مقومات الفكر الإصلاحي عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي (التحرير والتوحيد: محورا وهدفا)

بقلم: د.يوسف القرضاوي -

وكان هدف الشيخ الإبراهيمي من عمله الإصلاحي الكبير الذي بدأه مع ابن باديس ورفقائه في الدرب، هو إعداد الشعب الجزائري المسلم ليوم لا ريب فيه، هو يوم التحرر من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني المتغطرس، الذي طال ليله، وطّم سيله.

ولن يحرر الوطن الجزائري من نير الاستعمار إلا الشعب الجزائري، ولن يتم ذلك إلا إذا حررنا نفسية الشعب من الخنوع للمستعمر، ومن التبعية لثقافته، ومن اليأس من مقاومته.

وحينئذ سيتحول هذا الشعب كله إلى جنود للكفاح، بل إلى أبطال تنشد الجهاد والاستشهاد، حين تُحلّ العقدة، وتتحكم العقيدة، وتتضح الغاية، وتستبين الطريق، وتستحكم العزيمة، ويسود قبل ذلك كله: الإيمان بالله، والثقة بنصره، والإيمان بأن الحق مع الشعب المجاهد، وأن الباطل مع العدو المستعمِر، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18].

كان لا بد من غرس العزة في الأنفس، واليقين في السرائر، والأمل في القلوب، والبغض للذل والخنوع، والشعور بالسّيادة، والتوق إلى الحرية، وهذا ما فذ بـ(جمعية العلماء) ورجالها منذ تأسيسها، وفي مقدمتهم رئيس الجمعية الأول: الإمام عبد الحميد بن باديس، ونائبه الإمام محمد السيد الإبراهيمي.

وكان الإبراهيمي - وهو أديب من الطراز الأول، له طابعه المتميز وأسلوبه الخاص – يرسل قلمه شواظا من نار على الاستعمار ووحشيته، وأساليبه في القهر والإذلال، ومحاولة طمس الهُوية، وتغيير معالم الشخصية الجزائرية.

وكانت (البصائر) تحمل دائما ما يجود به قلم الشيخ، من نفحات على الوطن، ولفحات على الاستعمار.

التحرير الذي ينشده الإبراهيمي:

والتحرير الذي ينشده الإمام الإبراهيمي: تحرير عام شامل، يشمل تحرير الإنسان، وتحرير الأرض، تحرير الفرد، وتحرير المجتمع.. تحرير الرجل، وتحرير المرأة.. تحرير العقل، وتحرير البدن. التحرير من الاستعمار الخارجي، والتحرير من الاستعمار الداخلي.. هذا هو التحرير المنشود للإبراهيمي، وإن شئت قلت: إنه التحرير الذي تنشده جمعية العلماء، فما الشيخ في وقفته إلا لسانها المُعبِر، وعقلها المفكِر، وداعيتها المذكِر.

إشاعة كلمة (الحرية) في محيط الشعب:

وكانت كلمة (الحرية) من الكلمات المحظورة، التي لا يجوز ذكرها في حديث ولا خطبة، ولا درس ولا محاضرة ولا كتاب. كأنما لا توجد في اللغة أصلا. وكان الاستعمار حريصا على إخفائها وإماتتها، حتى جاء ابن باديس وإخوانه، فأحيوها بعد موتها، ونشروها من قبرها، وأشاعوها بين الناس، وحببّوها إليهم. يقول العلامة الإبراهيمي متحدثا عن سنوات المخاض والتحضير للنهضة الكبرى:

(كانت السنوات العشر التي هي أوائل المرحلة الثالثة في تقسيمنا كلها إرهاصات بتكوين جمعية العلماء، وكانت كلمات الوطنية، والإسلام وتاريخه، والحرية والاستقلال، قد وجدت مساغها في النفوس، وممرها إلى العقول، لأنها كانت تخرج من لسان ابن باديس وصحبه العلماء الشجعان، الموثوق بعلمهم ودينهم وأمانتهم، فيرن رنينها في الآذان، ويجاوز صداها إلى الأذهان، بعد أن كانت هذه الكلمات محرمة في فقه الاستعمار، ومهجورة في فقه الفقهاء، الذين نشأوا تحت رهبة الاستعمار، ومجهولة عند بقية الأمة، فكان أول من نطق بها على أنها لغة حيّة صحيحة الاستعمال، هو عبد الحميد بن باديس العالم الديني، واثنان أو ثلاثة من طرازه، ولكن ابن باديس كان يقولها لتلامذته في حِلَق الدرس ليطبعهم عليها، فلما أحس بالنجدة من إخوانه أصبحت هذه (العملة) مطروحة للاستعمال في السوق العامة، ولذلك ارتاع لها الاستعمار وقدر عواقبها الوخيمة عليه، فاحتاط لها بما نشرحه لكم في الفصل الثاني، وهو: أعمال الاستعمار في هذه المرحلة.

وكنت على أثر رجوعي واجتماعي بهذا الأخ نتداول الرأي في هذا الموضوع، ونضع مناهجه، ونخطط خططه، ومعنا بعض الإخوان، فأجمعنا في معرض الرأي الفاصل على أننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية.

أحدهما: استعمار روحاني داخلي:

يقوم به جماعة من إخواننا الذين يُصلّون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صدّ الأمة عن العلم، حتى يستمر لهم استغلالها، وهؤلاء مشايخ الطرق الصوفية التي شوهت محاسن الإسلام.

والثاني: استعمار مادي:

تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها، والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها!!

