شيوخ جمعية العلماء متأثرون بمحمد عبده فلماذا يحتمي بهم السلفيون؟
بقلم: د. محمّد همّال –
ما زال الحديث متواصلا بشأن تحليل الظّاهرة السّلفية في الجزائر، وأحبّ أن أطمئن عموم المتسائلين أنّ توقّف الحلقات يعود إلى ظروف شخصية بحتة حالت دون المتابعة، ومع ذلك فقد وفّر هذا الانقطاع فرصة لتلقّي الكثير من الرّدود والتّعاليق، أعرضت عن الكثير منها، خاصّةً المنشورة على الصفحة الإلكترونية للشّروق، وتوقّفت مع أمرين ردّده إخواننا السّلفيّون كثيرًا، الأوّل منهما هو اعتبار الاتّجاه السّلفي نفسه الامتدادَ الطّبيعيَ لفكر جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين، والثّاني اعتبار هذا الاتّجاه صاحب الأحقّية في مذهب الإمام مالك رحمه الله من كثير ممّن يدّعي الانتساب إليه.
وسأتوقّف في هذه الحلقة عند تحليل العلاقة بين الاتّجاه السّلفي وجمعية العلماء المسلمين الجزائريّين، على أمل نشر تحليل لاحق حول دعوى أحقية الانتساب إلى مذهب الإمام مالك.
في البداية، أريد أن أؤكّد أنّني بدأت قراءة أدبيّات جمعية العلماء منذ ما يزيد عن ربع قرن، وأستطيع أن أقول دون فخر أو تعالم، إنّ الشّواهد الّتي ساقها إخواننا السّلفيّون حول إثبات دعوى الانتساب إلى الجمعية لم تكن جديدة عليّ، بل قد كتبتُ ما كتبتُه وأنا على ذكر لكلّ هذه الشّواهد وأكثر من هذه الشّواهد، لكن الأهمّ هو أن ننتبه خلال معالجة الظّواهر المتشابهة، إلى الجوانب المختلفة بين هذه الظّواهر ومحاولة تقديم الإجابة المقنعة عن الأسئلة العالقة، وهو ما يُسمّى في قانون البحث العلمي بالإشكالية، وما لم يتمّ الإجابةُ عن هذه الأسئلة، تكون الشّواهد المساقة مجرّد تأكيد للشّبهة، وليست دليلاً على الدّعوى كما ظنّه المستشهدون.
ويمكن صياغة الإشكالية المفترضة لهذا الموضوع على النّحو الآتي: كيف يمكن التّوفيقُ بين ظواهر التّأييد والمساندة في نصوص علماء الجمعية للاتجاه السّلفي، وبين الواقع الفكري لعلماء الجمعية المغاير لفكر السّلفيّين؟ ولتسهيل هذا الإشكال نقول: كيف لنا أن نجمع بين ظاهر التّشابه في مسائل الاعتقاد الّتي تتضمّنها النّصوصُ المستشهدُ بها من كلام علماء الجمعية، وبين منطق التّفكير المختلف بين علماء الجمعية والسلفيّين؟
وأفضّل أن أبدأ الإجابة على الإشكالية، من خلال تقديم الأدلّة على تصحيح دعوى الاختلاف، وهو اختلاف ظاهر لا سبيل إلى إنكاره، ولا يمكن الاستشهاد له بنص أو عشرة نصوص، بل هو روح سارية في جميع آثار السيّد الرّئيس الإمام الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله على سبيل التّمثيل، ممّا دفع بعض السّلفيّين إلى تأليف ينكر فيه سلفية ابن باديس (الردّ الوافي على من زعم أنّ ابن باديس سلفي)، وهو تعقيب على تأليف لأحد زملائنا يثبت فيه سلفية ابن باديس من خلال النّصوص الّتي ينقلها من كتبه.
كما يكفي الرّجوع إلى ما كتبه العارفون بفكر ابن باديس، مثل تلميذه الشّيخ عبد الرحمان شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الأسبق، في كتابه (مقدّمة مجلّة الشّهاب)، قال1: "وكان الشّيخ عبد الحميد بن باديس نفسه قد خاض مجال التّعليم وشرع في العمل منذ سنة 1913م في قسنطينة متأثّرًا بالحركة الإصلاحية والنّهضة العربية الإسلامية بالمشرق الّتي رفع لواءها القادة المصلحون: الإمام جمال الدّين الأفغاني، والشّيخ محمّد عبده، وتلميذه الشّيخ محمّد رشيد رضا الجانحون إلى تكوين الرّجال، وبناء النّهضة على الإصلاح الدّيني الصّحيح، المؤدّي إلى الإصلاح الاجتماعي والسّياسي الشّامل".
وقال الشّيخ الرّئيس الإمام عبد الحميد بن باديس نفسه، في أحد افتتاحيات الشّهاب بعنوان (الإصلاح بين الأمس واليوم): "أوّل من نادى بالإصلاح الدّيني علما وعملا نداءً سمعه العالم الإسلامي كلّه في عصرنا هذا هو الأستاذ الشّيخ محمّد عبده، وأوّل من قام بخدمته بنشرة إسلامية عالمية هو تلميذه حجّة الإسلام السيّد محمّد رشيد رضا صاحب المنار رحمهما الله وجازاهما عن الإسلام والمسلمين خير ما جازى به المجتهدين لهذا الدّين... "2.
