قضية فلسطين جوهر اهتمام أعلام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: عبد المالك حداد -
إن قضية فلسطين هي قضية العرب والمسلمين قاطبة، ومن المعلوم أن لفلسطين مكانةً مميزةً، فإليها تهفو النفوس وتُشَدُّ إليها الرِّحَالُ، ففيها المَسْجِدِ الأقْصَى المبارك مسرى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ومعراجه، وأولى القبلتين وثاني المسجدين، وفيها التّاريخ العريق الماثل في أزقتها وحواريها وأسواقها، بل في كل أثر من آثارها.. ولهذه الميزات التي حبها الله بها، حرص العلماء والقادة والرجال على الدفاع عن قضية العرب والمسلمين الأولى، وكان من بين أولئك علماء الجزائر الذين تابعوا تطوراتها المختلفة منذ أيامها الأولى، على الرغم من أن الجزائر وقتئذ كانت تحت الاستعمار الفرنسي.
ومن أعلام الجزائر الذين سخروا أقلامهم وجندوا أنفسهم للدفاع عن قضية فلسطين، رجال جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين الذين كتبوا وأرشدوا الرأي العام إلى الاهتمام بها، وتعميق صلة الجزائريين بالقدس والمسجد الأقصى، كما نبّهوا مبكراً إلى الأطماع الصهيونية وبيّنوا مؤامرات تقسيم فلسطين، وساهموا في جمع المساعدات لإعانة الفلسطينيين.
فهذا الرئيس الأوّل لجمعية العلماء، العلاّمة الشّيخ عبد الحميد بن باديس (1889-1940 م) رفع صوته عاليا بالاحتجاج منذ أوائل الثلاثينات حيث وجه في نوفمبر 1933 م احتجاجًا إلى وزارة الخارجية الفرنسية استنكر فيه وتألم على الحوادث الدامية الواقعة بفلسطين، أعقبه ببرقية تألم إلى مفتي القدس. وفي أوت 1937 م رفع احتجاجًا شديدًا باسم الأمة الإسلامية الجزائرية ضد مشروع تقسيم فلسطين إلى وزير الخارجية الفرنسية واعتبر المشروع ضربة قاضية على حياة شعب ضعيف دافع طيلة سنين عديدة دفاع الأبطال عن شرفه وحريته، واعتداء شنيعا على جميع الشعوب العربية الإسلامية، وانتهاكا لحرمة الأماكن المقدسة عند سائر المسلمين، وتمنى تدخل الحكومة الفرنسية بكل سرعة لمنع هذا التقسيم.
ثم نبه مبكراً (أوت 1938 م) لأبعاد ما يُبيّت لفلسطين وأهلها من تزاوج الاستعمار الإنكليزي الغاشم بالصهيونية الشرهة، فأحالوها جحيما لا يُطاق وجرحوا قلب الإسلام والعرب جرحاً لا يندمل، فسمها "فلسطين الشهيدة". ودعا إلى إدراك خطورة ما كان يحاك ضد فلسطين الآمنة والرحاب المقدسة وحذر من عواقبها، وشدد على المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس الشريف فرحابه مثلُ رحاب مكة والمدينة، قائلاً: «..كل مسلم مسؤول أعظمَ المسؤولية عند الله تعالى على كل ما يجري هنالك من أرواح تُزهق، وصغارٍ تُيتم ونساء تُرمل، وأموال تُهلك، وديار تُخرَّبُ، وحُرماتٍ تُنتهكُ، كما لو كان ذلك كله واقعًا بمكة أو المدينة، إن لم يعمل لرفع ذلك الظلم الفظيع بما استطاع! ». ولما هب رجالات الإسلام في الشرق للقيام بهذا الواجب، أبرق برقية إلى المؤتمر البرلماني العام الذي عقدته اللجنة البرلمانية المصرية للدفاع عن فلسطين بالقاهرة في 17 أكتوبر 1938 م، أبد فيها باسم المسلمين الجزائريين الموافقة على ما يستقر عليه الرأي والتأييد بكل ما يستطيعون في سبيل قضية فلسطين التي هي قضية الحق والإنسانية والسلم العام.
