الشّيخ محمّد الطّاهر آيت علجت.. مسيرة قرن من العلـم والجهــاد

بقلم: عبد الحكيم قماز -

قال الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}.. والشّيخ محمّد الطّاهر آيت علجت، حفظه الله وأطال عمره، يُعدّ أحد أبرز علماء الجزائر خاصة والعالم الإسلامي ككلّ، قضى قرنًا من الزّمن ومازال ليومنا هذا في خدمة العِلم وأهله، طالبًا ومعلّمًا ومُصلحًا وموجّهًا ومجاهدًا مع إخوانه بالعِلم والسّلاح لتحرير الجزائر والوطن العربي والإسلامي من الاستعمار الغاشم.. ومتابعًا مسيرته بعد الاستقلال في تعليم وتكوين جيل الاستقلال في المدارس الجزائرية ومساجد القطر، دون كلل أو ملل.

ولد العلاّمة الشّيخ محمّد الطّاهر بن مقران بن محمّد الطّاهر آيت علجت يوم 5 محرم 1334هـ الموافق لـ7 فيفري 1916م ببني عيدل في بلدية ثامقرة ولاية بجاية. حفظ القرآن الكريم على يد والده، وهو في الحادية عشر من عمره، ثمّ أوكله إلى ثلاثة من شيوخ ثامقرة، أوّلهم الشّيخ الصّالح أوقاسي (المتخصّص في القراءات العشر) تلقّى شيئًا منه إلى جانب مبادئ العلوم الشّرعية والنّحوية، وثانيهم الشّيخ محند وعلي والطيب، أمّا ثالثهم فهو الشّيخ الطيّب اليتورغي. بعد ذلك ومثلما يؤكّد تلميذه محمّد الصّغير بن لعلام، ألحقه والده بزاوية سيدي أحمد أويحيى بأمالو، وهي لا تبعد عن ثامقرة، وعمره 12 سنة، فدرس على شيخين جليلين من كبار علماء المنطقة، بل من كبار علماء الجزائر، مدّة 4 سنوات، أوّلهم الشّيخ لحلو الخياري (كان حجّة في الفقه المالكي وفي القراءات)، والثاني هو العلاّمة الشّيخ السّعيد اليجري (أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) مختلف فنون العلم كالفقه واللغّة والصرف والبلاغة والفلك والحساب، ثمّ شدّ الرِّحال إلى زاوية سيدي الشّيخ بلحملاوي بوادي العثمانية قرب قسنطينة، حيث أتمّ هناك دراسته الشّرعية من فقه ولغة، كما تعدّاها إلى غيرها من العلوم كالحساب والفلك، بالإضافة إلى العلوم الإنسانية كالتاريخ والجغرافية وغيرها، على يد خمسة شيوخ كلّهم زيتونيون، ثلاثة منهم تونسيون هم: الشّيخ مصباح الحويدق والشّيخ محمد والشّيخ محمود قريبع، وجزائريان: الشّيخ السّعيد اليعلاوي والشّيخ أحمد البسكري.

تدريسه لمختلف العلوم

وعاد إلى قريته ثامقرة وهو في العشرين من عمره، عالمًا متكاملاً أُهِّلَ لأن يتبوّأ مقعد الأستاذية ويعتلي كرسي المشيخة للتّدريس، وأوّل ما قام به هو العمل على إحياء زاوية جدّه الّتي هدّمها الاستدمار، وكان له ما أراد بالتّعاون مع سكان ثامقرة، ووقع ذلك –يضيف الأستاذ بن لعلام- في 1937م، فاستأنف هذا المعهد العتيق الّذي أسّسه العالم الربّاني الوليّ الصّالح سيدي يحيى العيدلي في القرن التاسع الهجري، نشاطه في تحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشّرعية واللّغوية والقراءات والحساب.. ففاضت شهرته العلمية وحسنت سمعته، فأقبل عليه الطلبة زرافات ووحدانًا، ليس من أهل المنطقة فحسب، بل من المناطق المجاورة مثل المسيلة والبرج وسطيف وتيزي وزو وضواحيها. وأنشأ الشّيخ الطّاهر نظامًا خاصًا بزاويته شبيهًا بنظم المعاهد الإسلامية الكبرى، وكان تلامذته يلتحقون بالزيتونة بزاد من العلم والأدب يشرف زاويتهم والقائم عليها.

