من الإصلاح الاجتماعي إلى الإصلاح الديني (قراءة في فلسفة الإبراهيمي السوسيولوجية)

بقلم: كمال طيرشي -

حقيق بنا الاعتراف بأن فلسفة الشيخ الإبراهيمي اقترنت بصورة حثيثة بالمنحى السوسيولوجي الإصلاحي بمعناه السّديد والسليم إذكاءا للحمة الاجتماعية لأبناء الوطن الواحد، وتقوية للشعور السياسي و تأسيسا للرأي العام، والسّعي الدؤوب نحو إحياء فضائل وأخلاق متينة وعقد جملتها بالقلوب لا بالألسنة فقط، وتكوين أسرة جزائرية مبنية على المحبة والمودة وبناء مجتمع يحتكم إلى التعاون والتآزر, كما لا ننسى أن انهمام الشيخ الإبراهيمي انصب على وضع المرأة الجزائرية المسلمة في موضوعها من الفطرة ومنزلتها في الإسلام، والقارئ المتأمل في المشروع الإبراهيمي الإصلاحي يجده يركز على الإصلاح الإجتماعي قبل الإصلاح الديني, ولا نفهم ههنا أن جمعية العلماء المسلمين همها هو عالم الحياة والمجتمع فقط، مما جعل بعض الدهماء يعتقدون من أنفسهم أن نشاط الجمعية وبالخصوص نشاط الإبراهيمي انصب حول الحياة ودهاليزها و صعوباتها وشؤونها مارقين عن الاهتمام بالدين الحنيف والعقيدة السمحة.

إن التأسيس المهيب لإنسانية واعية وفرد صالح لا يتأتى أو بالأحرى لا تقوم له قيومية إلا بالإهتمام أولا بالشق السوسيولوجي للفرد والعمل على اصلاح مناحي حياته الاجتماعية والسيكولوجية ليقتدر بعد ذلك على إقامة شعائر الدّين والتشبث بالمعتقد الديني القويم بصورة صحيحة وصادقة، لا يتذبذب بعدها ولا ينكص القهقرى, لأن التأسيس للإصلاح الديني ههنا سبقته أريحية في شبكة علاقاته الإجتماعية سواءا داخل الأسرة التي يعيش تحت كنفها أو في فضاءاته العمومية الكبرى , لأن الإسلام الصحيح دين و اجتماع على حد توصيف الشيخ البشير الإبراهيمي, والمسلم لا يدان له بأن يكون مسلما حقانيا مستقيما في دينه حتى تستقيم اجتماعيته , فيحسن ادراكه للأشياء و يحذق معنى عالم الحياة و يقدّرها, ويرتبط ببني جلدته برابط الأخوة و المساواة و المصلحة ، و يكون مبتغى الشيخ الإبراهيمي الحصيف هو الإصلاح العميق , الإصلاح الإجتماعي الجذري الذي لا يترهل مع مرور السنين أو بعوارض الأزمات و الهزّات التي يتعرض لها الإنسان في مجرى حياته اليومية ، فالإصلاح السوسيولوجي الحقيقي يخالف تماما ذلك الإصلاح الذي نقول فيه للإنسان المسلم قل لا إله إلا الله , و أقم الصلاة ,وحج بيت الله , ثم كن ما شئت نهبة للناهب , مطية ذلولا للراكب , لا معرفة لك بالحياة , تؤمن بالله و لكنك غير قادر على مسامحة أخاك , مؤمن بالله لكنك تبغض الآخرين , تؤمن بالله لكن لا تميط الأذى عن الطريق , تؤمن بالله لكنك غير قادر على تكوين علاقات اجتماعية انسانية صالحة , بل الأدهى من ذلك كله غير قادر على أن تكون زوجا صالحا , لست قادرا على حل مشكلاتك السوسيولوجية الأسرية , غير قادر على تربية أبنائك , غير قادر أن تكون شخصا مسؤولا , إن الإصلاح الحقيقي الذي ناضلت جمعية العلماء المسلمين على احقاقه لا ينهك كاهله في المنحى الشعائري الديني فقط , ولا يتمظهر في اقامة طقوس المقدّس الديني, بل الإصلاح الجوهري ينحو نحو (( وضع تخطيط لفكرة صورة كليانية لحياة مستقبلية عملية, حياة يجب أن تتحول هي نفسها في مجموعها إلى حياة مؤثرة من طرفي , أي أن تكوة هي نفسها هدفا لتطبيق كلي )) .

