من كتابات ابن باديس
بقلم: د. عمار طالبي -
ممَّا كتبه الشيخ الجليل عبد الحميد بن باديس سنة 1341هـ/1923م عندما طلب إليه أن يتولى تصحيح: "المنظومة الرحمانية في الأسباب الشرعية المتعلقة بالطريقة الخلوتية" التي نظمها الشيخ سيدي عبد الرحمن بن أحمد بن حمودة، بن مامش المعروف بباش تارزي الجزائري منشأً، القسنطيني دار ومدفنا، رحمه الله تعالى كما ورد في عنوانها، وأضيف إلى ذلك في غلاف المنظومة: وقت على تصحيحا العلامة الأوحد سيدي عبد الحميد بن باديس.
وطبعت بمطبعة النجاح لصاحبيها إسماعيل بن عيدي، وعبد الحفيظ بن الهاشمي، بمدينة قسنطينة، وذلك سنة 1341هـ/1923م.
وفي آخر المنظومة عنوان: خاتمة الطبع بقلم المصحح أي ابن باديس.
وهذا نصها: "الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والآل والصحابة أجمعين، وجميع التابعين بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد تمَّ طبع المنظومة الرحمانية، ذات الأسرار الربانية، الجامعة لأصول الطريقة الخلوتية، وآداب التربية الشرعية، الدالة على علم ناظمها وبركته، ما نفع الله بها من أتباعه، وتلامذته، حتى نفذت طبعتها الأولى مع شرحها، فكثرت الرغبات، وتوالت الطلبات، في إعادة طبعها، لتعميم نفعها، فقام بذلك على نفقته العالم البركة، الخير الثقة، شيخ شيوخ الطريقة الخلوتية، بقسنطينة اليوم، المتحلي من أخلاق أسلافه بالنفائس الغالية السوم، الشيخ سيدي مصطفى بن الشيخ سيدي محمود بن الشيخ سيدي الحاج محمد بن الشيخ سيدي محمود بن الشيخ الأكبر سيدي الحاج عبد الرحمن باش تارزي زاده الله من بره وتوفيقه، وسدّده في سلوك طريقه، فمنه آمين.
ولنحلّ هذه الخاتمة بكلمات وجيزة في ترجمته فنقول:
لازال هذا الرجل معروفاً من شبابه بجمال العفّة، وحسن السمت، ومكارم الأخلاق، والحياء التام، والتواضع الفطري، مع جميع الناس، اعتنى بتربيته أبوه الشيخ سيدي محمود، وابن عم جده الشيخ سيدي الحاج السعيد، فحفظ القرآن، وقرأ العلم وتأدب بأدب الطريق، وشبّ على الأخلاق الكريمة، اللائقة بمثله، في كرم محتده، وشريف تربيته، وما هو مترشح له، من الجلوس على سجادة الطريق، وتهذيب الإخوان حتى نال بذلك المنزلة الرفيعة من قلوب عارفيه عموما، وأهل الطريقة خصوصا.
وفي رجب عام 1329هـ ولي خطبة الخطابة والإمامة بالجامع الأخضر، الحنفي بعد وفاة الشيخ سيدي السعيد الذي كان إماما خطيبا بالجامع الكتاني الحنفي، وفي شوال عام 1335هـ جلس على سجادة الطريقة الخلوتية، بعد وفاة عمه الشيخ البركة سيدي الحاج أحمد عليه الرحمة والرضوان، وله في الإذن بتلقين الذكر في الطريقة الخلوتية إجازتان بسندين يتصلان بالقطب الأكبر، والغوث الأشهر، الشيخ سيدي محمَّد (بفتح الميم) بن عبد الرحمن القشطولي الأزهري، دفين الجزائر، الذي أتى بالطريقة الخلوتية إلى وطن الجزائر، من ديار مصر.
الإجازة الأولى:
أجازه بها أبوه الشيخ سيدي محمود عن أبيه الشيخ سيدي الحاج محمد عن عمه العلامة الشيخ سيدي مصطفى، شارح الرحمانية عن أبيه الولي الكامل، الشيخ سيدي الحاج عبد الرحمن باش تارزي، ناظمها، عن القطب الأكبر سيدي محمد بن عبد الرحمن، دفين الجزائر، رحمه الله تعالى، ورضي عنهم.
الإجازة الثانية:
أجازه بها ابن عم جده الشيخ سيدي الحاج السعيد باش تارزي عن الولي الصالح الشيخ سيدي علي بن عيسى عن القطب الأكبر سيدي محمد بن عبد الرحمن رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
وهذا السند عال، ليس فيه بين القطب الأكبر والشيخ المجاز إلا واسطتان، لا يعرف مثله اليوم لمقدم خلوتي في وطن الجزائر.
ندبني الشيخ المذكور إلى إعانته على نشر المنظومة الرحمانية بالوقوف على تصحيحها فلبيت طلبه راجيا من وراء ذلك أن يتذكر الإخوان ما عليهم في هذا الطريق الشرعي من الأدب العملي والعلمي، ويعلموا أنهم لا يكفيهم في ترقية نفوسهم مجرد الانتساب الاسمي، فيدعوهم ذلك إلى العلم والتعلم، اللذين لا سعادة في الدارين بدونهما، ولا تقدم، فيفقهوا حينئذ حقيقة الدين، وينتفعوا بنصائح المرشدين، ويكونوا يوم ذاك إن شاء الله تعالى من المهتدين.
فالله المسؤول أن يهب التوفيق والنفع والثواب، وكل ساع في خير المسلمين، آمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
تحريرا بقسنطينة (الجزائر) عشية الأربعاء 14 شوال عام 1341هـ.
عبد الحميد بن باديس
وهذه المنظومة مع أنها كتبت بالعامية المهذبة، فإنها اشتملت على أصول الخلوتية، وآدابها الصوفية، الشرعية، وأهم ما ورد في الخاتمة التي كتبها الشيخ عبد الحميد، هو هذه النصيحة بالأدب العلمي والعملي، وأن ترقية النفس لا تكون بمجرد الانتساب للطريقة اسميا، ودعوته للتعلم واكتساب العلم، والأمر الذي لا سعادة ولا تقدم إلا بها، ولا فقه للشرع إلا بهذا العلم.
ويلاحظ أنه أورد كلمة التقدم في كتابته هذه، وهذا يدل على أنه لا يعادي التصوف الحقيقي، وإنما هجومه على ما وصل إليه، بعض الناس من انحراف عن الطريق، وفساد في تصور التصوف، وانقياد للحكام المحتلين من بعضهم.