زاويته ملاذ للمجاهدين

بعد السّمعة الطيّبة الّتي تركها الشّيخ في نفسية الطلبة، تحوّلت زاوية جدّه سيدي يحيى العيدلي إلى ملاذ وملجأ لكثير ممّن تبحث عنهم السّلطات الاستعمارية، حيث كانوا يتوافدون على الزاوية الّتي أضحت مؤسسة دينية واجتماعية وخيرية مفتوحة لكلّ للطّلبة والزوار.

نفي الشّيخ

وفي هذه الأثناء، كانت فرنسا تراقبه من خلال عيونها وأعوانها وأذنابها، فقرّرت نفي الشّيخ الطّاهر من ثامقرة سنة 1948، بينما حاول طلبته ومريدوه إبطال هذا القرار، فكوّنوا –بحسب الأستاذ بن لعلام الّذي كان واحدًا منهم- وفدًا للاتصال بقائد الدوار، لكن القائد تبرّأ من المسؤولية وأجابهم “ليس في يدي شيء.. اذهبوا إلى بن علي الشيف (الحاكم بأمره في المنطقة)”، وذهبوا إليه في قصره في لعزيب، فلم ينزل من برجه العاجي حتّى لاستقبال ممثّل عنهم.

لكن الشّيخ استقبل قرار نفيه بابتسامته المعهودة، وبصبر جميل ونفس مطمئنة، فلحق بمنفاه في زاوية سيّدي سعيد بضواحي صدوق، ومكث فيها سنة واحدة معزّزًا مكرّمًا، إذ اعتبر طلاّب هذه الزّاوية وسكان القرية نزول الشّيخ الطّاهر في ضيافتهم بركة من الله عليهم.

تدمير المستعمر الفرنسي للزّاوية

بعدما رجع الشّيخ الطّاهر آيت علجت إلى مسقط رأسه سنة 1937، تولّى التّدريس والتّعليم بزاوية سيّدي أحمد بن يحيى بأمالو، وكان يقدّم فيها دروس تعليم القرآن واللّغة العربية والشّرعية، إلى غاية سنة 1956م حين أحرق الجيش الفرنسي الزّاوية.

التحاقه وطلبته بثورة التّحرير

شارك الشّيخ آيت علجت في الثورة الجزائرية هو وسائر طلبة الزّاوية الّذين التحقوا كلّهم بركب المجاهدين بعد تفجير الاحتلال الفرنسي لزاويتهم (الّتي تأسّست في القرن التاسع الهجري) في 1956، لأنّها كانت تدعو للثّورة ضدّها منذ الاحتلال الأوّل للجزائر. وقد وصف الشّيخ تلك الحقبة بالذهبية لأنّها كانت تمتاز بالأخوة والتّعاون والتّضحيات.

القاضي الشّرعي لجيش التحرير

كانت بداية الشّيخ آيت علجت خلال انضمامه لصفوف جيش التّحرير كقاضٍ شرعي، حيث كان ينتقل مع مجموعة من الجنود بين الكتائب في القرى والمداشر للنّظر في مختلف القضايا الّتي كانت تطرح على المواطنين وعلى الثّورة المباركة، فيحكم بما وفّقه الله في ذلك.

انتقاله إلى تونس ثمّ ليبيا

سافر إلى تونس في أواخر 1957 بإشارة من الشّهيد العقيد عميروش الّذي كان الشيخ يتولّى منصب القضاء في كتيبة جيشه، كما كان يتولّى فصل الخصومات، حيث كلّفه العقيد عميروش بالسّفر إلى تونس والإشراف على النشاط التعليمي للطلاب الجزائريين هناك، ثمّ انتقل إلى طرابلس الغرب بليبيا حيث عُيّن عضوًا في مكتب جبهة التحرير هناك، فبذل الشّيخ قصارى جهده إلى أن استقلّت الجزائر.

