الأديب أحمد رضا حوحو في ذاكرة مجلة المنهل السعودية
بقلم: محمد بسكر -
ظلت الرحلة من أجل التحصيل المعرفي تُجاه البلدان المجاورة، هي ملاذ أغلب النُخب العلمية الجزائرية بداية من مطلع القرن العشرين، يدفعها لذلك انغلاق الأُفق التعليمي بسبب سياسة التجهيل التي فرضها الاستعمار الفرنسي، منذ أن دنّس بجحافله هذه الأرض الطيّبة، وكان جامع الزيتونة والمدرسة الخلدونية هما مركزا استقطاب لجلّ الطلبة الوافدين، ولم تكن وجهتهم إلى المشرق وخاصّة مصر والحجاز، بالكثرة العددية مقارنة بتونس، التي تخرج منها معظم علماء الجزائر وأساتذتها، ممّن كان لهم سبق الفضل في جذوة الوعي التي مسّ عودها النهضة الثقافية والعلمية التي شهدتها البلاد قبل الاستقلال وبعده، ولعلّ مرجع ذلك يعود لبُعد المسافة، وخاصّة أنّ معظم الطلبة كانوا من طبقةٍ فقيرة مُعدَمَةٍ، تعيش على هامش الحياة.
ومع ذلك، ففي العقد الثاني والثالث من القرن العشرين، احتضن الحجاز أُولى الطّلائع العلمية الجزائرية، ممثلة في نخبة من العلماء والطُّلاب، كان من بينهم الشيخ حمدان بن أحمد الونيسي، أحدُ الشيوخ الذين كَرَعَ من علمهم وفضلهم الشيخ ابن باديس، والشيخ محمد العربي بن التبّاني السّطايفي، المدرس بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة، والمحاضر بالحرم المكيّ الشريف، وأمير البيان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ احميدة بن الطّيب بن علاّل، مُؤلّف كتاب "الآثار في بلدة المختار"، والشيخ الطيب العقبي رئيس تحرير جريدة القبلة، ومدير المطبعة الأميرية بمكة المكرمة.
كان من أولئك الأديب أحمد رضا حوحو، الذي استقر مع أسرته بالمدينة المنورة سنة 1934م، والتحق بمدرسة العلوم الشرعية حيث أكمل فيها تحصيله المعرفي، وقد رشّحته كفاءته العلمية تَبوء منصب مُدرس بالمدرسة التي تخرج منها سنة 1938م، إذ انتسب إليها ليكون أحد أساتذتها، وهو تَعينٌ صادف محلّه، كما وصفته مجلة المنهل "السنة الثالثة 1938م". أحدث التحاقه بمدرسة العلوم الشرعية، وانخراطه في سلك التعليم مع نخبة الشيوخ الذين أخذ عنهم، منعطفا هاما في حياته الثقافية، بل كان بمثابة الفَتيل الذي أشعل طاقة علمية هامدة في نفسه، كانت تَتَرصَّدُ لاقطةً تدفعها للبروز، فجادت قريحته ـ مدة إقامته بالحجاز ـ بعشرات الأعمال الأدبية القيّمة.
ظلّ أحمد رضا حوحو، يُكِنُّ لهذه المؤسسة التي احتضنته طالبا وأستاذا - شعورا فيّاضا، وحبا دافئا، عبّر عنه في إحدى مقالاته بقوله: ((..فسأظل إذا يا مدرستي المحبوبة طول حياتي مخلصًا لك، معترفًا بجميلك، مشيدًا بذكرك، مقرًا بفضلك، شاكرًا لجهودك، مقدرًا لتضحية رجالك المخلصين في سبيل الدّين، وسبيل العلم وسبيل الوطن))(1). وتزامنت حياته الدراسية بالحجاز مع ظهور مجلة المنهل السعودية بالمدينة المنورة سنة 1937م، لصاحبها ومُنشئها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، وهي من أعتق المجلات العربية ظهورا، وأمدّها عمرًا، إذ لا يزال عطاؤها موصول الأنفاس إلى يومنا هذا، فهي أمّ المجلاّت السعودية المتميّزة بأعمالها الدّينية والأدبية والثقافية، وبمواضيعها الهادفة التي اختطّ معالمها مؤسّسها في افتتاحية العدد الأول منها، فقال: ((..وإنّ من علامات حظوة المنهل بما تصبوا إليه من نجاح مطرد في سبيل أداء رسالتها الأدبية العالية، ما نراه ماثلا في الأذهان من ضرورة السموِّ بهذا الأدب الحجازي، وإبرازه في حلّة قشيبة، تليق بمكانة الحجاز الدّينية ومنزلته الاجتماعية في العروبة والإسلام..))(2). اختار الأستاذ عبد القدوس- وهو صاحب اسم رائج في الأدب السعودي- للكتابة فيها صفوة الشباب من الأدباء والكُتّاب، كان من ألمعهم الأديب أحمد رضا حوحو، انتخبه لما توسم فيه من حصافة عقل، وبراعة قلم، فأَوكَلَ إليه إضافة للكتابة، منصب السكرتير الأوّل للمجلة، ليحمل على كاهله - وهو في عنفوان شبابه - مسؤولية التحرير والإشراف على اختيار المواضيع.