هذا وسار أعلام جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين على نهج المصلح الشّيخ ابن باديس، وحظيت قضية فلسطين باهتمام جمع من علمائها أبرزهم:
الشّيخ مُحَمَّد البشير الإبراهيمي (1889-1965 م): أخذت قضية فلسطين حيزا كبيرا في مواقفه وبياناته، وفي كتاباته بجريدة البصائر ومجلَّة الأخوة الإسلاميّة العراقيّة، وبعض ما عُثِرَ عليه في أوراقه الشّخصيّة (جمعت في آثاره وفي كتاب فلسطين الذي أصدره مركز الإعلام العربي بالقاهرة) حيث تناول القضيّة من مختلف جوانبها السّياسيّة والدّينيّة والتّاريخيّة، وأبرز أهميتها ومكانتها لدى العرب والمسلمين، وضرورة مواجهة المشروع الصّهيوني في فلسطين. وفي عهدة رئاسته للجمعية تأسست الهيئة العليا لإعانة فلسطين في 14 جوان 1948 م برئاسته وعضوية الشّيخ الطيب العقبي والشّيخ إبراهيم بيوض والمناضل فرحات عباس، ثمّ تكوّنت لجنة تنفيذيّة للهيئة من أهل العلم والفضل والجاه الجزائريين. ومن أعمالها إرسال برقية إلى الحكومة الفرنسية تندد فيها باعتراف المجلس الوطني الفرنسي بالكيان الصهيوني، واعتبرت ذلك عملا عدائيا ضد العالم الإسلامي وجرحا لعواطف مسلمي المغرب العربي، كما أرسلت الهيئة برقية مماثلة إلى جامعة الدول العربية تبرز فيها تضامنها الدائم لمكافحة الإمبريالية الصهيونية متهمة الأمم المتحدة بالتواطؤ مع الحركة الصهيونية، والتناقض مع ميثاقها وتهديد السلام العالمي. وتمكنت الهيئة من جمع ثمانية ملايين فرنك كتبرعات، وجندت حوالي 100 متطوع للجهاد في فلسطين.
ومن مواقفه الشّيخ الإبراهيمي المستوحاة من فكره العميق ورأيه الدقيق، تسميته للوفد الذي شكله المؤتمر الإسلامي المنعقد بالقدس في 03 ديسمبر 1953 م بـ"الوفد الصخري" نسبة إلى قبة الصخرة، وخاطب الذي كلفوا هذا الوفد بالطواف حول البلدان الإسلامية لجمع المال لترميم مسجد الصخرة وزخرفته، قائلا: « أيها الإخوان الصخريون، إنكم ومن أعانكم على مشروع الصخرة بالمال، أو نشطكم عليه بالرأي، لم تزيدوا على أن أحييتم في الإسلام سُنّة من سُنن المصريين القدماء في قصة عروس النيل: كانوا يُزيّنون فتاة للموت، وأنتم تُزيّنون مسجدا للهدم »، وقد صدق تنبؤ الشّيخ الإبراهيمي، حيث احتل الصهاينة القدس وأقصاها وصخرتها في 06 جوان 1967 م.
الشّيخ الطيب العقبي (1890-1961 م): اعتبر مأساة فلسطين كارثة عظمى، ووجه انتقادات شديدة من خلال كتابته عبر جريدته الإصلاح وصحف جمعية العلماء لسياسة انكلترا في تشجيع الهجرة اليهودية، وإلى عصبة الأمم حين أوكلت مصير فلسطين إلى لجنة التحقيق الانجليزية المنحازة للصهاينة، والتي أوصت في تقريرها بالتقسيم. كما أبرق باسم الشعب الجزائري إلى الجامعة العربية برقية يعبر فيها عن رفضهم لمشروع تقسيم فلسطين الذي تقدمت به هيئة الأمم المتحدة وعن استعدادهم لحمل راية الجهاد لحماية مقدسات المسلمين. وفي سنة 1947 م تأسست في نادي الترقي لجنة الدفاع عن فلسطين برئاسته، وتولى كتابتها العامة مُحَمَّد الأمين العمودي، واقترح الشّيخ العقبي أن يؤسس على رأس كل مدينة أو قرية لجنة للدفاع عن فلسطين، تتولى جمع التبرعات وتسجيل أسماء المجاهدين الذين يرغبون في التطوع لدفاع عن فلسطين، وقد أسند هذه المهمة لمصالي الحاج. وقد شهد له الشّيخ الإبراهيمي بأنه الروح المدبرة لتأسيس الهيئة العليا لإعانة فلسطين التي تولى فيها أمانة المال.