كنا نتفق على هذا، ولكننا نجمل الرأي في أي الاستعماريين، يجب أن نبدأ بالهجوم عليه، ولم يكن من الصعب علينا الاتفاق على الهدف الأول للهجوم، فاتفقنا على أن نبدأ بالهجوم على الاستعمار الأول وهو الطرق الصوفية، لأنها هي مطايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولولاها لم يتم له تمام.

والصوفية أو الطُّرُقية كما نسميها نحن في مواقفنا معها، هي نزعة مستحدثة في الإسلام، لا تخلو من بذور فارسية قديمة، بما أنّ نشأة هذه النزعة كانت ببغداد في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، واصطباغ بغداد بالألوان الفارسية في الدين والدنيا معروف، وتدسس بعض المتنطعين من الفرس إلى مكامن العقائد الإسلامية لإفسادها، لا يقل عن تدسس بعضهم إلى مجامع السياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإفسادها، ومبنى هذه النحلة في ظاهر أمرها التبتل والانقطاع للعبادات التي جاء بها الإسلام، ومجاهدة النفس من طريق الرياضة بفطمها عن الشهوات، حتى تصفو الروح وتَشِف وتَرِق، وتتأهل لمشارفة الملأ الأعلى، وتكون بمقربة من أفق النبوة، وتتذوق لذة العبادة الروحية، وقد افترق النازعون إلى هذه النزعة من أول خطوة فرقا.وذهبوا فيها مذاهب، من القصد الذي يمثله أبو القاسم الجنيد، إلى الغلو الذي يمثله أبو منصور الحلاج، إلى ما بين هذين الطرفين.

وكانت لأئمة السنة وحماتها، الواقفين عند حدودها ومقاصدها ومأثوراتها: مواقف مع الحاملين لهذه النزعة، وموازين يزنون بها أعمالهم وآراءهم، وما يبدر على ألسنتهم من القول فيها، ولسان هذه الموازين هو صريح الكتاب وصحيح السنة، وكانت في أول ظهورها بسيطة تنحصر في الخلْوة للعبادة، أو الجلوس لإرشاد وتربية من يشهد مجالسهم، ثم استفحل أمرها فاستحالت علما مستقلا، يشكل معجما كاملا للاصطلاحات، ودونت فيها الدواوين التي تحلل وتشرح، وتصف الألوان الباطنية للنفس، وتبين الطريق الموصل إلى الله، والوسيلة المؤدية للسعادة، وكيفية الخلاص من مضايق هذا الطريق وأوعاره، ثم انتقلت في القرون الوسطى من تلك الأعمال التي تستر أصحابها، إلى الأقوال التي تفضحهم، فخاضوا في شرح مغيبات، وأفاضوا في جدال مكشوف بينهم وبين خصومهم، وكانوا سببا من الأسباب الأصيلة في شق الأمة شقين: أنصار، ومنكرين، وضاعت في هذا الضجيج ثمرة هذه النحلة، وهي رياضة النفس اللجوج على العبادة، وقمع نزواتها البدنية، وأصبحت هذه النحلة أقوالا تدافع، يقولها من لا يفقه لها معنى، فضلا عن أن تصطبغ بها نفسه. والحق في هذه النزعة أنها صبغة روحية مرجوحة في ميزان الشرع وأحكامه، وإنما يقبل منها ما يساير المأثور، ولا يجافي المعروف من هدي محمد وأصحابه، فإن الدين قد تكامل بختام الوحي، والزيادة فيه بعد ذلك كالنقص منه، كلاهما منكر، وكلاهما مرفوض، وما لم يكن يومئذ دينا فليس بدين بعد ذلك.

ولكن تلك النزعة التي عفا رَسْمُها، بقي اسمها، ولم يبق بقاء تاريخيا للعظة والاعتبار، وإنما بقي فتنة بين المسلمين، وميدانا لعلمائهم يتراشقون فيه ويتنازعون، ولعامتهم يلهون فيه ويلعبون، ويضلون بسببه عن حقائق دينهم ودنياهم.

وانتهى بها الأمر في القرون الأخيرة إلى نسبة مجردة من جميع المعاني، ينتسب إليها– تقحما- كل من هبّ ودب، لا يطلبها من طريق علم ولا تربية، ولكن من طريق الشعوذة والحيلة، ثم تدلت دركة أخرى، فأصبحت وسيلة معاش! ومصيدة لابتزاز أموال العامة، وانتهاكا لأعراضهم.. وهناك التقت مع الاستعمار في طريق واحد، فتعارفا وتعاهدا على الولاء.

ابحثوا في تاريخ الاستعمار العام، واستقصوا أنواع الأسلحة التي فتك بها في الشعوب، تجدوا فتكها في الاستعمال هذا النوع الذي يسمى (الطرق الصوفية)، وإذا خفي هذا في الشرق، أو لم تظهر آثاره جليّة في الاستعمار الانجليزي، فإن الاستعمار الفرنسي مارست قواعده في الجزائر، وفي شمال أفريقيا على العموم، وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى، إلا على الطرق الصوفية وبواسطتها!

ولقد قال قائد عسكري فرنسي معروف، كلمة أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه قال: (إن كسب شيخ طريقة صوفية أنفع لنا من تجهيز جيش كامل، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إخضاعهم على الأموال والجيوش لما أفادتنا ما تفيده تلك الكلمة الواحدة من الشيخ، على أن الخضوع لقوتنا لا تؤمن عواقبه لأنه ليس من القلب. أما كلمة الشيخ فإنها تجلب لنا القلوب والأبدان والأموال أيضا).