شهداء الزّاوية

شارك طلاب الزاوية بأمر من شيّخهم العلاّمة الطّاهر آيت علجت في الثورة التحريرية الكبرى، ثورة أوّل نوفمبر 1954م، وانتقل منها إلى الرّفيق الأعلى ما يربو على 100 شهيد، وعلى رأسهم 4 ضباط من جيش التحرير الوطني وهم: سي عبد الرّحمن بن الموفق، وسي جمعة أويخلف (كان أوّل مساعد للشّيخ في التّدريس)، وسي سليمان أنتوال، وكذلك إسماعيل أنتوال وغيرهم.

بعد الاستقلال وفي سنة 1963 عاد إلى الجزائر، وعيّن أستاذا بثانوية عقبة بن نافع بالجزائر العاصمة، ثم بثانوية عمارة رشيد في بن عكنون، إلى أن أحيل على التقاعد سنة 1978م.

أبرز تلاميذه

يعد تلاميذ الشّيخ آيت علجت، كما يحصي تلميذه الأستاذ محمّد الصغير بن لعلام، بالعشرات، بل بالمئات من كلّ أرجاء الوطن، لأنّ الشّيخ مكث في الزّاوية 20 سنة، ثمّ في الثانويتين (عقبة وعمارة) ثمّ وهو متنقل من مسجد إلى آخر منذ أن أحيل إلى التّقاعد.

وتخرّج على يدي العلاّمة المئات من الطّلبة المتمكّنين، من أبرزهم المفكّر الجزائري والعلاّمة الموسوعي مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله، والعلاّمة الشّيخ محمّد الشّريف قاهر عضو المجلس الإسلامي الأعلى وأستاذ التشريع الإسلامي بالمعهد العالي للقضاء، والأستاذ محمّد الصّغير بن لعلام، والشّيخ أبو عبد السلام، واثنان من المجاهدين وضباط جيش التحرير: محمّد الطّاهر بوزغوب، ومحمّد الطّاهر زقرور..

مولود قاسم يرجعه لوزارة الشّؤون الدّينية

وبطلب من وزارة الشّؤون الدّينية أيّام الوزير المثقف الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله الذي قال للشيخ، عاد الشّيخ الطّاهر إلى نشاطه المسجدي، ليُمارس دروس الوعظ والإرشاد بمسجدي القدس والإمام الغزالي في حيدرة، وغيرهما من مساجد القطر، وهو إلى اليوم يعقد دروسًا في الفقه والنّحو وعلم القراءات والمواريث وغيرها من العلوم الشّرعية بمسجد بوزريعة مكان إقامته، متّعه الله بالصحّة والعافية وأطال عمره في طاعته سبحانه وتعالى ونفع به الأمّة قاطبة.

وكان للشّيخ الطّاهر دور كبير في تأسيس رابطة الدّعوة الإسلامية سنة 1989 بهدف توحيد الأحزاب والجماعات، وتوجيه العمل الدّعوي واجتناب التّناحر والفرقة، لجعلها متآخية متعاونة على المصلحة العامة ومصلحة الإسلام والوطن.

آثار الشّيخ الطّاهر

للشّيخ آيت علجت مؤلّفات في فنون كثيرة، منها شرحه لرسالة ابن أبي زيد القيراوني، وكذلك له شرح لمختصر خليل، وشرح لكتاب المواريث للعلامة الجزائري سيّدي عبد الرّحمن الأخضري، وله أيضًا شرح لألفية ابن مالك، وكذلك شرح لامية الأفعال لابن مالك، إضافة لشرح الجوهر المكنون في البلاغة لسيدي الأخضري. كما أنّ ابن الشّيخ الطّاهر بصدد كتابة مذكّرات تروي تاريخه وتاريخ الثّورة التّحريرية المباركة، وتقييمه للأحداث ومواقفه عبر مسيرته الرّائدة. 

الأستاذ محمّد الصغير بلعلام تلميذ الإمام آيت علجت: لولا الشّيخ الطّاهر ما كنتُ!”

قضى الإمام الصّالح المُصلح المفتي، التقي النّقي، المنفرد في الأخلاق، والسّلوك وعزّة النّفس، والصّمود، ونكران الذّات، الغيور على دينه ووطنه، أطال الله في عمره ونفعنا بعلمه وبركته، ما يقرب من 80 سنة في التّعليم والإقراء، في زاوية جدّه الشّيخ القطب الوليّ الصّالح سيدي يحيى العيدلي في ثامقرة الّتي بعثها من جديد في سنة 1937، بعد أن خرّبها الاستدمار الفرنسي عندما احتلّ المنطقة، وفي الثانويات بعد استعادة السّيادة الوطنية في 1962.

