جهود أبو القاسم سعد الله في بناء مدرسة التاريخ الجزائرية
بقلم: أرزقي فراد-
إن تأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية لا يمكن تحديده بالدقة نفسها التي نحدّد بها أحداثا أخرى كيوم إجراء الامتحان أو يوم الانتخاب مثلا (اليوم/ الشهر/ السنة)، بل هو سيرورة على امتداد مدة زمنية ليست قصيرة. وعليه فإن هذا التأسيس مهمة طويلة وشاقة، شاركت في الماضي وتشارك فيه حاليا أقلامُ أجيال عديدة في بناء صرحه، علما أن ذلك لم يكن حكرا على المؤرّخين فقط.
لقد ظهرت الفكرة الجنينية لهذه المدرسة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، بنيّة مواجهة سياسة المسخ التي مارسها الاستعمار الفرنسي ضد الشخصية الجزائرية المتميّزة والمنتمية إلى وعاء الحضارة الإسلامية. وبعبارة أخرى فإن فكرة تأسيس مدرسة تاريخية جزائرية، لم تكن واردة في أذهان هؤلاء الكتّاب الرواد، إذ كان هاجسهم، وهم يكتبون تاريخنا بحقبه المختلفة قديمه وحديثه، هو شحذ الهمم وتعبئة الجزائريين في إطار المقاومة الشعبية ضد الاستعمار، لأن التاريخ هو ديوان الوطنية وقلبها النابض.
ويبدو أن اللبنة الأولى للكتابة التاريخية في عهد الاحتلال الفرنسي، قد وضعها حمدان خوجة، حين ألّف كتابه المشهور “المرآة” الذي هو في الأصل تقرير مفصّل قدّمه للبرلمان الفرنسي سنة 1833م، دفاعا عن وطنه الجريح، الذي عانى الأمرّين على أيدي العساكر الفرنسيين الذين لم يحترموا معاهدة الاستسلام التي وقعها الداي حسين يوم 5 جويلية 1830، في محاولة منه لإنقاذ بلده من أنياب الاستعمار الفرنسي. ثم جاءت كتبٌ أخرى في النصف الأوّل من القرن العشرين، في إطار جهود رجالات الحركة الاصطلاحية، قصد إحداث “صحوة” هوياتية، قادرة على مواجهة سياسة الفرْنَسة الاستعمارية. أذكر منها على الخصوص:
-
تعريف الخلف برجال السلف، أبو القاسم الحفناوي، مطلع القرن العشرين.
-
تاريخ الزواوة، أبو يعلى الزواوي، 1920م، بدمشق.
-
تاريخ الجزائر قديمه حديثه، مبارك الميلي، 1928م، بالجزائر.
-
كتاب الجزائر، أحمد توفيق المدني، 1931م، بالجزائر.
-
تاريخ الجزائر العامّ، عبد الرحمن الجيلالي، 1954م، بالجزائر.
مفهوم المدرسة التاريخية الجزائرية
إن ما نعنيه بهذا المفهوم ليس بناء ماديا هيكليا، ولا مؤسسة تعليمية. كما لا نعني بهذا المفهوم أنماط المدارس التاريخية ذات التوجهات المنهجية والفلسفية المختلفة (المدرسة الإنسانوية/ المدرسة المادية الماركسية/ المدرسة العقلانية/ المدرسة الرومانطيقية/ المدرسة الوضعية/ المدرسة التاريخانية/ المدرسة البنيوية…)، إنما هو (أي مفهوم المدرسة التاريخية الجزائرية) مصطلحٌ ذو شحنة وطنية يُطلق على جهود الباحثين الذين جمعتهم فكرة الدفاع عن الشخصية الجزائرية وسيادتها في زمن الاستعمار الفرنسي، وتجمعهم حاليا في عهد الاستقلال فكرة التخلص من القراءة الاستعمارية لتاريخنا، وذلك بإعادة كتابته بطريقة موضوعية تعيد الاعتبار لأمجاد الجزائر، ولأقلامها التي ساهمت في بناء الحضارة الجزائرية بصفة خاصة، والحضارة الإنسانية بصفة عامة، دون تبخيس أو غمط لجهود العاملين في شتى مجالات الثقافة والحضارة والمعرفة.