هذا معنى كلمة القائد الفرنسي وشرحها، ولعمري إنها لكلمة تكشف الغطاء عن حقيقة ما زال كثير من إخواننا الشرقيين منها في شك مريب، وهم لا يدرون أن أول من خرج عن جماعة الأمير عبد القادر الجزائري في أيام جهاده شيخ طريقة معروفة، وأن من أكبر أسباب هزيمته استعانة فرنسا عليه بمشايخ الطرق الصوفية، وإعلان كثير من أتباعهم الخضوع لفرنسا، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل؟ وأن تاريخ تلك الوقائع لم يزل مداده طريّا، وما زال الاستعمار بالجزائر يُسمي هؤلاء المشايخ (أحباب فرنسا).

وإني أتعجل لكم البشرى بأن أحفاد أولئك المشايخ – إلا ما قل – أصبحوا من أكبر الناقمين على الاستعمار، بل أصبح بعضهم من الغلاة في الوطنية، ومن الصفوف الأولى من أنصار العلم والتعليم، والداعين إليهما، والعاملين على نشرهما بالجاه والمال، ولا تكاد توجد مدرسة من مدارس جمعية العلماء خالية من عدد من أولادهم، متعلمين أو معلمين، ومنهم كثير في الجامعات الإسلامية: القرويين والزيتونة والأزهر.)[1] اهـ.

ولي ملاحظتان على حملة العلامة الإبراهيمي على الطرق الصوفية ومشايخها:

الأولى: أنه لم يستحسن أحدا، على نحو ما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص: 24].

الثانية: أن الشيخ الإبراهيمي كان شديد الوطأة، حار الهجوم، حديد اللسان، على التصوف والصوفية.

ولعل الحرب التي كانت دائرة بين الطرفين، هي التي زادت النار اشتعالا، وأن الاستعمار كان يؤيد أصحاب الطرق ويستعين بهم، وأن المتصوفة كانوا يتطرفون في محاربة دعاة الإصلاح والتجديد، حتى حكى الإبراهيمي أنه سمع أحد الصوفية الكبار يقول عن العلامة رشيد رضا: إنه أضر على الإسلام من ألف كافر.

التوحيد هو الهدف الثاني:

كانت الحرية – أو التحرير- هي الأمل الأول الذي يسعى إلى تحقيقه الإمام الإبراهيمي، وكانت الوحدة – أو التوحيد- هي الأمل الثاني الذي يرنو إليه أو يصر عليه.

وهذه الوحدة تبدأ بوحدة الجزائر أولا، قوة الشمال الإفريقي أو المغرب العربي، فوحدة الأمة العربية، وانتهاء بوحدة الأمة الإسلامية.

وكانت وحدة الجزائر والجزائريين هي شغله الشاغل، فهو يعمل دائبا بعلمه ولسانه، وفكره ووجدانه، وحركته مع إخوانه، لصهر عنصري الشعب الجزائري: عربه وبربره – كما هو الواقع – في بوتقة واحدة. ويرى أن الإسلام قد عرّب الشعب الجزائري، كما عرّب المغرب العربي كله.

وهو يعجب من الذين يريدون أن يجعلوا البربر فرنسيين، وليس بينهم وبين فرنسا نسب ولا آصرة دينية، ولا عرقية، ولا تاريخية، ولا جغرافية – في حين بينهم وبين العروبة أكثر من آصرة!!.

البداية بتوحيد الشعب الجزائري:

كان سعي الشيخ في مجال التجميع والتوحيد: البدء بتوحيد الشعب الجزائري أولا. وهذا بدء طبيعي منطقي كما في الحديث: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"[2].

كان يريد أن يتوحد الشعب الجزائري توحدا حقيقيا، بحيث يكون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تألم سائر الأعضاء.

وهنا لا يسمح بإثارة أي نوع من الخلافات المفرقة بين الشعب الواحد، فلا مجال للقول بانقسام الجزائر إلى عرب وبربر، فقد عرّب الإسلام البربر، كما عرّب المصريين وغيرَهم من الشعوب.

ولقد بذل الأستاذ جهده، بتفنيد هذه الأسطورة، فنقضها من أساسها، وأثبت أن الأخوة الإسلامية قد أذابت الفوارق بينهما، وجعلت منهما شيئا واحدا، على مدار التاريخ.

واجتهد الشيخ الإبراهيمي أن يُجَنّب الشعب الجزائري أسباب الخلاف الديني، من جرّاء الاختلاف في قضايا علم الكلام، أو مذاهب الفقه، أو اتجاهات التصوف.

كما حذّر الشيخ من مكايد الاستعمار ودسائسه، ومن همزاته ووساوسه، ومن سياسته المعروفة،التي شعارها (فرق تسد).

وحاول الشيخ هو ورفقاء دربه: أن يجمعوا الشعب على الإسلام الصحيح، الإسلام الأول، إسلام القرآن والسنة، وأن يحرروه مما سوى ذلك من مبتدعات العامة، وضلالات الخاصة، أو ما سماه الإمام محمد عبده: شهوات سلاطين، أو نزغات شياطين.

وقد حرص الإبراهيمي على توحيد الشعب الجزائري في شعائره الدينية، كما حرص على توحيد مواقفه الوطنية، وقد جاهد وكافح من أجل توحيد الشعب في صيامه وفطره وكتب في ذلك مقالات ضافية، يَرُدّ بها على لجنة الأهلة المعينة من قبل السلطة الفرنسية، ويهيب بالشعب المسلم أن يوّحد صيامه وإفطاره.

