في ظلال قبس من أقباس الإبراهيمي
بقلم: حسن خليفة-
في سيرته الذاتية التي حملت عنوان “خلاصة تاريخ حياتي العلمية والعَملية “والتي عرّف العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ـ رحمة الله تعالى عليه ـ ..عرف بنفسه كأحسن وأجمل وأمثل ما يكون التعريف، بما يعطي فكرة شاملة دقيقة إلى حد بعيد عن هذه الشخصية الدعوية الإصلاحية الناقدة المتميزة. وهذه السيرة متوفرة اليوم من خلال عدد من المنشورات والمطبوعات وآخرها ما أصدره مشكورا مأجورا الدكتور رابح بن خويا في سلسلة أعلام الجمعية (منشورات دار الوطن اليوم) المزمع إخراجها في الأشهر القادمة وهي نحو ست عشرة شخصية عُلمائية كبيرة وذات أثر.
كتب الشيخ اللامع رحمة الله عليه في سيرته الذاتية تلك، والتي ينبغي أن يقرأها ويتفحصها، بل ويدرسَها ويستفيد منها كل مسلم لديه همّ الصلاح والإصلاح والتغيير والاشرئباب نحو أفق الإيمان والإسلام والدعوة والإكرام..كتب متحدثا عن فضل الله تعالى في تيسير الأمر لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي حققت للشعب الجزائري ما حققت، وجاء من بين ما ذكره بالحرف قوله في إقرار بما بذل أولئك الأولون الماهدون من جهود وأعمال:
” وما بذلناه من جهود في محو الرذائل التي مكّن لها الاستعمار، وتثبيت الفضائل التي جاء بها الإسلام، ولو تأخر وجود الجمعية عشرين سنة أخرى لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا، ولو سلكنا سبيلا غير الذي سلكناه في إيقاظ الأمة وتوجيهها في السبيل السوي لما قامت هذه الثورة الجارفة في الجزائر، التي بيّضت وجه العرب والمسلمين، ولو نشاء لقلنا إننا أحيينا اللسان العربي، والنخوة العربية، وأحيينا دين الإسلام وتاريخه المشرق، وأعدنا لهما سلطانهما على النفوس وتأثيرهما في العقول والأرواح، وشأنهما الأول في الاتعاظ والأسوة، فأحيينا بذلك كله الشعب الجزائري فعرَف نفسه، فاندفع إلى الثورة يحطم الأغلال ويطلب بدمه الحياة السعيدة والعيشة الكريمة ويسعى إلى وصل تاريخه الحاضر بتاريخه الغابر”(أنا سيرة الإبراهيمي بقلمه ـ ص 55).
وأحب أن أستخلص من هذه السطور بعض الملاحظات تنبيها وتذكيرا، فأما ما يمكن استخلاصه فمنه:
أـ بذل الجهود العظيمة، إذ مدار الأمر كله على البذل والجهد والمواظبة والعمل والاجتهاد، وأكرم ما يكون ذلك عندما يكون برؤية وفي إطار عمل مؤسسي جامع، فيه تنسيق وتوافق وتراحم وتواصل. وحقيق بالأمة كلها اليوم أن تكون كذلك مجتمعة على رأي واحد تُعلي من شأن العمل والبذل، وتخفض من شأن أي أمر آخر؛ خاصة ما كان فيه تقسيم وتفريق وتشتيت وشرذمة وإضعاف لجسم الأمة وتعطيل لطاقاتها العلمية والدينية والفكرية. وقد أدركت الأمم والشعوب قيمة الجهد والعمل فحققت ما حققت لأوطانها وبلدانها وتكاسلنا وتباطئنا فحق علينا ما نحن فيه من ضعف وهوان.
والأشرف في الميدان دائما هو العمل وبذل الجهد واستفراغ الوسع والاجتهاد في أرض الواقع لتتحقق الأهداف وتزهر الأماني.