هكذا يتجلى لنا بوضوح أن المدرسة التاريخية الجزائرية تقف على طرف نقيض للمدرسة التاريخية الاستعمارية، التي حاولت طيلة وجودها في الجزائر محو الشخصية الجزائرية بكل أبعادها ومكوّناتها المتنوعة، لذا فمن واجبات المدرسة التاريخية الجزائرية، أن تسير على هدى قول الكاتب محمد الشريف ساحلي الذي دعا فيه إلى تصفية تاريخنا من القراءة الاستعمارية المشوِّهة لشخصيتنا. كما تهدف أيضا إلى قراءة تاريخنا قراءة وطنية موحِّدة تدعم اللّحمة الوطنية، وتبعدنا عن القراءة الشوفينية الانشطارية التي تهدّد وحدة الوطن.
تنوّع كتابات أبو القاسم سعد الله
وفي بادئ ذي بدء، أودّ أن الفت انتباه القارئ، إلى أن فهم أفكار الدكتور أبو القاسم سعد الله يقتضي إدراك تنوّع كتاباته، فمنها الكتابة العلمية الأكاديمية، وهي الغالبة، والمتمثّلة في أبحاثه المتعلقة بتاريخ الجزائر. وهناك الكتابة الأدبية والمقالات الصحفية والحوارات التي عبّر فيها عن آرائه السياسية ومواقفه كإنسان إزاء قضايا عصره المختلفة.
والنوع الأوّل متميّزٌ بالمقاربة العلمية والطرح العقلاني، في حين تميّز النوع الثاني (المقالات والحوارات) بالتحرّر من قيد المنهجية العلمية الصارمة، فجاءت في أشكال تعبيرية مفعمة بالعاطفة المشحونة بقناعةٍ إيديولوجية، صدرت عن سعد الله المناضل من أجل القومية العربية، وليس عن أبو القاسم سعد المؤرخ. ولعل ما يؤكد ذلك أنه لم يتوان عن توصيف النوع الثاني من كتاباته بأسماء كثيرة ( أفكار جامحة/ الجدل الثقافي/ قضايا شائكة)، وفي ذلك تلميحٌ إلى كونها آراء شخصية وليس إلاّ. وعليه يجب أن يدرك القراء أن هناك أبو القاسم سعد الله الأديب، وهناك أبو القاسم سعد الله المؤرخ، ويقتضي واجب الإنصاف التمييز بين الصفتين المجتمعتين في شخصية واحدة، كما أنه من الوفاء للأمانة العلمية تفادي الخلط بين الموضوعين.
لماذا لم يكتب أبو القاسم سعد الله تاريخ ثورة نوفمبر؟
من الجوانب الجديرة بالتوضيح في حياة أبو القاسم سعد الله العلمية، إحجامه عن الكتابة في أحداث ثورة نوفمبر 1954م، لعدم توّفر الشروط الموضوعية للكتابة عنها، فضلا عن أسباب أخرى علّق عليها بقوله: «وكثيرا ما سألني السائلون عن سبب عدم كتابة تاريخ الثورة، فكنتُ أسرع بالإجابة: ومتى كتبنا تاريخَنا الآخر حتى لم يبق إلاّ تاريخ الثورة؟ إن تاريخ الجزائر كلّه ما يزال غير مكتوب. وهذا ما جعلنا نتخبّط في التعرف على هويتنا وانتمائنا، وهذا الذي جعل الغير يجد أرضا بلا تاريخ مكتوب، فأخذ هو يكتب لملء الفراغ كما يهوى. وأوّل المتصدّرين لكتابة تاريخ الجزائر في جميع عصوره هم الفرنسيون، بحكم استعمارهم لبلادنا ومعرفتهم لتفاصيلنا، وطمعهم في الإبقاء على التأثير علينا، والمحافظة علينا في فلكهم. وكلّ ما نبديه حول هذه المدرسة الممتدّة الجذور والفروع (أعني المدرسة التاريخية الفرنسية التي ابتدأت بكتابات العسكريين والمستشرقين والكنسيّين، ثم امتدّت عبر الجامعيين والأكاديميّين في جامعة الجزائر، ثم انتقلت بعد الاستقلال إلى فرنسا نفسها لتُبقي على تأثيرها في شبابنا الذين يذهبون إلى هناك لتلقّي العلم والتّتلمذ.) هو المقاومة الشفوية والرفض العاطفي دون تقديم البديل لما تنتج.» (مقدمة كتاب الحركة الوطنية الجزائرية، الطبعة الثانية، 2005م، دار الغرب الإسلامي.)
