عبد الحميد بن باديس
بقلم: د. هشام الحمامي-
إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت بل هي أمه بعيده عن فرنسا كل البعد في لغتها وفى أخلاقها وفى عنصرها وفى دينها"..
" إننا نعتصم بالحق ونعتصم بالتواضع عندما نقول إننا شعب خالد ككثير من الشعوب، لكنا ننصف التاريخ إذا قلنا: إننا سبقنا هذه الشعوب في ميادين الحياة.... وعلينا أن نعرف تاريخنا فمن عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة في هذا الوجود، ولا رابطة تربط ماضينا المجيد بحاضرنا الأعز ومستقبلنا السعيد إلا هذا الحبل المتين: اللغة العربية.. لغة الدين.. لغة القومية.. لغة الوطنية.
إنها وحدها الرابطة بيننا وبين أحفادنا الميامين، هي الترجمان عما في القلب من عقائد وما في العقل من أفكار وما في النفس من آمال وآلام.". هذه بعض أقوال عبد الحميد بن باديس أبو الثورة الجزائرية ورايتها ورمز هويتها... مؤسس "جمعية العلماء المسلمين"، العالم القرآني.. المفكر المناضل العروبى الإسلامي السلفي المعتزلي.. وهي صفات لا تحمل أي قدر من المبالغة في وصف هذا الرجل الذي امتدت رحلة عمره القصيرة (51 عاماً.. 4-12-1889م / 16-4-1940م).. وبحسب مصادر كثيره فإن وفاته يرجح أنها كانت اغتيالاً..
كانت نشأته في بيت من بيوت العلم والشرف والثروة في مدينة "قسنطينة"، وهو ما هيأه مبكراً للاضطلاع بدوره التاريخي في أحلك فترة من فترات التاريخ على العروبة والإسلام في الجزائر.. أتم حفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، ودرس علوم العربية والإسلام على يد شيخه وأستاذه "أبو حمدان الونيسي" في مسجد سيدي محمد النجار، الذي أخذ عليه عهداً ألا يعمل بوظيفة حكومية تحط من كرامته وتقيد حريته..
ثم ذهب إلى تونس سنة 1908م، حيث درس على يد اثنين من العقول النيرة في دنيا الفقه والفكر والأدب الشيخ "الطاهر بن عاشور" والشيخ "الخضر حسين" الذي أصبح شيخاً للأزهر، ثم عاد إلى الجزائر سنه 1912م بعد أن حمل شهادة "التطويع"..
كان الشيخ "أبو حمدان الونيسى" الذي لم يحتمل رؤية الجزائر وهي تسلخ من هويتها بهذه البشاعة والقسوة قد رحل إلى المدينة المنورة مهاجراً؛ إذ إن الحكومة الفرنسية كانت قد أصدرت قراراً عرف باسم "سانتوس كونسلت" الذي يجعل الجزائريين رعايا فرنسيين يحملون الجنسية الفرنسية، بشرط عدم الخضوع لقانون الأحوال الشخصية الإسلامي.. ويبدو أن فكرة الهجرة كادت تقترب من رأس صاحبنا، فسافر بالفعل وهو في السابعة والعشرين (1912 م) إلى المدينة ليلتحق بشيخه، لكن الله قيض له من نصحه نصيحة العمر، وهو الشيخ "حسين أحمد الهندي" فقال له : "لا تترك وطنك واجتهد في خدمه دينك وعد إلى ديارك". ومر في طريق عودته بالشام ومصر التي قابل فيها الشيخ "محمد بخيت" بتوصية من شيخه "الونيسي" الذي منحه بدوره إجازة علمية من الأزهر، وعاد إلى بلاده وهو يحمل بين جنبيه مشروعاً متكاملاً لإنقاذ هوية وطنه، العربية والإسلامية من بين أيدي وأنياب أشرس استعمار عرفته الإنسانية في تاريخها كما يقول الدكتور حسين مؤنس يرحمه الله..
فكان مشروع "جيل يمتلك فكرة صحيحة ولو مع علم قليل".. تنحسر مهمة هذا الجيل في الحفاظ على الهوية والتمهيد للاستقلال، وتهيئه الطريق لجيل التحرير المنشود.. وبدأ الحرث والغرس من فوره، وفى خلال ثمانية عشر عاماً كان النبت قد استوى واستوفى.. ففي 5-5-1931 م عقد مؤتمر كبير في العاصمة الجزائرية حضره علماء الجزائر وفقهاؤها ومثقفوها، واستمر لمدة أربعة أيام ويعلن قيام "جمعية علماء المسلمين"، وتم انتخاب ابن باديس بالإجماع رئيساً لها في غيابه.. ويتزامن ذلك مع مرور قرن كامل على الاحتلال الفرنسي للجزائر (14-6-1830م) الذي احتفت به سلطات الاحتلال بشكل هائل ،وقرروا أن تمتد الاحتفالات بهذه المناسبة لمدة ستة أشهر، ولكن رياح المقاومة التي بدأت تنتظم في هيكل وقيادة أوقفتها بعد مرور شهرين فقط..
حددت الجمعية أهم هدف لها وهو الحفاظ على عروبة وإسلامية الجزائر، حتى إذا ما تجاوز خطر (السلخ) من العروبة والإسلام الذي سخرت له فرنسا كل إمكاناتها.. يأتي الدور على الأجيال المحصنة ثقافياً وقومياً لحمل السلاح وتحرير كامل الوطن الجزائري.. وبدأت الجمعية من فورها في تأسيس الكتاتيب والمدارس وإحياء الدور التعليمي للمسجد.. وأدرك الفرنسيون خطورة هذه الخطوة فبدؤوا في التضييق عليه..