ومن تمظهرات الإصلاح الإجتماعي الذي سعى الشيخ البشير الإبراهيمي إلى تفعيله في فضاءاتنا العمومية , موقفه من التعليم العربي و الديني , فسعت الجمعية إلى تنظيم دروس وعظية يكتسيها الطابع الإصلاحي الحياتي , و تنظيم محاضرات في التهذيب لشؤون الحياة العامة في عالم معاصر نعيشه , لأنه لا ينفصل البتة عن شعورنا نحن كجزائريين , إنه شعور الإنسان و كأنه في بيته ان صح هذا التعبير , و استطاعت مدرسة البشير الإبراهيمي الإصلاحية أن ترسم معالم الكثير من المشكلات الإجتماعية كالتفكك الأسري و منزلة المرأة و الفساد الأخلاقي , و كلها تعابير عن ضياع مفهوم المعنى في عالم الحياتي اذ يتحول الإنسان إلى غريزة عمياء أو بالأحرى إلى مركب غير حر من الأشياء , و لم يقتدر للأسف أن يبلغ الحياة السعيدة برغم أنه يدين بدين الإسلام .كما صار الفرد الجزائري ينظر إلى حياته و عالمه نظرة ضيّقة فردانية أنانية , بسيطة و ساذجة , تهوي به في براثن العدمية و التشيؤ , و تخلق منه شخصية متطرفة دينيا , متمردة أخلاقيا و مجتمعيا , كما سعى الشيخ الإبراهيمي إلى اصلاح التربية و التعليم مركزا في مشروعه على تعزيز منزلة اللغة العربية التي هي إحدى مفاخرها ,و تعليم القرآن الكريم , و السعي لتقديم محاضرات تهذيبية مؤثرة في العقول , و محفزة للنفوس , و منبهة للمشاعر على طريقة الترغيب و الترهيب .

كما سعى الشيخ الإبراهيمي إلى التركيز على بناء الأسرة بأسس المحبة و المودة احقاقا لمنطوق مفاده أن الروابط الدموية تنحو إلى العلاقات الإجتماعية أو بالأحرى النقلة من الجماعي إلى الفردي و العكس , و الاتصال في المجال العائلي و بالخصوص بين الزوجين , لأن الإتصال عامل مهم في التواصل و التفاعل لحل الخلافات إن وجدت , و فتح باب الحوار المثمر الذي يساعد على حل المشاكل مبني على التضامن و التعاون , ينقلنا من التصلب إلى المرونة .

كما قللت فلسفة البشير الإبراهيمي من نزوع متلازمة الإنبهار بالوافد الغربي , والإفتتان بالحضارة الغربية , و قمع الإلحاد و التفسخ , و ايقاف المد التبشيري و تخفيف ويلات الأمية, وبعتقد البشير الإبراهيمي أن الفرد الجزائري إذا اقتدر على افهام الأمة هذه المعاني السوسيولوجية و توجيهها اصبحت أمة عزيزة الجناب , مرعية الحقوق , ثابتة الكيان , فيصبح الفرد الجزائري شخصية رسالية للعالم الإسلامي , و من مظاخر الإصلاح التي دعا إليها الإبراهيمي اصلاح القضاء الإسلامي و تثمين مسألة التعليم الحر , و يعتبر الإبراهيمي أن الأخلاق هي جوهر أي مشروع ينهض بالأمة نحو السؤدد , فبتلاحم الأخلاق القويمة و العلم القوي النافع تستنهض الهمم و تتفوق الأمم , و ليس يعني ههنا الإبراهيمي الأخلاق السطحية الفجة , التي سرعان ما يأفل نجمها و يضيع معناها و يضمحل وميضها , بل يحث على ضرورة التحلي بالأخلاق العميقة الوجدانية القابعة في ملكوت قلوبنا الطاهرة المخلصة , لأنها الدعامة المتينة للدّين القويم , و يجب أن يُفعّل هذا الإصلاح بالخصوص في مدارسنا و فضاءاتنا العمومية , و بالخصوص في المدرسة لأنها على حد توصيف الإبراهيمي جنة الدنيا و السجن نارها , و الأمة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون , لأن الإصلاح الإجتماعي إذا لم تدعمه المدارس عن طريق المعلمين و المربين , دعمدته السجون في مراكر إعادة التأهيل و التربية , و حينها يتحور المغزى و يضيع الهدف و البغيا الحصيفة لسؤدد المجتمعات و نبذ الرذيلة و السقوط في الهاوية .

و الإصلاح الإجتماعي الكبير يكون بتغيير الأوضاع , وهو الهدف الأمثل للعمل الإصلاحي , و لا يدان له أن يتحقق إلا إذا حدث التغيير في اللبنة الأساسية لذاتية الفرد الجزائري بأن يعمل كل واحد منا على تغيير ما بنفسه من المتعالقات السلبية و التخلص من رق التواكل و الركون و الضعف و الإستسلام و هوان الإرادة و هشاشة المواقف الصلدة و الجهل , حينها يقتدر الفرد على الإنعتاق من التبعية للآخر الذي يستعمر عقلي و نحقق بذلك حضورنا في التاريخ العام للإنسانية المنفتحة .

و الذي يريد أن ينفتح على هذه الأمة المتألمة التي تئن في صمت , عليه أن يحذقها و يفهمها كما يفهم القارئ كتابه , و يدرسها دراسة عميقة وافية , و هذا التغيير لا يتأتى له الحضور و نيل الحظوة إلا بالتربية و التعليم لنوجه سلوكنا الوجهة السليمة السديدة , و ننمي قيمنا الأخلاقية و نغرس عادات حسنة و تنقية أذهاننا من الشوائب الدرنية و اجلائها من تكلسات الفكر الخرافي الأرجافي الدهمائي , فالتربية قبل التعليم , و الاخلاق قبل التدين .

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.