جهود أبو القاسم سعد الله في تأسيس مدرسة التاريخ الجزائرية
لا يختلف اثنان حول سموّ مكانة أبو القاسم سعد الله الرائدة في بناء المدرسة التاريخية الجزائرية في عصرنا الحالي، وليست هذه المرتبة العلمية السامقة منّة من أحد، أو مجاملة من المعجبين بقلمه، وإنما افتكّها بفضل جهوده العلمية التي لم تتوقف عند عتبة “التأريخ” أي جمع المادة التاريخية، بل تعمّق في دراستها وتحليلها ونقدها بالأدوات العلمية الأكاديمية بدون مجاملة، متجاوزا ثقافة المناقب السائدة في الماضي، والمتميّزة بتقديس المؤلفين والمؤلفات. وبفضل هذا التفكير العلمي نجح الدكتور أبو القاسم سعد الله، في الغوص والنفاذ إلى “روح التاريخ”، مستخلصا العِبَر من تفاصيله وجزئياته، المنجبة لـ”الوعي التاريخي” الضروري لنهضة الأمم والشعوب.
هذا ومن فتوحاته العلمية أنه أدرك أهمية “الذات الثقافية” في صيانة الأمة من الذوبان والانصهار في الآخر مهما كانت قوته الحضارية، فالحفاظ على الثقافة الوطنية بكل أبعادها، هو صمّام الأمان في أوقات الشدّة كما حدث لنا نحن الجزائريين في زمن الاحتلال الفرنسي.
ورغم علوّ كعب المؤرخ أبو القاسم سعد الله في بناء أسس مدرسة التاريخ الجزائرية، فإنه لم يدَّع الكمال، فهو القائل سنة 1979م في مقدمة الطبعة الأولى لكتاب “تاريخ الجزائر الثقافي”: «…أمّا أنا فحسبي أن أقول إنني جمعت لهذا الموضوع ما استطعت من المواد قرابة ربع قرن، ثم عكفتُ على دراستها ومقارنتها وتمحيصها، ثم صُغتها، فجاء منها هذا الكتاب. ولا شك أن عملا يغطّي هذا المدى التاريخي الواسع، وفي هذا الحجم، لا يمكن أن يسلم من الفراغات والهفوات، ولكنّي سأظل ما دمتُ حيّا عاكفا على تنقيحه وتهذيبه، من المجهود الشخصي ومن تنبيهات واقتراحات الباحثين. ذلك أن البحث لا ينتهي بصدور الكتاب، كما أن الكتاب لا يمكن أن يظل محتجبا في انتظار الانتهاء من البحث، لأن البحث كنهر الحياة لا ينتهي.».
يرى الدكتور أبو القاسم سعد الله أن تأسيس المدرسة التاريخية الجزائرية يستوجب تضافر جهود مؤرّخين كثيرين ينتمون إلى أجيال عديدة، لأن عمر الفرد محدود ولو كان من طينة الكبار على غرار أبو القاسم سعد الله. في حين أن “التأسيس” عملٌ ممدود في الزمن يحتاج إلى أعمار كثيرة، ومن ثمّ فباب الاجتهاد والعمل لم يُغلق بعد في نظره، وقال في هذا السياق: «وأملنا أن تخرُج من الجامعة فئة من الباحثين المتمرّسين، والمسلّحين بوسائل العلم والبحث، والمقتنعين بضرورة حمل الرسالة، رسالة كتابة تاريخ الجزائر منذ القديم، من وجهة النظر الوطنية، ولا نعني هنا الوطنية الضيّقة أو الشوفينية، ولكنّنا نعني الكشف عن الذات الجزائرية، وتحديد أبعادها وإبراز مساهمتها في الحضارة الإنسانية عامة، والحضارة العربية الإسلامية خاصة. فمتى يتحقق هذا الأمل؟.» (مقدمة كتاب الحركة الوطنية الجزائرية، الطبعة الثانية، 2005م، دار الغرب الإسلامي.)
ضياع المصادر الجزائرية
تحدّث الدكتور أبو القاسم سعد الله بألم عن ضياع المصادر الجزائرية الخاصة بالتاريخ الثقافي، بفعل جرائم الاستعمار الفرنسي، إذ تعرّضت المكتبات الخاصة للحرق والنهب أثناء العمليات العسكرية. وذكر أيضا أن العلماء الجزائريين المهاجرين إلى البلاد العربية قد أخذوا معهم بعض مخطوطاتهم، ثم باعها هناك أحفادُهم للمستشرقين بعد أن أصابهم الفقر.