ومن أطرف ما يحكى في ذلك: أنه لما قامت الجمعية بتطوير الأساليب القديمة في الكتاتيب صدر قرار بإلغاء تراخيصها؛ لأنها مخالفة للقانون الذي يحتم أن يحوي الكتاب "حصيرة" و"عصا" و"فلقة"..!
على الرغم من أن أغلب الطرق الصوفية في مصر "مغاربية" الهوى الشاذلي والمرسى فقد كان للحركات الصوفية في مصر دور كبير في مواجهة الغزو الخارجي بكل أشكال المواجهة.. إلا أن الأمر لم يكن كذلك في التجربة الجزائرية وتحوي صفحات التاريخ تفاصيل كثيرة عما كان بين "جمعية علماء المسلمين" والطرق الصوفية التي كانت تسمى "الطرقية".
ورأى "ابن باديس" أن الطرقية يقومون بدور خطير في شل همة الأمة وإرادتها المستمدة من الإسلام حين أشاعوا بين الناس أن "الاندماج في فرنسا امتثال لإرادة الله.. وإذا أراد الله أن يكسح الفرنسيين من هذه البلاد لفعل، وهو على كل شيء قدير" وطبيعي أن يلقى هذا الخطاب الموغل في الانهزامية ترحيباً كبيرًا من الفرنسيين؛ إذ إنهم بذلك "يحطبون" في حبالهم ويصبون في أوانيهم، وسجل التاريخ هنا نقطة غير مضيئة للحركات الصوفية في هذا التعاون مع المحتل الذي تبدى في صورة خصومة معلنة مع "جمعية العلماء"، واعتبر ابن باديس هذه الخصومة موقفاً مبدئياً لا مساومة حوله، ورفض كل محاولات المصالحة التي تدخل في إحداها بعض علماء الأزهر، إلا أنه أعلن بحسم أنه "لا أمل في مثل هذه المصالحة"..
وانتهت تلك المواجهة مع الطرقية لصالح الجمعية، وانحسر بالفعل التأثير السلبي للطرقية بين جموع الشعب الجزائري، وظلت صورة "الإسلام المقاوم للفرنسة" حاضرة في وعي الناس.
لن ندهش حين نعلم أن الشيخ عبد الحميد بن باديس لم يجعل جهاده ونضاله مجرد رد فعل لغزو أجنبي، بل كان مشروعاً إصلاحياً بالأساس.. ويبدو أن محطة تفسير القرآن الكريم أغرت كل المصلحين العظام بالوقوف عندها (محمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا) وعلى الدرب نفسه إلا قليلاً سار ابن باديس.. فكان يلقي دروس التفسير يومياً وعلى مدار 25 عاماً في الجامع الأخضر بقسنطينة.
كانت الصحافة أيضاً ميداناً فسيحاً صال فيه الشيخ وجال، فأصدر عام 1925م جريدة "المنتقد" الذي كتب في افتتاحيتها "باسم الله، ثم باسم الحق والوطن ندخل عالم الصحافة العظيم.." ويبدو أن "عالم الصحافة العظيم" هذا كان وقتها كالإنترنت والفضائيات في أيامنا.. لم يصدر من "المنتقد" سوى 18 عدداً وأوقفها الاحتلال. بعدها أصدر "الشهاب" سنة 1926 م التي كانت فكرية الطابع، وتؤكد على ربط الواقع بالدين... فيكتب في أحد أعدادها ما اشتهر ب "الوصايا الثلاث" :
· كن صادقاً في معاملاتك بقولك وفعلك.
· كن عصرياً في فكرك وعملك وتجارتك وصناعتك وفلاحتك وتمدنك ورقيك.
· أحذر الخيانة المادية في النفوس والأعراض والأموال، والأدبية ببيع الذمة والشرف والضمير.
سنة 1936م ذهب إلى باريس مع وفد من الجمعية لمقابلة وزير شؤون الجزائر الذي هدده بأن لدى فرنسا "مدافع طويلة"، فرد عليه ابن باديس فوراً: "لدينا مدافع أطول"، ويدهش الرجل فيسأله: ما هي؟! فيقول له مقولته الشهيرة "مدافع الله".
وحين عاد إلى الجزائر يأتيه شباب الحركة الوطنية ويطالبونه بإعلان الاستقلال والثورة، فيطالبهم بالتمهل لأن البيت لا يبدأ بناؤه بالسقف قبل الجدران والأعمدة.. ويطالبهم بحسن معاملة المختلفين معهم في الرأي فيوصيهم بأن "من قبل دعوتنا فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوة في الله فوق ما يقبل ويرد".. وتؤكد الروايات أنه كان ينوي إعلان الثورة على فرنسا في اليوم الذي تعلن فيه إيطاليا الحرب على فرنسا وقت الحرب العالمية الثانية.. ولكن دوماً في آمالنا طول وفي أعمارنا قصر.
"دعوتنا سلام على البشرية لا يخشاها النصراني لنصرانيته، ولا اليهودي ليهوديته.. ولكن يخشاها الظالم لظلمه، والدجال لدجله، والخائن لخيانته"... كانت هذه الكلمات الرائعات في خطبة للرجل يدشن بها افتتاح مؤسسة تعليمية سنة 1937 م، وكان الزرع قد بدأ يستوي على عوده، وقارب زمن القطاف... وكان التسليم والتسلم بين جيل المقاومة الثقافية وجيل المقاومة العسكرية قد بدأ.. ثم لم يلبث الرجل بعدها إلا قليلاً فينتقل إلى رحاب ربه بعد أن غرس في وعي أمته معنى "صون الهوية".. معنى أن تكون عربياً.. معنى أن تكون مسلماً.
* مجلة المجتمع العدد 1730 الصادرة بتاريخ 09-12-2006