أبو القاسم سعد الله في ذكراه الثامنة
بقلم: د. نجيب بن خيرة-
لحظات لا تنسى مع شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله
بعد مسيرة تطول بطول الحياة، وعرض الزمان.. عايش فيها أيام الإستعمار والاستقلال، ودرس فيها ودرّس، ودوّن وكتب، وسافر وارتحل، وأشرف وتابع، ونقد وحلّل، ونشر وحقّق... ترجّل الفارس، وألقى سيفه ورمحه، وخلع لاَمَتَه، وهوى النجم، ومات المؤرخ الكبير الدكتور أبو القاسم سعد الله ..
سعد الله... ينقذني في الامتحان.!
تعود صلتي بشيخ المؤرخين الجزائريين إلى المرحلة الجامعية الأولى حيث كنا في قسم التاريخ الإسلامي بجامعة الأمير عبد القادر نقرأ كتبه، ونتابع مقالاته، ونتسقط أخباره من بعض طلابه في جامعة الجزائر ...
وعندما أنهيت مرحلة الليسانس تقدمت إلى مسابقة الماجستير في شهر أكتوبر 1990، وكنا يومها نربو على الأربعين طالبا ممن تقدموا إلى الإمتحان الكتابي، ولم ينجح من الأربعين إلا حوالي خمسة عشر طالبا، تقدموا إلى الامتحان الشفهي ليخرج من بينهم سبعة طلاب ...!!
ومن غريب الموافقات أني دخلت على لجنة الامتحان الشفهي في القاعة الشرفية بالطابق الأرضي في جامعة الأمير عبد القادر، وكان أغلب الأساتذة السائلين من المشارقة، ولم يكن بينهم إلا جزائري واحد. يسألون الطالب في قضايا متنوعة، حتى في النحو والتفسير وحفظ القرآن مع أسئلة في التاريخ على اختلاف مراحله ..
وكان من ضمن ما سُئلت عنه كتاب تاريخ الجزائر الثقافي للدكتور أبو القاسم سعد الله فانطلقت أحدث السائل عن محتويات الجزأين الأولين اللذين طبعتهما الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (SNED). واستطردت قائلا: أما الجزء الثالث فقد جمع الدكتور سعد الله مادته العلمية من مكتبات عالمية كثيرة، ولكنها ضاعت منه حقيبته في مطار لندن، وقد كتب عنها الدكتور مقالا في جريدة الشعب بعنوان "نكسة ثقافية" ورحت أسرد ما ذكره الدكتور في المقال، فشدّ الحديثُ الحاضرين، ودخلوا معي في نقاش جماعي حول موضوع المقال، واندمجوا في دهشة وحيرة لما حصل للباحث الكبير الذي شرّق وغرّب ليجمع تاريخ بلده من خارج بلاده ومن مكتبات الآخرين...!!.
وأحسست حينها أن مقال الدكتور سعد الله أنقذني، وأذهب عني هيبة اللقاء، فاندمجت في الحوار معهم وكأني واحد منهم ...!!.
خرجت من قاعة الامتحان، وودعت زملائي، وعند باب الجامعة سمعت أستاذي الفاضل الباحث الدكتور خليفة حماش مدير معهد الحضارة الإسلامية يومها يناديني من خلف سياج الجامعة ويقول لي:" مبروك عليك النجاح، فأنت الأول على القائمة ...".
عرفت الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمة الله عليه في جامعة الأمير في مرحلة الماجستير عندما جاءنا زائرا ...فألقى جملة من المحاضرات في التاريخ الحديث والمعاصر، وكم كان الرجل يتدفق علما وهو واقف تارة، وجالس على طرف المكتب تارة أخرى، فيغوص في أعقد القضايا التاريخية، ويورد تفاصيلها من ذاكرته المُسعفة، وحافظته القوية، ويرد على شبهات المؤرخين، وأباطيل المستشرقين الفرنسيين ممن يرون العهد العثماني في الجزائر مرحلة احتلال واستعمار وسيطرة ....
وحين زرت المملكة الأردنية عام 2000م وأنا في طريقي إلى العراق لحضور مهرجان (المربد)، وأبحث عن مصادر لرسالتي للدكتوراه، زرت مدينة المفرق وجامعة آل البيت فيها، ودخلت على الدكتور سعد الله في مكتبه، وكانت أول مرة أجلس فيها إلى الدكتور على انفراد.. والرجل مع سمعته العاطرة، وعلمه الغزير، ومقامه المحمود... لا يتكلف في حديث، ولا يتقعّر في لغة، ولا يتعالم على طلابه ومريديه... بل يحدثك كما يحدث الوالد ولده، والصديق حميمه، بلغة دارجة بسيطة مُترعَةً بالصدق والوفاء، مع ابتسامة وادعة لا تفارق وجهه، ونُكتة لا تندُرُ في حديثه ....