وإلى يوم النّاس هذا، ما يزال يبث العِلم في نفوس الشّباب، في مختلف المعاهد والزّوايا والمساجد، وفي بيته في أحيان كثيرة، فلا يعرف راحة ولا يرفض طلبًا رغم سنه الّتي تجاوزت المائة، والّتي يئن تحت وطئتها ظهرُه، فالشّيخوخة الّتي يتّخذها بعضهم عصًا يتّكِئ عليها للتخلّص من الواجب الّذي فرضه الله على أهل العلم، واجب إرشاد الأمّة وتنويرها، ونشر العلم والأخلاق الحسنة، فهو إلى يوم النّاس يؤم المؤمنين في صلاة الجمعة كلّ أسبوع، ولا يتخلّف عنها إلاّ للضّرورة القصوى.

وشيخنا مثل جدّه سيدي يحيى العيدلي العالم القطب الربّاني، ابن منطقته في التعلّم والقراءة، فكانت مدرسته الأولى مسجد ثامقرة، حيث كان والده هو شيخه الأوّل وعلى يديه حفظ القرآن الكريم، وهو في الـ11 من عمره.

والشّيخ الطّاهر ليس ككلّ الشّيوخ، شيخا للعلم والسّلوك والأخلاق فحسب، وإنّما كان قبل كلّ ذلك وبعد كلّ ذلك شيخًا للوطنية، بل كان منارة للوطنية في المنطقة، وكانت زاويته ملجئا لكثير ممّن تبحث عنهم السلطات الاستدمارية الفرنسية، وقد كان هؤلاء المبحوث عنهم يتوافدون إلى الزّاوية بين الفينة والأخرى بصفات مختلفة، فمنهم من قيل إنّه مريض، وآخر عابر السّبيل، وثالث ألجأته الحاجة، والزّاوية كمؤسسة دينية واجتماعية وخيرية مفتوحة لكلّ أولئك. وما كانت عيون فرنسا وأعوانها وأذنابها لتغفل عن كلّ ذلك، وما كانت لتسكت عن الشّيخ ونشاطاته تلك، فدفع ثمنًا غاليًا، إذ قرّرت السّلطات نفيه من ثامقرة سنة 1948، وقد حاول الطلبة إبطال هذا القرار فكوّنوا وفدًا للاتصال بقائد الدوار، وكنتُ أحد أعضاء هذا الوفد، ولكن القائد تبرّأ من المسؤولية، وأجابنا بجملة واحدة: ليس بيدي شيء، اذهبوا إلى بن عليّ الشّيف (الحاكم بأمره في المنطقة) فذهبنا إليه في قصره في لعزيب، فلم يتنازل من برجه العاجي حتّى لاستقبال ممثلين أو ممثل عنّا.

وبقي الشّيخ في الزّاوية معلّمًا ومدرّسًا ومفتيًا ومصلحًا إلى غاية 1956، حيث تفرّغ للعمل في صفوف الثّورة مع العقيد عميروش رحمه الله كقائد ومرشد، وفي سنة 1956م أمره قائد الولاية الثالثة الشّهيد العقيد عميروش رحمه الله بالالتحاق بتونس، حيث كُلّف بالإشراف على الطلبة الّذين ترسلهم الولاية إلى تونس لإتمام دراستهم، وفي سنة 1958 كلّف بالإشراف على التّعليم في دور الطفولة الّتي أنشأتها الحكومة المؤقتة في تونس، ثمّ أُمر بالالتحاق بمكتب جبهة التحرير في ليبيا، وأسندت له مهمّة الملحق الثقافي، تحت إمرة المناضل والمجاهد أحمد بودة رحمه، ثمّ البشير القاضي رحمه الله.