ب ـ أن الجهد المبذول يجري في اتجاهين اثنين ـ على الأقل ـ محو الرذائل بكل أنواعها، ويدخل في ذلك كل المقابح ومظاهر الانحراف في العقيدة وفي الأخلاق وفي السلوك. ويمكن لأي مطلع أن يتعرف على ما تحقق من ذلك، من خلال التربية والتهذيب والتوجيه والوعظ والتدريس والإشراف والمراقبة والمرافقة. وهذا الأمر قائم اليوم، أي محاربة الرذائل ومحوها؛ خاصة وقد تعاظم أمرها وتكاثرت أنواعها وسقط الشباب صرعى كثير منها؛ كالمجون والمهلوسات والانحرافات الأخلاقية والجنسية والعنف المستشري..فمن لهؤلاء الشباب إن لم يجدوا في الدعاة والعلماء ـ على اختلاف مشاربهم ـ القلب الحاني والعقل المهتم والأب الراعي والطبيب المداوي..فهؤلاء (العلماء والدعاة ) هم أطباء القلوب والعقول والأرواح وهم الأمل في إخراج الأمة من وهدتها والرقيّ بها إلى مصاف الأمم الراقية النقية الرائدة الراشدة.وواجبهم ـ أمام الله تعالى، ثم أمام مجتمعهم ـ كبير وعظيم.
أما آن لهم أن يفقهوا هذا ويعزموا عزمة اليقين والحق على النهوض والتعاون والتعاضد والتشارك، بدل هذا التهارش المقيت والتنابز البغيض والانتصار للنفوس والأهواء بدل الانتصار للدين وقيّمه وعظائمه؟.
ويلحق ببذل الجهود في محور الرذائل تثبيت الفضائل بكل أنواعها وألوانها وأوجهها، والفضيلة كلمة جامعة لكل خير ونفع، فمما لا يتم واجب الدعوة إلى الله تعالى إلا به إنما هو العمل لأجل التمكين للفضائل الإنسانية أخلاقا وسلوكا وتزكية وتصفية وتحلية، ليكون المسلم في المقام المرتضى له من الله تبارك وتعالى..على طريق الأنبياء والرسل الأوفياء الصادقين الصالحين. وهل لي بالتذكير هنا أن “الدعوية” (من الدعوة) هي صفة لازمة لكل مسلم ومسلمة، لا يتم الأمر إلا بها، حتى حقّ لنا أن نقول إنه من هنا يمكن النظر إلى “المجتمع الإسلامي كله على أنه حركة دعوية بطبيعته، وجماعة إصلاحية بفطرته.
إنه منذ أعلن أن محمدًا رسول الله؛ تقلد بمقتضى عقيدة الإتباع مهمة الدعوة إلى الله، فليس عبثاً أن يحض النبي صلى الله عليه وسلم بكل وسائل التحضيض والحثّ والتشجيع على الدعوة إلى الخير والهدى، كما في قوله:« فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم».
ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}(آل عمران: 110) إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار. ومن هنا كان حديث تغيير المنكر دالاً على العموم، وليس له ما يقيده في المأمورين به إلا شرط الاستطاعة ورتبتها؛ وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:« من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان“(قواعد في منهج الدعوة إلى الخيرـ لفريد الأنصاري رحمة الله عليه).
أفنترك كل هذا ونشتغل، بل ويشتغل دعاتنا وعلماؤنا بما هو دونه؟
وأما المسائل الأخرى المهمة التي ذكرها في أنه لو تأخرت الجمعية عشرين سنة، فإن هذا يصدق وينطبق على الحاضر أيضا ـ في تقديري ـ فإن كل تعطّل وتأخر في القيام بالواجب العظيم في التمكين للدين وتحقيق مراد الله تعالى من تعبيد الناس له سبحانه، سينجرّ عنه ما ينجرّ مما يتحمل مسؤوليته الجميع، وبالأخص من هم في المقدمة من العلماء والدعاة وأهل الخير والصلاح، وسائر طلبة العلم وحماة الدين. فأي تأخير أو بطء أو استصعاب أو تكاسل ستكون له عواقبه السيئة.
ومن الواجب أن ننفر جميعا إلى أداء هذا الواجب؛ خاصة في ضوء الحصار العولمي الآثم والاستكبار الغربي والعدوان على الإسلام والمسلمين مشرقا ومغربا.