أما المخطوطات المنهوبة من طرف الاستعمار الفرنسي فلا نعرف عنها إلاّ النزر اليسير من خلال ما كتبه الكتّاب الفرنسيون حسب هواهم. ونتيجة لتفرّق المصادر الجزائرية في مكتبات العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا وتركيا ومكتبات العالم العربي، فقد اضطر الدكتور أبو القاسم سعد الله بعد استفادته من المكتبات الخاصة المحلية، إلى زيارة معظم المكتبات العربية في شمال إفريقية والمشرق العربي، ومكتبات الولايات المتحدة الأمريكية التي استفاد منها كثيرا، عن طريق حصوله على منح دراسية كثيرة من الجامعة ووزارة التعليم العالي، مكّنته من الإقامة فيها (أي أمريكا) مع عائلته للبحث والتنقيب والكتابة والتحرير، في ظروف مثالية.
تألّمه من غياب موسوعة تاريخية جزائرية
لقد تألم أبو القاسم سعد الله كثيرا من عدم وجود موسوعة تاريخية جزائرية تملأ الفراغ الرهيب الذي تعاني منه المكتبة الجزائرية، وتكون مصدرا ومرجعا للجزائريين وللأجانب الذين يرغبون في دراسة تاريخنا في شتَّى حقول المعارف والعلوم. كما أنه لم يهضم فكرة وجوب السفر إلى الخارج من أجل دراسة تاريخ الجزائر مثلما حدث له هو شخصيّا، فهذا الواقع الثقافي المرّ هو ببساطة منطقٌ مقلوب ناجم عن الاستعمار الفرنسي الذي نهب مصادرَنا التاريخية كما سبق الذكر، فعزم على إعادته إلى حالته الطبيعية، وهو الأمر الذي جعله يوقف جهوده العلمية من أجل كتابة أكبر عددٍ ممكن من فصول هذه الموسوعة التاريخية الوطنية.
ورغم فتوحاته العلمية الكثيرة المتميّزة التي بوّأته مركز الريادة في الكتابة التاريخية حتى لُقّب بـ”شيخ المؤرخين”، فإنه كان يدرك أن مشروعَه ممدود، وعمرَه محدود، لذلك كان يسابق الزمن، فحرم نفسه وزوجتَه من مباهج الحياة من أجل أن يخطو خطواتٍ عملاقة في مجال الكتابة التاريخية، لأنه اعتبر هذه المهمة الثقافية في مقال نشره سنة 1966م بمثابة جهاد، كما دلّ عنوانه (في الجهاد الثقافي). هذا وقد آلمه أن يرى المكتبة الجزائرية خِلوًا من المراجع التي تنصِّف تاريخنا، وقد زادها ظلمُ الأشقاء وَجْعًا كما قال: «وكان هدفي من البحث هو إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور. ذلك أن المستعمرين الفرنسيين قد بثّوا طيلة احتلالهم للجزائر بأنه لم يكن لأهلها ماض سياسيّ ولا ثقافي. وزاد إهمالُ الدارسين العرب والمسلمين لتاريخ الجزائر من حرصي على البحث والتنقيب. فالجزائر قد ظلمها أعداؤها وأشقاؤها على السواء.» (تاريخ الجزائر الثقافي، ج1، ص.13)
العناية بتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية
هذا وقد باشر الدكتور أبو القاسم سعد الله الكتابة التاريخية عبر بوابة التاريخ السياسيّ، فكتب عن المقاومة الشعبية التي واجهت الاحتلال الفرنسي، وعن الحركة الوطنية التي نال بها شهادة الدكتوراه في أمريكا في ستينيات القرن الماضي، ومن أهداف أطروحته تأكيد وجود مقاومة شعبية على الصعيد الداخلي، وحضور الجزائر على الصعيد الخارجي خلافا لأكاذيب فرنسا، وقال في هذا السياق: “… والوجه الثاني من هذه الأطروحة هو التعريف بالحركة الوطنية داخليا وخارجيا، ومحاولة تطهيرها من الزيف الذي ألصقه بها المستعمِرون. فالدراسة تثبت أن الجزائر لم ترضَ بالاستعمار كما أدّعى بعضهم، وقد استمرّت في نضالها ضد الاحتلال. وأن اتخاذ هذا النضال أشكالا سياسية وعاطفية لا يعني استسلام الجزائر نهائيا. كما أثبتت الأطروحة أن الجزائر لم تكن في عزلة عن العالم؛ فقد ظهر منها أن مهاجري الجزائر قد أثّروا وتأثّروا بكل ما كان يجري في العالم العربي والعالم الإسلامي من الأحداث، كما ظهر منها أنّ الجزائر قد تأثّرت أيضا بأفكار أوروبية كالاشتراكية والليبرالية والشيوعية والديمقراطية.” (منطلقات فكرية ، ص.57.)