وقد عاد إلى الوطن في 1963م، فالتحق بسلك التعليم مباشرة، حيث عُيّن أستاذًا في متوسطة الأبيار، ثمّ أستاذًا للغة العربية في ثانوية عقبة، ثمّ في ثانوية عمارة رشيد، إلى أن أحيل على التقاعد في سنة 1978، فدعاه تلميذه مولود قاسم رحمه الله الّذي كان آنذاك وزيرًا للتعليم الأصلي والشّؤون الدّينية، فقال له: “بلغني أنّك أصبحت متقاعدًا، فلا ينبغي لك أن تبقى قاعدًا، ولتكن معنا متعاقدًا”، ومنذ ذلك الوقت والشّيخ في المساجد والمعاهد والزّوايا يُدرِّس ويرشد ويوجّه ويفتي، إلى يوم النّاس هذا، ابتغاء مرضاة ربّه، ولا يرجو من وراء كلّ ذلك جزاء ولا شكورًا من أحد.
مجاهد وإطار سابق في الدولة وباحث في التاريخ والإسلاميات

الشّيخ محمّد المأمون مصطفى القاسمي الحسنيالشّيخ آيت علجت من حملة ميراث النُّبوّة

عرفتُ الشّيخ الطّاهر آيت علجت بعد استعادة الاستقلال؛ وعرفتُ فيه العالم المتواضع، ووجدتُه من أولئك المجاهدين المرابطين في الزّوايا، الّذين سجّل التّاريخ أنّهم مَن ذادوا عن عقيدة الأمّة وقيمها الرّوحية والوطنية؛ ونافحوا عن ثوابتها ومقوّمات شخصيتها الإسلامية، وما نسمّيه “المقاومة الرّوحية الفكرية” للاحتلال الفرنسي.

كان الشّيخ من خيار الرّجال الأحرار الفاعلين فيها؛ وهو مَن كان يحمل معهم عبء رسالة عظيمة تمتزج فيها الرّوح الوطنية بالرّوح الدّينية الإسلامية.

الشّيح من حملة إرث النّبوّة؛ تلكم الوراثة العظيمة الّتي تتمثّل في العِلم والعمل، وتمثّل المنهج الوسط للأمّة الوسط. وأحسبه إن شاء الله من العلماء الهادين المهديين الّذين جاء وصفهم في الحديث الشّريف “يَحمِل هذا العِلم من كلّ خَلَفٍ عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المُبطِلين، وتأويل الجاهلين”.

لقد قلتُ في منبر سابق: إنّ من الواجب على الأمّة أن تحفَظ له مكانته، وتقدره حقّ قدره، وتعرّف النّاس بمآثره، لتهتدي الأجيال بسيرته وأعماله. فالأمّة الواعية هي الّتي تعرف للعلماء فضلهم، وتحفظ عهدهم. ولا كرامة للأمّة إذا لم تحفظ حقوق علمائها الّذين يخدمونها في أقدس مقدّساتها، ألاَ وهو دينها، مصدر عزّتها وضامن وحدتها وقوّتها.

حفظ الله الشّيخ الطّاهر، ومدّ في عمره، وبارك في حياته، وجزاه عن أمّته خير ما يجزي به عباده المحسنين.

خادم العلم الشّريف في المقام القاسمي:   4 محطات في حياة العلامة المجاهد المربي آيت علجت

من الصّعب بمكان أن يُدلي الإنسان بشهادته حول جبل من جبال الكفاح العلمي والتربوي والدّعوي والنّضال الثوري.. وذلك لرصيدهم الكبير في العلم والتّعليم والتّربية والجهاد، وتاريخهم، وضخامة الأعمال الّتي قدّموها، والجهود الّتي بذلوها.

فمن يستطيع أن يوفّي بحقّهم ومقامهم؟ مهما سطّرت الأقلام، ودبجت يراع الكُتَّاب من المقالات والشّهادات، ولكن حسبنا أن نشارك ولو بالقليل في التّنويه بجهادهم والإشادة بمواقفهم، وتلك لعمري من شيم الأوفياء وأخلاق الكرام، وطهارة المحتد كما قال الإمام الشافعي رحمه الله “الحُرُّ من حفظ وِداد لحظة، ومَن أفاده لفظة”.

وإذا لم ننوّه بعلمائنا وصُنَّاع مجدنا، وأصحاب الفضل علينا، ومَن حافظ على ديننا ولغتنا وهويتنا، فبِمَن ننوّه!؟
أليس رسولنا صلّى الله عليه وسلّم تبرَّأ من أولئك الّذين لا يعرفون أقدار علمائهم، فقال “ليس منّا مَن لم يُجِلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقّه”.