ضرورة الاتحاد وضرر الخلاف:

بدأ الشيخ دعوته إلى الاتحاد ـ كما قلنا ـ من المنطلق الطبيعي والمنطقي: أن تتحد الجزائر وشعبها أولا في مواجهة الاستعمار الفرنسي بسلطانه وجبروته، فكانت الدعوة إلى توحيد عنصري الوطن: العرب والبربر. ثم كانت الدعوة إلى اتحاد الأحزاب الوطنية التي تعمل لتحرير الجزائر. وكان الشيخ يلح في هذه الدعوة ويؤكدها ويكررها، ويناضل عنها بقوة يقول في ذلك:

(كل مسلم عربي جزائري مخلص يُؤيدنا في الدعوة إلى هذا الاتحاد. وَيَودُ منه ما نَوَد، ويَعتقد فيها ما نعتقده، من أنّه المعقل الوحيد للقضية الجزائرية، والوسيلة الوحيدة لنجاحها؛ ويرى ما نرى من آثار هذا التفرق الشنيع الذي شتّت شمل هذه الأمة الضعيفة، فزادها ضعفا على ضعف، في وقت تطلّعتْ فيه إلى المطالبة بحقها، فهي فيه أحوج ما تكون إلى جمع القوى، والتئام الشمل، واتحاد الكلمة.

تَرِد علينا رسائل كثيرة من عقلاء الأمة المخلصين لها، السالمين من عصبية الحزبية، وكلها حض على السعي في الاتحاد بين الأحزاب، وجمع الكلمة المتفرقة في هذا الوقت، التي تجمعت فيه جموع الاستعمار على دحض حقنا بباطله، وفي هذا الجو الذي كله نذر ومخاوف، والرسائل على كثرتها بحيث لا يخلو منها بريد يومي، وخصوصا في الأسابيع الأخيرة – كأنما كتبت بقلم واحد في أمور ثلاثة: التشهير بضرر الخلاف، والتنويه بضرورة الاتحاد، وتعليق الأمل في جمع الكلمة على كاتب هذه السطور وجمعية العلماء. وقد تغالى بعض الكاتبين، فعصب قضية الاتحاد برأس كاتب هذه الكلمة، وجعلها عهدة في عنقه، وبالغ بعضـهم – وهو من ذوي الآراء النيرة والعلم الواسع والإخلاص المحقق – فقفز إلى غاية الغايات، وهي جمع الكفاءات في حزب واحد.

أما ضرر الخلاف على القضية الجزائرية، فهو أمر يستوي في إدراكه جميع الناس، وأما ضرورة الاتحاد فهي أمر لا يختلف فيه عاقلان، وهو أمنية كل مسلم مخلص لدينه وجنسه ووطنه، وقد شعر به المسؤولون من رجال الأحزاب فتداعوا إليه جهرة، في حين حدّة الخلاف وعنفوانه، ووجود أقوى أسبابه. ولا يماري في لزوم الاتحاد إلا قصير النظر في العواقب، أو خادم لركاب الاستعمار من حيث يدري أو لا يدري، أو مدخول النسب في الوطنية)[3].

توحيد الشمال الإفريقي:

وبعد توحيد الجزائر شعبا ووطنا: توحيد فكرتها، وتوحيد عبادتها، وتوحيد وقفتها، ورصها صفا واحدا في مواجهة المعركة المرتقبة، الآتية في يوم لا ريب فيه: إتجه الشيخ إلى توحيد الشمال الإفريقي – أو المغرب العربي- كله. فإنما هو وطن واحد، وشعب واحد، بعضه من بعض، وأقصاه موصول بأدناه، فهو شعب عربي مسلم، ربطت بينه العروبة والإسلام، كما ربط بينه الهَمّ الواحد، والمصير الواحد، هو محاربة الاستعمار، وتحرير البلاد من نيره وناره، ومن ذله وإساره.

لذا كان حريصا أن يثبت بنصاعة بيانه، وفصاحة لسانه، وسطوع برهانه: أن الشمال الإفريقي كله عربي، كما أن كله مسلم. وأن الإسلام قد أذاب بين الجميع كل الفروق العرقية، ووحدهم خلف القرآن الكريم، والرسول العظيم، كما وحدهم في الصلاة خلف إمام واحد، يتلون كتابا واحدا، ويؤدون حركات واحدة، ويتعرفون إلى الله بعبادة واحدة، تفتتح بالتكبير، وتنتهي بالتسليم.

تحدث الشيخ عن وحدة الشمال الإفريقي بلسان صادق، وبيان دافق، وبرهان ناطق، يقيم الحجة على الخصم، ويخرس لسانه فلا يتكلم، ويفحمه فلا يجادل، تقرأ للشيخ مقالا في (البصائر) تحت عنوان (عروبة الشمال الإفريقي) يقول فيه:

(عروبة الشمال الإفريقي بجميع أجزائه طبيعية، كيفما كانت الأصول التي انحدَرتْ منها الدماء، والينابيع التي انفجرتْ منها الأخلاق والخصائص، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد؛ وهي أثبتُ أساسا، وأقدم عهدًا، أصفى عنصرًا من إنكليزية الإنكليز، وألمانية الألمان.

قضت العروبة بقوّتها وروحانيتها، وأدبها، وسمُوّ خصائصها، وامتداد عروقها، في الأكرمين الأُوَل من نبات الصحارى، وبُناة الحضارات فيها – على بربرية كانت منتشرة بهذا الشمال، وبقايا آرية كانت منتشرة فيه؛ وفعل الزمن الطويل فعلَه حتى نسى الناس ونسي التاريخُ الحديثُ أنَّ هنا جنسا غير عربي؛ وضرب الإسلام بيسره ولطف مداخله، وملاءمة عقائده للفطر، وعبادته للأرواح، وآدابه للنفوس، وأحكامه للمصالح – على كل عرق ينبض بحنين إلى أصل، وعلى كل صوت يهتف بذكرى إلى ماض بعيد؛ وزاد العروبةَ تثبيتا وتمكينا في هذا الشمال هذه الأبجدية العربية الشائعة التي حفظت أصول الدين، وحافظت على متون اللغة، ودوّنت الآداب والشرائع، وكَتَبت التاريخ، وسجَّلت الأحكام والحقوق، وفتحت الباب إلى العلم، وكانت السبيل إلى الحضارة.