العناية بتاريخ الجزائر الثقافي
لقد جعل المؤرِّخ أبو القاسم سعد الله: “تاريخ الجزائر الثقافي” بمثابة واسطة العقد لموسوعته التاريخية التي خصّ بها وطنه الجزائر، وقد أخذ منه الكتاب جلّ وقته بل معظم سنوات حياته، وهذا لأهمية الموضوع القصوى؛ فالاهتمام بالجانب الثقافي هو بمثابة التركيز على مظاهر الشخصية الجزائرية التي ظلت حيّة تُرزق سواء في العهد العثماني أو خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وهذا ما يعني أن الانكسار السياسي (أي فقدان السيادة الوطنية) لا يعبّر بالضرورة عن انكسار ثقافي، بل أكثر من ذلك فإن “الذات الثقافية” الجزائرية قد تحدّت الهزيمة السياسية، ومن رَحِم الصمود الثقافي خرجت الحركة الوطنية.
وقد استحق الدكتور أبو القاسم سعد الله لقب “شيخ المؤرخين” بفضل المجلدات التي خصّصها لتاريخ الجزائر الثقافي بشكل خاص، تحدَّث فيها بإسهاب عن المؤسسات التعليمية بأنواعها المختلفة (مدارس وكتاتيب وزوايا) وعن المؤلفات المنشورة والمخطوطة، وعن المؤلفين وجهود العلماء في نشر التعليم في كلّ ربوع الوطن، وبتمويل من المجتمع خاصة عن طريق الوقف. والغاية من ذلك هو إيجاد موسوعةٍ تاريخية لثقافتنا الجزائرية كما قال: “… ومع ذلك فإنَّ لهذا الكتاب رسالة، فنحن إلى الآن لا نملك تاريخا لثقافتنا يحدّد معالمها ويكشف عن قيمها ويضبط علاقاتنا بها. وقد كانت هذه الثقافة عربية إسلامية اشترك فيها الجزائريون من شرق البلاد إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها. وهي ثقافة مهما قيل إنها متقدِّمة أو منحطّة، هي نحن في ماضينا، وهي التي نستمدُّ منها اليوم ذاتنا وحقيقتنا. فالجزائري اليوم يجب أن يعتز بهذه الثقافة والانتساب إليها، لأن الشعوب التي ليس لها ثقافة لا وجود لها. ولا يهم بعد ذلك أن يقال عنّا إنّنا كنّا سياسيا مستقلين أو مستعمَرين ما دام وجودُنا الثقافي ثابتا لا يتزعزع. وهذه إحدى نقط الكتاب.” (تاريخ الجزائر الثقافي، ج.1، ص.24.)
الخاتمة
لقد أنجز أبو القاسم سعد الله عملا فكريا ضخما بحجم الجبال، لا يُنْجَزُ في العادة إلاّ من طرف فِرق البحث. ورغم تعرّضه سنة 1988م لنكبة علمية تمثّلت في ضياع محفظته في مطار لندن أثناء عودته إلى الجزائر من أمريكا، وهي تحوي جهود سنوات البحث والتنقيب والتقييد، ورغم هول الصّدمة التي أثّرت في نفسه بعض الوقت، ورغم أن المحفظة قد طواها الزمان كما يطوي البحر سفينة تغرق، فإن “الروح الآملة” قد عادت سنة 1992م كما قال، واستأنف نشاطه الفكري بعد أن حصل على منحة دراسية سنة 1993م أعادته إلى أمريكا لمدة ثلاث سنوات، أنجز خلالها تسويد كتاب “تاريخ الجزائر الثقافي” بتضحياتٍ مادية ومعنوية لا يعلمها إلاّ الله كما قال.
لهذه الاعتبارات، فإنه ليس من باب المجاملة أن يلقّب بـ”شيخ المؤرخين”. بل من باب الإنصاف والعرفان أن أوجّه نداء للمؤرخين والكتاب، أدعوهم إلى السعي من أجل تبسيط أفكار المؤرِّخ الدكتور أبو القاسم سعد الله، المكنونة في موسوعته التاريخية التي تقارب ستين مجلدا، وذلك عن طريق إصدار سلسلة من كتب الجيب، تمكّن الشباب من الاطّلاع على بعض أفكاره. وكان الأستاذ المجاهد عبد القادر نور قد دعا إلى هذه الفكرة في حياته. كما أدعو وزارة التربية إلى إدراج بعض مؤلفاته ضمن البرامج التعليمية، من أجل بناء جسور التواصل بين المتعلمين وبين تاريخهم العريق. مع العلم أن أفضل تكريم للعلماء العاملين الأموات والأحياء منهم، هو أن نحافظ على ذكرهم من خلال تدريس بعض مؤلفاتهم للناشئة.