وهذه ثلاث محطات سريعة أقف فيها مع القارئ الكريم في مسيرة شيخنا العامرة بالجهاد والكفاح، لعلّها تكون نبراسًا للشّباب، ودروسًا بليغة للنّاشئة الجزائرية.

المحطة الأولى: الجهاد لتحرير الوطن

عندما التحق الشّيخ بنداء الجهاد واستجاب لصوت الثورة التحريرية، فصال وجال مع قائده ورفيق دربه الشّهيد عميروش رحمه الله، ضرب المثل والقدوة للعالم الواعي بواجباته نحو وطنه، رغم موقعه العلمي ودوره في التعليم في الزّاوية، ولكنّه فضَّل أن يخوض ساحات الوغى ليقوم بواجب الجهاد ويعزّز الثورة المظفّرة بالعلم والتعليم والإرشاد الدّيني والقضاء الشّرعي، تحصينًا للثورة، وتعميقًا لمفهومها الشّامل، أي أنّها ثورة شاملة عسكريًا وعلميًا واجتماعيًا، فكان الشّيخ يقوم بواجباته الجهادية والإشراف على القضاء الشّرعي والفتوى.

المحطة الثانية: أمانة العلم والتعليم

فقد قام الشّيخ بهذه الأمانة، بل كافح وناضل وجاهد وجالد في سبيلها طيلة 70 عامًا، لم تضعف إرادته رغم ما عاشه من ظروف صعبة وأحوال عسيرة لا تشجّع على المضي في هذا الطّريق الشّاق. لكن إيمانه العميق بوجوب التعليم ونشر حقائق الدّين واللّغة العربية، ووعيه بالجهاد العلمي وضرورته في الوقوف أمام التّغريب والسّلخ الثقافي، كل ذلك جعله لا يفتر ولا يضعف في سبيل أداء هذه المهمّة النّبيلة الشّاقة.

المحطة الثالثة: عظمة الأخلاق

كلّ مَن عرف الشّيخ ولقيه، ينبهر بعظمة أخلاقه وجمال محياه، وكرم ضيافته، وابتسامته الإيمانية، النّابعة عن صفاء السّريرة وحُسن الخُلق.

المحطة الرابعة: نور الإيمان

أمّا نور الإيمان النّابع من وجهه الكريم فهو الدّرس البليغ لكلّ مَن يُريد أن يتظاهر بالمظهريات الزّائفة للمجتمع، والّتي مهما حاول أن يُزخرفها فلن يستطيع إلى ذلك سبيلاً.

فقد وهب الله شيخنا نورًا يدلّ على الخشية والإيمان الصّادق، كما قال الله عزّ وجلّ {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر:28.

حفظ الله شيخنا فهو العالم الربّاني والمجاهد المربّي المعلّم والإمام الخطيب والوطني الصّادق.

الشّيخ يحيى صاري إمام مسجد الأبرار بوزريعة: الجانب الاجتماعي في أسرة الشّيخ آيت علجت

كان الوالد الشّيخ محمّد الطّاهر الابن الأوّل للجدّ، وقد ظهرت عليه سمات النّجابة والخُلق منذ صغره، نتيجة تربية والده له تربية حسنة، في أسرة محافظة على الخُلق والدّين والاستقامة ومحبّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد سمَّت البنين والبنات بأسماء الأنبياء وزوجات الرّسول وبناته رضوان الله عليهنّ.
والوالد عطوف خلوق محافظ، يحرص على تربيتنا كما ورثها عن أبيه، من تحفيظ أبنائه للقرآن الكريم واللغة العربية، وكان كذلك أبًا محافظًا على تربية أبنائه على محبّة النبي وعلى حفظ القرآن الكريم وتعلُّمه وتعليمه.

وكان جدّي رحمه الله يُعَيَّر من قِبل أقرانه وزملائه وأصدقائه لأنّه كان يُنفق أمواله على تعليم أبنائه، ولم يكن ينفقها في شراء الأراضي، كان يوجّه أبناءه لطلب العلم والتعلُّم ولم يكن يوجّههم لخدمة الأرض والفلاحة. ثمّ انتقلنا إلى الأب كزوج، فلم أعرِف يومًا واحدًا من أيّام عمري صراعًا بينه وبين أفراد الأسرة، سواء كان أخًا أو زوجًا أو أبًا، ولم يحدث إلى يومنا هذا صراع عائلي وخلافات بين الزّوج والزّوجة، أو بين الأب وابنه، أو بين أحد من أفراد العائلة. وكانت المحبّة والاحترام والتّعاون سلوكًا متبادلاً بين أفراد هذه الأسرة.