فتحت مجلة المنهل للأستاذ أحمد رضا أُفقا جديدا للإبداع الفكري، ونافذة للإنتاج الأدبي دامت عشر حجج، فكانت (( هي ميدانه الواسع للتعبير عن آرائه وأفكاره الاجتماعية)) ، فغطى فيها جانبا فكريا هاما من تاريخها، وأعطاها بُعدًا ثقافيا بمجموع أعماله في مجال القصة والأدب المسرحي، وخاصّة الترجمة بأنواعها، الأدبية والشّخصية والشّعرية. ومجموع مقالاته التي دبج بها حياته الأدبية هي ترجمة نصوص من تراث المستشرقين، وكم كان وافر الحظِّ، حين أقدم صاحب المجلة بفتح الباب على مصراعيه لهذه الدراسات من التراث الغربي، في بيئة قليلة الاحتكاك بالفكر الأوروبي، تنظر بعين الرّيب إلى هذا النوع من الأدب الدخيل، فكان (( يترجم للمجلة ما يروق له من روائع الأدب الغربي والفرنسي منه بالخصوص))(3)، ويكفي أهمية لما كان يكتبه أن قام الأستاذ عبد القدوس الأنصاري بالتقديم لمقاله الأوّل، وممّا جاء في تَقدِمَتِهِ، قوله: ((..تعميما للمعرفة ونشرا لأفنان الثقافة، رأينا أن نفتح هذا الباب في المجلة، وسننشر فيه ما لذّ وطاب وحسن وأفاد، من ثمار التفكير الغربي أدبا وعلما، وقد افتتحناه بترجمة فصول من كتاب الحج إلى بيت الله الحرام، لناصر الدّين دينيه الفرنسي المسلم، لما فيه من متعة أدبية وعلمية، ولما له من علاقة خاصّة بهذه البلاد، وقد عهدنا بأمر ترجمة هذه الفصول إلى أديب أخذ من اللّغة الفرنسية بحظ وافر، هو أحمد رضا حوحو)) (4).
نشر هذه الفصول تحت عنوان " ملاحظات مستشرق مسلم على بعض آراء المستشرقين وكتبهم عن الإسلام"، كما عَرَّبَ نصوصا ونشرها تحت عنوان " أبحاثنا في نظر الأوروبيين"، كان المستشرق الفرنسي" ز.رايخ" ترجمها من كتاب آثار المدينة المنورة، لصاحبه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري ونشرها في مجلة العلوم الإسلامية بباريس سنة 1937م، واهتم بالتعريف ببعض الشخصيات الأدبية الغربية الشهيرة، وترجم للأديب الفرنسي "فولتير"، لما يمثله أدبه من وقفة مع الشعوب المستضعفة في وجه الطغيان والتسلّط، ووجد في شخصيته وأعماله ما يعبر به عن شعور وإحساس ظل مكتوما في صدره، وهو الشاب القادم من وطن يعاني التهميش الاجتماعي والاستبداد السياسي. وتناول بالدراسة الأديب "فيكتور هيجو"، صاحب كتاب البؤساء، الذي تأثر بكتاباته المعالجة لموضوع الفقر والفقراء، إذ كانت نفسه البائسة ـ كما قال ـ ((..تطالعني بين السطور، تقطر حيرة وألما..)) ، فوجد فيه تشخيصا لإحساس مشترك بين أديبين، أو على حدّ تعبيره، (( مزيج نفسين بائستين، تألمت احدهما منذ قرون، وتحيّرت الأخرى اليوم)) ، وقد حاكى قصة البؤساء في مقالة نشرها في العدد الثالث من جريدة البصائر سنة 1947م، تحت اسم " خواطر حائر".