كل هذه العوامل صيّرت هذا الشمال عربيا قارَّ العروبة على الأسس الثابتة: من دين عربي، ولغة عربية، وكتابة عربية، وآداب عربية، ومنازع عربية، وتشريع عربي.. وجاء التاريخ – وهو الحكم في مثل هذا – فشهد وأدَّى، وجاءت الجغرافيا الطبيعية فوصلت هذا الشمال بمنابت العروبة من جزيرة العرب.. وجاء الزمن بثلاثة عشر قرنا، تشهَد سِنوها وأيامها بأنها فرَغتْ من عملها، وتمّ التمام.)[4].

ويعود إلى الموضوع في خطابه التاريخي للوفود العربية والإسلامية للأمم المتحدة في باريس فيقول:

(وإن هذا الشمال الإفريقي كل لا يتجزأ تربط بين أجزائه دماء الأجداد، ولسان العرب، ودين الإسلام، وسواحل البحر في الشمال، وحبال الرمال في الصحاري وسلاسل الأطلس الأشم في الوسط. واتحاد الماء والهواء والغذاء، وإنها لخصائص تجمع الأوطان المتباينة، فيكف لا تجمع الوطن الواحد؟ إن تفرق هذه الأجزاء لم يأت من طبيعتها وإنما جاء من طبائعنا الدخيلة، ومن تأثراتنا الغربية بالدخلاء، وإنني متفائل بأن هذه الليلة ستكون فاتحة لعهد جديد، واتحاد عتيد، ونور من الرحمة والإخاء، يتنظم المغارب في سلك، إنني متفائل بما يتفاءل به السارون المدلجون من انبلاج الفجر، فعسى أن يتحقق هذا التفاؤل فتكون هذه الليلة أول خيط في نسيج الوحدة الإفريقية التي هي آخر أمل للمتفائلين مثلي، وأن العنوان الدال على ما وراءه هو: اجتماع جميع حركات الشمال الإفريقي في هذا المحفل الزاهر، وأن البشير بتحقق هذا الأمل هو امتزاجنا بإخواننا الشرقيين حول هذه الموائد ومن بركاتهم أن تجتمع حركاتنا كلها في صعيد واحد، وكلها لسان يعبر، وقلب يفكر، وآذان تسمع، وإنا لنرجو أن تكون قلوبنا غدا غير قلوبنا بالأمس، وأن نفيء إلى الحق الذي أمر الله بالفيأة إليه، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[5].

توحيد العرب:

وبعد وحدة الشمال الإفريقي أو المغرب العربي: الجار ذي القربى، يسعى إلى الجار الجنب، وهم: بقية العرب في المشرق، فيدعو إلى وحدة أمة العرب جمعاء، من محيطها إلى خليجها.

توحيد أمة الإسلام:

وهو حين يدعو إلى وحدة الجزائر، فوحدة المغرب العربي، فوحدة العرب: ينتهي إلى الوحدة الكبرى لأمة الإسلام كلها، من المحيط إلى المحيط، من جاكرتا إلى مراكش.

وطالما كتب الإبراهيمي يستصرخ المسلمين ليجتمع شملهم، ويتحد صفهم، وينعي عليهم تفرقهم، ودينهم يوجب عليهم أن يجتمعوا، وينكر عليهم تقاطعهم ومصلحتهم تفرض عليهم أن يتواصلوا. وقد كتب كلمة قوية في البصائر تحت عنوان (أرحام تتعاطف) جاء فيها:

(طالما نعينا على المسلمين خصوصاً، وعلى الشرقيين عموما، هذا التقاطع الذي شتت شملهم، وفرّق جامعتهم، وصيّرهم لقمة سائغة للمستعمرين، وطالما شرحنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسُقنا المثُلات، وجَلوْنا العبر؛ وكانت نُذُر الشر تتوالى، فيتمارَوْن بها، وصيحاتُ الضحايا منهم تتعالى، فيصِمُّون عنها ؛ والزمن سائر، والفلك دائر ؛ وهم في غفلة ساهون.

دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهي جامعة الإسلام ؛ إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق ؛ وحذّرناهم من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم، ومبعث بلائهم، وبيَّنا لهم أنها دسيسة استعمارية، زيّنها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه وأدّلاؤه ؛ وغايتُُهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأن الاستعمار – بهذه الدسيسة وأشباهها – يُفسد فطرة الله فيهم، وينقُض دين الله عندهم ؛ ففطرة الله تُلهِم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره؛ ودين الله يوجب حقوق الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه ؛ وهو بهذا يعمِّم التناصر، ويقيم في الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار والناس كلهم متجاورون، جوار الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن؛ فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودها عمّ التناصر والتعاون، وسدّت المنافذ على المتغيرين، وعلى المفسدين في الأرض)[6].