وإنّ نجاح الوالد حفظه الله يكمن في أمرين اثنين: الأول الوسطية والاعتدال، فلا تطرّف ولا غلو، والثاني اتّباعه لنهج القرآن {وَقُولُوا للنّاسِ حُسنًا}، وكان يُردّد دائمًا قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “إِنَّ الرِّفْقَ لَمْ يُخَالِطْ شَيْئًا إِلّا زَانَهُ، وَلَمْ يُفَارِقْ شَيْئًا إِلّا شَانَهُ”.

وباختصار شديد، كانت أسرة مثالية، أسرة هادئة مطمئنة، يتّجه اهتمامه كلّه إلى التّربية والتّعليم وحُسن الخُلق.

ابن الشيخ: الأستاذ محمّد الصّالح آيت علجت

الأستاذ الزوبير طوالبي: الشّيخ آيت علجت من أركان العلم والإصلاح

كرّمني الله بأن تتلمذتُ عليه في الأربعينيات، وعلى يديه حفظتُ القرآن الكريم ومبادئ العلوم المختلفة من نحو وصرف وبلاغة وأدب، وتخرّج على يديه عشرات العلماء الّذين تمنطقوا بنطاقه وأخذوا سبيل دعوته.

الشّيخ آيت علجت خلقهُ خُلق الأنبياء والأولياء، يمتاز بالتّواضع النّبويّ، وبالإخلاص في إيصال علمه ومعارفه إلى طلبته، ويأخذ بأيدي تلامذته دون استثناء، ولم نعرف عنه غضبًا قطّ، ولم يتصرّف مع أحد منّا تصرّفًا عقابيًا أبدًا. ويحترم كلّ إنسان. في بيته وأنتَ تزوره يخدمك بنفسه، ويضع نعلك أمامك لتلبسه.
والشّيخ آيت علجت من الأولياء الصّالحين، لا يعرف إلاّ البسمة يستقبل بها زوّاره، يطفح البشر في قسمات وجهه البشوش دائمًا. وما قال “لا” قطّ إلاّ في تشهّده. عالم ربّاني يُصلح بين النّاس ويقرّب بينهم وينصحهم، وهو الّذي يسبقُك ليَسأل عن أخبارك وأحوالك، ويعرض عليك خدماته.

والشّيخ نورٌ بعِلمه وتواضعه وأدبه وأخلاقه وحبِّه للنّاس. تأكّدتُ منذ عرفته أنّه يحمل في جنباته أعظم وأنبل قلب، سخّره لخدمة أمّته ودينه وقضيته. يُدافع باللّسان والعلم والعقل والوجدان عن الإسلام ولغة الإسلام وقيم الإسلام والإنسان بصفة عامة. كلّ هذا جعله ينال إعجاب النّاس واحترامهم وتقديرهم.
تمنّيتُ مرّة أن يهدي لي هدية أحتفظ بها لنفسي، عزيزة عندي من طرف أستاذي، ولم أتمكّن من طلب ذلك لحيائي وخجلي منه. فلم أتمالك نفسي من الفرح حينما أهدى لي عباءة كنتُ أتمنّاها، وأعتبرها أعظم هدية في حياتي.

وعاش الشّيخ حفظه الله في خدمة العِلم، ولم ينقطع تفكيره في قضايا أمّته.. أخذ السّلاح مع رفاقه المجاهدين ضدّ المستعمر.. علّم ووجّه وأرشد، فكان نعم المعلّم والموجّه والمرشد.. وأحبّ الله في سِرِّه وعلانيته فأحبّه الله، تواضع له فرفعه، خدم النّاس فتمنّوا أن يخدموه، كره المناصب وقد عُرِضَت عليه ولم يختر منها إلاّ خدمة الله والوطن والنّاس.. حفظه الله ورعاه.

تلميذه وعضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.