لم تكن هذه الأعمال ـ التي أشرنا إليها ـ هي إنتاجه الوحيد بالحجاز، بل له أعمال أخرى آثر عدم نشرها في تلك الفترة، من بينها قصته الشهيرة "غادة أم القرى" فهي من بواكير إبداعه في المجال القصصي، كشف فيها جوانب من مأساة المرأة العربية في الحجاز، ورَامَ من خلالها تسليط الضوء على واقع معاش، التمسه من وسط تعاني فيه المرأة التهميش الاجتماعي والثقافي، إلاّ أنّه أَحجَمَ عن نشرها أثناء إقامته في المدينة المنورة، ولم ينشرها إلاّ سنة 1947م بتونس، وأهداها إلى المرأة الجزائرية قائلا: ((..إلى تلك المخلوقة البائسة المهملة في هذا الوجود، إلى المرأة الجزائرية أقدم هذه القصة، تعزية وسلوى ))(5)، وقد أثنت جريدة البصائر (العدد 08 /1947م) على هذا العمل الأدبي الرائع، فوصفت القصّة بقولها: ((..تلك الرّواية التي تصور لنا الحياة الحجازية أدق تصوير، وتعطينا رسما واضحا عن حياة المرأة هناك )).
غير أنّ حظ الأديب حوحو مع الجرائد الحجازية عموما تَعثَّر، فلم تُكْتب الاستمرارية لهذه التجربة، فأُجهضت بعد ثلاث سنوات من العطاء، ليجد نفسه أمامه عقبات حالت بينه وبين القرّاء ، لوجوده في واقع اجتماعي يتسم بالانغلاق، ولا يقبل هذا النوع من الأدب؛ لأنّه يرى فيه خروجا عن المألوف، يُفضي إلى هشاشة المجتمع وتغيير بنيته، ولا نجد في الحقيقة ما يبرر منع نشر أبحاثه في مجال الأدب الغربي غير ما أشرنا إليه؛ لأنَّ الأديب أحمد رضا طوى الكتاب عن هذه المرحلة من تجربته الأدبية، ولم يحك عنها بعد عودته إلى الجزائر.
أحسَّ أحمد رضا بمرارة الرفض الذي قُوبلت به مقالاته، فهمس به في رسالة بعثها إلى الأستاذ عبد القدوس، في يوليو من سنة 1939م، جاء فيها:(( ..يؤسفني جدا لغلق الصحافة الحجازية أبوابها في وجه أبحاثي في الأدب الفرنسي، ولا أدري كيف يكون موقف المنهل في هذا الشأن؟ وهل ستحرم حقيقة من كل الآداب الأجنبية ؟ ))(6).
كانت مجلة المنهل فاتحة العطاء الأدبي والفكري للأديب أحمد رضا حوحو، أمدّته بنفس طويل، وفتحت له أملا بعيدا، فأعطاها عصارة أعماله، وترك على صفحاتها الأثر الطّيب، وأَهَّلَه إنتاجه الوفير وخاصّة في الأدب المسرحي، لأسبقية الرِّيادة في الحجاز، ففي دراسة إحصائية أجرتها مجلة المنهل تحت عنوان" المنهل خلال خمسين عاما" في عددها الممتاز سنة 1984م، استعملت فيها الكشف الإحصائي والتحليلي لموضوعاتها، جاءت مقالاته حول (الاستشراق والمستشرقين) ثالث موضوع يميّزها، بعد علم الاجتماع ودراسة العادات والتقاليد والآداب.
الهوامش:
(1) د: صالح خرفي: أحمد رضا حوحو في الحجاز، ص 14.
(2) محمد صالح رمضان: شخصيات ثقافية جزائرية، ص 178.
(3) نفسه ، ص 178.
(4) مجلة المنهل السنة الأولى 1937م.
(5) أحمد رضا حوحو: غادة أم القرى، ص03.
(6) د: صالح خرفي: أحمد رضا حوحو في الحجاز، ص69.