داؤنا الانقسام ودواؤنا الوحدة:

ويذكر الشيخ الإبراهيمي في خطابه الذي ألقاه في باريس أمام الوفود العربية الإسلامية في الأمم المتحدة هذه الكلمات القوية المزلزلة والمعبرة عن داء الفرقة ودواء الوحدة بقلمه البليغ المبدع: أيها الأخوان:

(إن النقطة التي ابتدأ منها بلاؤنا وشقاؤنا هي أنهم أرادونا على الانقسام، وزينوه لنا كما يزين الشيطان للإنسان سوء عمله، فأطعناهم وانقسمنا، فوسعوا شقة الانقسام بيننا بأموالهم وأعمالهم وآرائهم وعلومهم، ولم يتركوا أداة من أدوات التقسيم إلا حشدوها في هذا السبيل، ولم يغفلوا الأستاذ والكاتب والراهب والمرأة والتاجر والسمسار حتى بلغوا الغاية في تقسيمنا شيعا ودولا وممالك، كما توزع قطعة الأرض الكبيرة الصالحة، إلى قطع صغيرة لا تصلح واحدة منها ولا تكفي، ثم عمدوا إلى خيرات الأرض فاحتكروها لأنفسهم، واستخرجوها بعقولهم المدبِّرة، وأيدينا المسخَّرة، فكان لهم منها حظ العقل، ولنا منها حظ اليد، ولو أننا تعاسرنا عليهم من أول يوم في تقسيمنا، ولذنا بكعبة الوحدة نطوف بها ونلتزم أركانها لما نالوا منها نيلا، ولما وصلنا إلى هذه الحالة.

أما وقد بلغوا من تقسيمنا ما يريدون، وأصبحنا في درجة من الضعف المادي والضعف العقلي نعتقد فيها أن الله خلقنا خلقة الأرنب، وخلقهم خلقة الأسد، وجف القلم، ولا تبديل لخلق الله فأول واجب علينا، بل أول نقطة يجب أن نبتدئ منها السير، هي أن نُكَفِّر بهذا الانقسام، ونُكَفِّر عليه بضده، وهو الوحدة الشاملة لجميع الأجزاء، وكيف يكون ذلك وقد بنيت على ذلك التقسيم أوضاع جديدة، وممالك وملوك وحدود، وإن تغيير الممالك لصعب، وإن فطام الملوك عن لذة الملك لأصعب منه ؟ فلنلتمس مفتاح قضيتنا من بين هذا الركام من الأدوات البالية، ولنعتصم بالأمر الميسور، وهو أن نوحّد التعليم ومناهجه، والتجارة وأوضاعها، ولنطمس هذه الحدود الفاصلة بين أجزاء الوطن الواحد، وليرتفق بعضنا ببعضنا، فيما يزيد فيه بعضنا على بعضنا، ولنكن يدا واحدة على الأجنبي، ولنعتبر المعتدي على جزء منا معتديا على جميع الأجزاء، وعدو العراق هو عدو مراكش، ولنذكر من خصال الأمم ما فعلته ايطاليا في ضم أجزائها، وما فعلته ألمانيا، وما فعلته فرنسا التي لم تنم لها عين في قضية الألزاس واللورين، ولو أن معتديا اعتدى على جزء من انكلترا (وهي كجزيرة العرب) تداعى الانكليز من أطراف الأرض لاسترجاعه، فلم لا نكون كذلك؟

إنهم إن علموا ذلك منا، وعلموا جدنا فيه تابوا عن سيرتهم فينا وأقلعوا، أما من لان للأكل فليس من حقه أن يلوم الأَكَلَة.

والذي روحي بيده... ما يسرني أن للعرب ثماني دول، ولا أن للمسلمين عشرين دولة، ما داموا على هذه الحالة، وإنما يسرّني ويثلج صدري ؛ أن يكون المسلمون كلهم شعبا واحدا بحكومة واحدة، وعلى عقيدة في الحياة واحدة، وعلى اتجاه إلى السعادة واحد، فإذا وجد هذا الشعب لم يبق لهؤلاء الأقوياء إلا أن يقولوا: إن في الشرق قوما جبارين، وإنه لم يبق لنا بينهم موضع.

إن القوم استضعفونا، ففرقونا فأكلونا لقمة لقمة، فأَوْجِدوا هذا الشعب الموحد تَحْيوا وتُحْيوا العالم به، أوْجِدوه تَسْعَدوا وتُسْعِدوا العالم به.... إن العالم اليوم مريض، وإنه يلتمس الشفاء، فأروه أن في الإسلام شفاءه، وأنه في خصام منهك، وأنه يلتمس الحكم، فأحيوا الإسلام الصحيح يكن حكما في مشكلة هذا العصر... مشكلة الغِنَى والفقر...تكتّلوا ففي استطاعتكم أن تتكتلوا.. تكتّلوا يمدكم العصر بروحه... إنه عصر التكتل، وإن الأقوياء لم تُغْن عنهم قوتهم شيئا، فأصبحوا يلتمسون أنواعا من التكتل مع القريب، ومع الغريب، فهذه، انكلترا تتكتل، وهذه أميركا، وهذه روسيا. .. فكيف لا يتكتل الضعفاء؟![7]) انتهى.

قال هذا الشيخ قبل أكثر من نصف قرن (سنة 1952م) فكيف لو عاش إلى عصرنا، ورأى ما فيه من تكتلات واتحادات مثل الاتحاد الأوروبي؟!. الذي أمسى حقيقة واقعة، بعد حروب بين الأوربيين بعضهم وبعض استمرت قرونا، آخرها الحربان العالميتان، اللتان سقط فيهما من القتلى والضحايا بالملايين.