ويقول رفيق درب ابن باديس ورئيس الجمعية بعده الأستاذ العلاّمة محمّد البشير الإبراهيمي: " لا نزاع في أنّ أوّل صيحة ارتفعت في العالم الإسلامي، بلزوم الإصلاح الدّيني والعلمي في الجيل السّابق لجيلنا هي صيحة إمام المصلحين الأستاذ الإمام الشّيخ محمّد عبده رضي الله عنه، وأنّه أندى الأئمّة المصلحين صوتا، وأبعدهم صيتا في عالم الإصلاح... وكان الأستاذ أعجوبة الأعاجيب في الألمعية، وبعد النّظر، وعمق التّفكير، وحدّة النّظر، واستنارة البصيرة، وسرعة الاستنتاج، واستشفاف المخبآت، حكيما بكلّ ما تؤديه هذه الكلمة من معنى ... "3. والنّقول في تأثّر علماء جمعية العلماء المسلمين الأقوى والأشدِّ بفكرة الأستاذ الإمام محمّد عبده وصاحبه السيّد محمّد رشيد رضا كثيرة لا يناسب المقام سردها، أقتصر على بيتِ شعرٍ لشاعر الجمعية وأحد علمائها يحفظه صغار الطّلبة، وهو محمّد العيد آل خليفة، يرثي فيه علاّمة الجزائر الشّيخ ابن باديس، مشبِّهًا إيّاه بالشّيخ الإمام محمّد عبده:
وأَشْبَهْت في فقه الشّريعة عَبْدَه فهل كُنْتَه أم عَبْدُهُ فيك يُنْشَر
ويكفي الرّجوع إلى مَن كتب حول علاقة جمعية العلماء المسلمين بالدّعوة الإصلاحية في مصر، وإلى ما كتبه الدّكتور السّعودي العبّود في رسالته للدّكتوراه ( دعوة الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب الإصلاحية وأثرها في العالم الإسلامي ). نقول هذا ونؤكّده لأنّ موقف السّلفيّين من دعوة الشّيخ محمّد عبده معلوم، وانتقاداتهم اللاّذعة لدعوته مدوّن مزبور، ونحن نشفق عليهم من التزامهم بالانتساب إلى جمعية العلماء المسلمين؛ لأنّه سيلزمهم بلوازم لا قِبَل لهم بالتزامها، وتُحدث في تنظيمهم انشقاقات أكبر من انشقاقات الأحزاب السّياسية اليوم، لكنّنا نتفهّم لماذا يحتمي السّلفيون بجمعية العلماء المسلمين، دون الاحتماء بالجماعات السّلفية المسلّحة الّتي توافقهم في الأصول العقدية بصفة أكثر وأوضح؛ ولو ذهبنا نسرد نصوص جماعات القاعدة والجماعات المسلّحة على نفس الموضوع الّذي أثبت به السّلفيّون انتسابهم إلى جمعية العلماء المسلمين لملأنا صفحتين كاملتين من الجريدة، ويكفي أن يُعلم أنّ هدم القباب والأضرحة يفعله السّلفيون الجهاديون تأثّرًا بأدبيات الشّيخ ابن عبد الوهاب رحمه الله، فهل من العدل أن يُنسَب السّلفيّون إليهم بمجرّد ذلك؟ بل نقول إنّ خطوط التّقاطع بين السّلفية العلمية والسّلفية الجهادية كثيرة، والفارق الوحيد بينهما هو موضوع العمل السّياسي بشقّيه المدني والمسلّح، أمّا موضوع التّكفير الّذي يخوّف به السّلفيون ويهدّدون، فهو موضوع فقهي فروعي بين الاتّجاهين السّلفيين وليس من الأصول العقدية بينهما، وقد وقع حوله تراشق كبير، أفضى في النّهاية إلى نبز السّلفية العلمية للجهادية بالتّكفير، ونبز السّلفية الجهادية للسّلفية العلمية بالإرجاء.
وإنّك لتعجب أشدّ العجب أن تجد أتباع جمعية العلماء المسلمين الجزائريّين، الأموات منهم والأحياء يؤكّدون تأثرهم بفكر الشّيخ محمّد عبده، ثمّ يأتي إخواننا السّلفيون ليناقضوا هذا التأكيد ويثبتوا خلافه بمجرّد ورود ظواهر وشبهات، وهو المنطق نفسه الّذي طبّقوه على الإمام أبي الحسن الأشعري، عندما برّأوه من الآراء الّتي يحكيها أتباعه الأشاعرة عنه، بمجرّد كتابه الإبانة وكونه آخر كتبه، ويفعلون ذلك مع كلّ من وافقهم في بعض الأصول، والأمر نفسه ارتكبوه مع الإمام مالك، بمجرّد ورود روايات أو أقوال توافق منطق تفكيرهم، ضاربين توجيه علماء المذهب لها بعرض الحائط، وهو ماسيأتي تفصيله بشكل أكثر في موضوع لاحق.
* دكتوراه في أصول الفقه، جامعة الجزائر1