الشّيخ إبراهيم أبو اليقظان (1888-1973 م): تصدرت قضية فلسطين أخبار صحفه وكان من أبرز مراسله مُحَمَّد علي الطاهر رئيس اللجنة الفلسطينية العربية، كما نالت حظا وافرا في مقالاته وقصائده الشعرية منها قصيدة تجاوزت الثلاثمائة بيت، ويشهد له بالعمل الدؤوب لصالح القضية حيث جمع وحده من التبرعات ما يساوي نصف ما جمعه الأعضاء الباقون في الهيئة العليا لإعانة فلسطين.
الشّيخ أبو يعلى الزواوي (1862-1952 م): سخر قلمه للدفاع عن فلسطين ورأى في الانتداب البريطاني اعتداءا وجورا، لا يحوز شرعا ولا قانونا عند جميع الأمم الدائنة بالشرائع السماوية أو المتحاكمة للقوانين الوضعية، ودعا اليهود إلى رفض قرار تقسيم فلسطين باعتباره قرارا جائرا وغير شرعي وقائم على باطل، وحثهم على البقاء في دولة فلسطينية عربية تصون حقوقهم كما صانت مختلف الدول الإسلامية حقوق أجدادهم عبر التّاريخ.
الشّيخ العربي التبسي (1895-1957 م): له فتوى بوجوب الجهاد في فلسطين ونصرة أهلها لما اندلعت حرب 1948 م حيث لقيت صدى كبيرا لدى الشباب الذي تحمس لنصرة القدس، ومنهم ثلة من شباب مدينة تبسة الذين اجتمعوا ليلة 27 ماي 1948 م، ووقف فيهم قائدهم عبد الحفيظ قصري يقرأ عليهم فتوى الشّيخ، وقد ذهبوا للجهاد سيراً على الأقدام وشاركوا في الحرب ضمن المتطوعين المغاربة الذين بلغ عددهم 200 عنصر تقريبا.
الشّيخ الفضيل الورتيلاني (1900-1959 م): له المئات من المقالات والرسائل والبرقيات والخواطر الثائرة عن قضية فلسطين، لعل أبرزها مقال له سنة 1954 م، جاء في صيغة نداء وندبة وتحسر تحت عنوان "هل يعرف العرب هذه الحقائق عن فلسطين - أنقذوا الممكن منها قبل نزول الغضب"، كتبه بعد أن كلفه المؤتمر الإسلامي العام بزيارة الأماكن المقدسة ومعايشة الفلسطينيين عن كثب لمدة ثلاثة شهور. وقد نبه فيه إلى أهمية اضطلاع الفلسطينيين بعبء العمل الجهادي، والحفاظ على الجزء المتبقي من الأراضي فلسطين ومقاومة العدو الصهيوني من الداخل.
هذا جانب من اهتمامات علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقضية فلسطين التي كان لها أيضا اهتمام فريدا لدى شعراء الجمعية كمُحَمَّد العيد آل خليفة، وأحمد سحنون ومُحَمَّد جريدي والعباس بن الحسين وغيرهم.. نشرت قصائدهم في صحف الجمعية خاصة البصائر التي عرضت في أعدادها المختلفة واقع فلسطين وتتبعت الأحداث ودعت إلى نجدتها ونصرتها وخصت صفحاتها لنشر مقالات مفتي القدس مُحَمَّد أمين الحسيني وكذلك البيانات والنداءات التي كانت تصلها من داخل فلسطين والجمعيات الفلسطينية في الخارج.
المراجع:
- آثار العلاّمة مُحَمَّد البشير الإبراهيمي، ج 4.
- أ.د.أحمد عيساوي: إلى فلسطين سيراً على الأقدام : صورة من جهاد الجزائريين في فلسطين سنة 1948 م، مجلة الوعي الإسلامي، ع 46، 22 أوت 2004 م.
- البصائر، س2، ع79، 12 جمادى الثانية 1356 ﻫ/20 أوت 1938 م، ص:6.
- البصائر، س3، ع135، 20 شعبان 1357 ﻫ/14 أكتوبر 1938 م، ص: 7.
- الشهاب، ج6، م14، غرة جمادي الثانية 1357 ﻫ/أوت 1938 م، ص:307-310.
- الصراط السوي، س1، ع11، يوم الاثنين 9 شعبان 1352 ﻫ/27 نوفمبر 1933 م، ص:8.
- د.مولود عويمر: المفتي مُحَمَّد أمين الحسيني وصلته بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين (www.binbadis.net).
- الهادي الحسيني: فخر علماء الجزائر (www.binbadis.net).