بدء تفرق المسلمين في الدين:

ويتحدث الشيخ الابراهيمي عن بدء ظهور التفرق في المسلمين حديثاً ينبئ عن وعي بتاريخ الأمة الفكري فيقول:

أول ما نشأ في المجتمع الإسلامي من جراثيم التفرق في الدين: الكلام في القدر و الخوض في الصفات. و قارَن ذلك حدوث الخلاف في الخلافة: فهل هي شعبة من الدين تفتقر إلى تنصيص من الشارع ؟ أو هي مصلحة دنيوية ترجع إلى اختيار أهل الرأي من الأمة؟ و قد سبق الخلاف العملي الخلاف العلمي في هذه المسألة. و هي المعترك الأول الذي اشتجرت فيه الآراء حتى تطرفت، بعد أن اشتجرت فيه الرماح حتى تقصفت. كما أنها أول مسألة امتزجت فيها الأنظار الدينية بالأنظار الدنيوية (أو السياسية) كما يقولون. و في هذا المعترك جرثومة من التعصب الخبيثة.

ثم توسعت الفتوحات و بسط الإسلام ظله على كثير من الممالك التي كانت لها أثارة من عمران و شيء من سلطان. و دانت له كثير من الأمم. و في كل أمة طوائف دخلت الإسلام، و هي تحمل أوزارًا من بقايا ماضيها. و ما كادت هذه المجموعات البشرية تمتزج ويفعل الإسلام فيها فعله. حتى ظهرت عليها أعراض التفرق.

فظهر أصحاب المقالات في العقائد، و أحدثوا بدعة (التأويل) الذي هو في الحقيقة تحريف مسمى بغير اسمه.

وتوفرت الدواعي لظهور المذاهب الفقهية، والمذاهب الكلامية، و المذاهب الصوفية، في أزمنة متقاربة، و كان لترجمة الفلسفة اليونانية و الحكمة الفارسية و الهندية: أثر قوي في تعدد المذاهب الكلامية و الصوفية، بما أتت به الأولى من بحث في الإلهيات على الطريقة العقلية الصرفة، و بما غذت به المتكلمين من الأنظار المختلفة، و أمدتهم به من طرائق الجدل وقوانينه. وهذا هو مبدأ التفرق الحقيق في الدين ؛ لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام. و الصوفية يقولون: إن علومهم هي لباب الشريعة و حقيقتها ![8]

ظهور المذاهب الفقهية و التعصب لها:

أما المذاهب الفقهية، فحدوثها ضروري و طبيعي ما دامت السنة لم تُجْمَع، و بعد جمعها لم تكن وافية بالتنصيص على الوقائع الجزئية. و متونها و أسانيدها بعد خاضعة للتزكية و التجريح؛ لأنها لم تنقل بطريق التواتر. و ما دامت مدارك المجتهدين الذين هم المرجع في هذا الباب متفاوتة بالقوة و الضعف في الاستنباط و وجوه القياس و علله، و ما دامت الوقائع التي تناط بها الأحكام لا تنضبط.

وقد استحدث العمران أنواعاً جديدة من المعاملات الدنيوية لا عهد للإسلام الفطري بها. وصوراً شتّى من المعايش ووجوه الكسب لم تكن معروفه. فمن سماحة التشريع الإسلامي و مرونته أن نتناول هذه المستحدثات الجديدة بأنظار جديدة، وتستنبط من أصوله أحكام لفروعها. و كل هذا لا حرج فيه و ليس داخلاً فيما نشكوه، بل نحن أول من يقدر قدر تلك الأنظار الصائبة، والمدارك الراقية، و يقيمها دليلاً على اتساع التشريع الإسلامي لمصالح الناس، و صلاحيته لجميع الأزمنة، و ينكر على من سد هذا الباب على الأمة، فزهّدها في استجماع و سائله. و نحن أول من يقدر قدر أولئك الأئمة الذين هم مفاخر الإسلام.

و هي في حد ذاتها ليست هي التي فرّقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزموا الناس بها، أو فرضوا على الأمة تقليدهم، فحاشاهم من هذا بل نصحوا وبينوا، و بذلوا الجهد في الإبلاغ. وحكّموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، و أتوا بالغرائب في باب الاستنباط و التعليل، والتفريع والتأصيل، و لهم في باب استخراج علل الأحكام، وبناء الفروع على الأصول، و جمع الأشباه بالأشباه، و الاحتياط و مراعاة المصالح ما فاقوا به المتشرعين من جميع الأمم.

و إنما الذي نعده في أسباب تفرق المسلمين هو هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدها للمذاهب، والتي نعتقد أنهم لو بُعثوا من جديد إلى هذا العالم، لأنكروها على أتباعهم و مقلديهم، و تبرأوا إلى الله منهم و منها ؛ لأنها ليست من الدين الذي أؤتمنوا عليه، و لا من العلم الذي وسّعوا دائرته.

و قد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، و كان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين. و إن في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوبا.

أما آثارها في العلوم الإسلامية، فإنها لم تمدها إلا بنوع سخيف من الجدل المكابر، لا يسمن و لا يغني من جوع. و لا عاصم من شرور هذه العصبية إلا صرف الناشئة إلى تعليم فقهي يستند على الاستقلال في الاستدلال، و إعدادها لبلوغ مراتب الكمال، و عدم التحجير

عليها في استخدام مواهبها الى أقصى حدّ(8).