راح الرجل يسألني عن الجزائر وأوضاعها، بعد مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى السلطة، وواقع الجامعة الجزائرية، ومآسي الجزائريين بعد عشرية سوداء دامية أتت على الوطن اليانع فبددت خضراءه، وأعطبت ثماره، وحولته إلى خرائب وأطلال ..
أهداني الدكتور رسالة ماجستير لطالب إيراني ناقشها في جامعة آل البيت حول "الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في مدينة الري" وقد كان الدكتور عضوا في لجنة المناقشة، ودوّن عليها جميع ملاحظاته وتصحيحاته... وقال لي: "لعلها تفيدك في موضوعك الخاص بالحياة العلمية في خراسان وبلاد ما وراء النهر"..
ثم ودعت الرجل الكبير على أمل أن ألقاه في الجزائر قريبا ....
وفي سنة 2003م التقيت الدكتور سعد الله في جامعة الأمير عبد القادر، وألقى محاضرة عامة في القاعة الكبرى.. تحدث الدكتور عن الأسطول البحري الجزائري في القرن السادس عشر والسابع عشر، وضعفه في القرن السابع عشر والثامن عشر، بعد ظهور الأساطيل الأوربية (البريطانية والفرنسية والهولندية) عليه.
ثم تحدث عن العهد العثماني في الجزائر وأشار إلى قبائل المخزن وقبائل الرعية وعن الأوقاف فيها: كوقف الحرمين الشريفين ووقف سبل الخيرات ووقف الغرباء ووقف الجامع الكبير... وبعد اللقاء تشرفت بلقائه وأهديته كتابين من كتبي..
كما سعدت بلقائة في مطار الجزائر، وأنا في طريقي إلى القاهرة في شهر أفريل 2005م، فتبادلنا الحديث، وعلمت أنه مسافر لحضور لقاء في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وانزوى بعيدا يكتب على دفتره، وتسجيل يومياته كما علمت منه بعد ذلك ...
يوم 25 أفريل 2007م، زارنا العلامة الراحل في الجامعة، وطلب مني أن نقوم بجولة في سيارتي في مدينة قسنطينة برفقة زميلته الدكتورة ناجية عبد الله ابراهيم من العراق والتي حلّت ضيفة على قسم التاريخ بجامعة الأمير عبد القادر يومها.. (وقد دونت في مقال مطول سابق وقائع هذه الجولة الرائعة) .
كما شرفني يوما برسالة تزكية، بعث بها إلى عبر البريد، صنعت في نفسي ربيعا مُبهج الورد، مُنعش العطر، مُمتد الأفق، يقصُر دونه الطرف، ويعجز عن وصفه بيان ...
وظلت صلتي بالرجل الكبير وثيقة حتى بعد سفري إلى الشارقة، أزوره في بيته في العاصمة، أو يزونا في مدينة بوسعادة، حين يزور أصهاره فيها ...
وكم كنت أحاول في مرضه الأخير الاتصال به على رقمه الخاص ـ وهو نزيل المستشفى العسكري ـ ولكن الهاتف تصَامَمْ، والمرض القاهر منع المؤرخ الكبير من أن يرد على السائلين... إلى أن فُجعت بالخبر الأليم بوفاة الدكتور أبو القاسم سعد الله علاّمة الجزائر، وأديبها العظيم، ومفكرها المبدع، وشيخ المؤرخين فيها بلا منازع... يوم السبت 14 ديسمبر2013.
وبعد وفاته جمعت أغلب ما نشر من كلمات تأبينية، وذكريات خطتها أقلام بعض من تلامذته ومحبيه، وطبعتها في كتاب بعنوان (أبو القاسم سعد الله بعيون مختلفة)، وبكرم من دار عالم المعرفة بالجزائر ووفاء صاحبها الأستاذ (رضا رحموني) للعلامة الراحل تم توزيع الكتاب مجانا، صدقة جارية على روحه الطاهرة..
وإذا كان مصابنا أليما في وفاته ـ رحمه الله ـ فعزاؤنا أنه ترك عيونا من آثاره الباقية ستكون منهلا عذبا ترده الأجيال الضامئة لتاريخها وتراثها وحضارتها ...