـ على التَّحقيق ـ.
(16) المصدر نفسه (ص41 ـ 42).
(17) «أعلام الإصلاح في الجزائر» لمحمَّد علي دبوز (1 /57و61 ـ 64).
(18) «تاريخ الجزائر الثَّقافي» (5 /596).
(19) قلتُ: توفي قريبًا (سنة 2003م)، وقد أوصى بنقل مكتبته (مخطوطها ومطبوعها) إلى الجامعة الإسلاميَّة بقسنطينة، وقد نُقِلَتْ أخيرًا إليها، وكنت أُمَنِّي نفسي، بالاطلاع عليها، والاستفادة منها، ومن ذلك تفاصيلُ مراسلة علماء سوف للشَّيخ (ابن المكِّي)، فعسى أن أستدركها مستقبلاً إن شاء الله تعالى.
(20) الَّذي أثبتهُ «البرَّاك» في طبعته، ناقلاً عن الزِّركلي: «عثمان بن عبد(!) القاسم بن المكي...»، وهو خطاٌ ظاهر، صوابه: «عثمان بن بلقاسم...»، وقد قال (البرَّاك) ـ أيضًا ـ: «...لم يذكره صاحب «تراجم المؤلِّفين التُّونسيِّين»».
والواقعُ أنَّه ذكره، وقد نقلنا كثيرًا عنه، وقد وقع للمحقِّق الكثيرُ من هذا القبيل؛ حيث كان يعلِّق على المواضع الَّتي نقلها المؤلِّف من «المعيار» للونشريسي، فيقول: لم أقف عليه! و هي فيه.
(21) درس في الزَّيتونة ثلاث سنوات، ومن شيوخه فيها: «الزغواني»؛ و هو من تلاميذ الشَّيخ «ابن المكي».
(22) وهذا يفيدنا بأنَّ الشَّيخ (ابن المكِّي)، كان قد درس ببلدة «نفطة»، قبل أن يتَّجه إلى جامع الزَّيتونة بتونس العاصمة.
(23) «الأديب موسى الأحمدي نويوات... حياته وآثاره» (ص50 ـ 51).
(24) «الجديد في أدب الجريد» لأحمد البختري (ص153).
(25) لا يفوتُني التَّنبيهُ: على أنَّ مؤلِّف هذا الكتاب وإن كان قد وفِّق للرَّدِّ على كثيرٍ من البدع، لكنَّه شحنه ببدع أخرى، أعظمها: الدَّعوة إلى الاستغاثة بالأولياء! وطلب الحوائج منهم!! (و هي الشِّرك الأكبر الصَّريح).
(26) الَّذي نشره الشَّيخ ابن باديس ـ على أجزاء ـ في مجلَّته «الشِّهاب» تحت عنوان: «بين سلفيٍّ وخصومه»، العدد (123)، 29 جمادى الأولى 1346هـ/ 24 نفامبر 1927م، (ص16 ـ 20).
(27) كلمة فرنسيَّة، بمعنى: المترهِّبات.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد 11»