المذاهب الكلامية و خطرها:

و أما المذاهب الكلامية، فلم يكن أثرها بالقليل في تفرق المسلمين و تمزّق شملهم. و لكنها لما كان موضوعها البحث في وجود الله و اثبات صفاته، و ما يجب له من كمال، و ما يستحيل عليه من نقص، كل ذلك من طريق العقل-كانت دائرتها محدودة، و كان التعمق فيها من شأن الخواص. و قعد بالعامة عن الدخول في معتركها احساسها بالتقصير في أدواته، من جدل و عقليات يحتاج اليها في مقامات المناظرة و الحجاج. فليس علم الكلام كعلم التصوف: مطية ذلولا يندفع لركوبها العاجز و الحازم. فالتصوف شيء غامض يسعى اليه بوسائل غامضة. و يسهل على كل واحد ادعاؤه و التلبيس به. فان خاف مدعيه الفضيحة لم يعد سلاحا من الجمجمة و الرمز و تسمية الأشياء بغير أسمائها.ثم الفزع الى لزوم الصمت، و التدرع بالصمت، و الاعراض عن الخلق، و الانقطاع و الهروب منهم، مادام هذا كله معدودا في التصوف، و داخلا في حدوده. و لا كذلك علم الكلام الذي يفتقر الى عقل نير و قريحة و قادة و ذكاء نافذ و يحتاج منتحله الى براعة و لسن و مران على المنطق و مقدماته و نتائجه و أقيسته و أشكاله. و لم كل هذه العدد؟ كل هذه العدد للمناظرات و ما تستلزمه من ايراد و دفع و افحام و الزام. و أين العامة من هذا كله؟ لذلك لم يكن لها من حظ في هذا العلم إلا معرفة أسماء بعض الفرق و الانتصار لها انتصارا تقليديا، و لذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة و لم تتغلغل في العامة كما تغلغلت آثار التصوف.

و قد انقرضت تلك الفرق، و انقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق، بل مات بموتها شاغل طالما شغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم، و جعل بأسهم بينهم شديدا، و ألهامهم بما يضر عما ينفع.

تلاشت تلك الفرق، و لم تبق إلا أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ و إلا آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء، و تبصرة للحصفاء. و لم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموسا في الأنساب إلا اسمان يدوران في أفواه العامة و أشباه العامة، و يستعملونها في أغراض عامية، و هما (أهل السنة و المعتزلة)(9).

تخلف دراسة علم التوحيد:

و من المحزن أن دراسة علم التوحيد حتى في كلياتنا(الراقية) –كالأزهر و الزيتونة- لا تزال جارية على تلك الطرائق، و في تلك الكتب. و لا تزال تقرر فيها تلك الآراء، ثم يدحضها، و يقيمها ثم ينقضها. و تقطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك. و يا ضيعة الأعمار.

أما الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر و مُبشروا المسيحية على الإسلام،  و يفتنون بها العلماء فضلا عن العوام، فان كلياتنا(العلمية الدينية) و مدرسيها لا يعيرونها أدنى اهتمام، و لا يعمرون بها وقت الطلبة. فيا للفضيحة.

و أما المذاهب الصوفية فهي أبعد أثرا في تشويه حقائق الدين و أشد منافاة لروحه، و أقوى تأثيرا في تفريق كلمة المسلمين لأنها ترجع في أصلها الى نزعة غامضة مبهمة تسترت في أول أمرها بالانقطاع للعبادة و التجرد من الأسباب و العزوف عن اللذات الجسدية، و التظاهر بالخصوصية، و كانت تأخذ منتحليها بشيء من مظاهر المسيحية، و هو التسليم المطلق، و شيء من مظاهر البرهمية، و هو تعذيب الجسد و إرهاقه،  توصلا الى كمال الروح، زعموا! و أين هذا كله من روح الاسلام و هدي الاسلام؟ و لم يتبين الناس خيرها من شرها لما كان يسودها من التكتم و الاحتراس حتى جرت على ألسنة بعض منتحليها كلمات كانت ترجمة لبعض ما تحمل من أوزار. فراب أئمة الدين أمرها. و انفتحت أعين حراس الشريعة، فوقفوا لها بالمرصاد، فلاذ منتحلوها بفروق مبتدعة يريدون ان يثبتوا بها خصوصيتهم كالظاهر و الباطن، و الحقيقة و الشريعة، الى ألفاظ أخرى من هذا القبيل لا تخرج في فحواها عن جعل الدين الواحد دينين.
و ما كاد السيف الذي سلّ على الحلاج و صرعى مخرقته يغمد، و يوقن القوم أنهم أصبحوا بمنجاة من فتكاته حتى أجمعوا أمرهم و أبدوا للناس بعض مكنونات أسرارهم ملفوفة في أغشية جميلة الألفاظ، و محفوفة بظواهر مقبولة من الأعمال. و حاولوا أن يصلوا نحلتهم تلك بعجرها و بجرها بصاحب الشريعة أو بأحد أصحابه فلم يفلحوا، و افتضحت حيلتهم و انقطع الحبل من أيديهم فرجعوا الى ادّعاء الكشف و خرق الحجب و الاطلاع على ما وراء الحسّ الى آخر تلك (القائمة) التي لازالت تسمعها حتى من أفواه العامة، و تجدها في معتقداتهم(10).


الهــوامــش:
1- انظر آثار البشير الابراهيمي /ج4/342-344، و هو جزء من مجموعة محاضرات ألقاها الشيخ البشير في معهد الدراسات العربية العليا في القاهرة في أوائل الخمسينات من القرن العشرين تحت عنوان: الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

2- آثار البشير الابراهيمي /ج3/337.

3- آثار البشير الابراهيمي /ج 3/337.

4- نشرت في العدد 150 من جريدة البصائر سنة 1951.

5- البصائر العدد 183/السنة الخامسة من السلسلة الثانية/18 فبراير 1952م.

6- نشرت في العدد 148 من جريدة البصائر سنة 1951.

7- جريدة البصائر، ع183، في 18 فبراير 1952.

8- آثار البشير الابراهيمي 1/95-96.

9- انظر: آثار البشير الابراهيمي (1/96-97).

10- انظر: آثار البشير الابراهيمي (1/97،99)..

.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.