الشيخ المربي البشير كاشّة الفرحي.. عَلَمٌ آثر العيش في الظل
بقلم: نوار لمباركية-
على خلاف من يزعمون، اليوم، أنهم ورثة تركات رجال الإصلاح في الجزائر، وأنهم سدنة تراثهم الطيب والوكلاء عليه، فإن الإصلاحيين من قبل عهد الشيخ صالح بن مهنا وتلميذه الشيخ الوقور عبد الحميد بن باديس وإخوانه وصحبه قد آثروا الزهد في الحياة، فلم يأخذوا منها إلا الكفاف. ومالوا راضين إلى التقشف والتقتير، ونبذوا كليا الملذات والكماليات والتنعم في الملبس والمسكن والمركب بعد أن همّوا بأحوال أبناء وطنهم، ووصبوا على هذه الطريق، وتماهوا معها في انسيابية، ولم يستوحشوها رغم قلة السائرين فيها. ولربما منهم من ضاقت موارد العيش في أعينهم، وجفت سيول الرزق أمامهم حتى شق عليهم الحصول على خبز الأبناء. ويكفي أن نذكر أن الشيخ البشير الإبراهيمي، ومن أدراك من هو الشيخ الإبراهيمي؟، كان تاجرا بسيطا متجولا في الأسواق يبيع مادة الشحم المملح.
فضل كثير من الإصلاحيين المكوث في الظل بعيدا عن الأضواء وبمنأى عن حضور صخب مجالس الكبراء ومحافل السياسيين. وانشغلوا بالتربية والتعليم، وانكبوا على التوجيه والإصلاح بأمانة وصدق وتضحية بعد أن استطاعوا الانتصار في أصعب المعارك، وهي معركة التغلب على النفس وقهر شهواتها ولجم غلواء جموحها. ومن المؤسف أن الكثيرين منهم فارقوا الدنيا في صمت مطبق ومريب، وفات الناس سماع نعاياهم في حينه؟.
لم يشكل فقدان الشيخ المربي البشير كاشة، رحمه الله، استثناءً بين إخوانه الكرام الذين سبقوه إلى الدار الأخرى. فقد مضى هو الآخر للقاء ربه في كنف تناس مرفوض، وتجاهل لا يغتفر. والأمة التي تعامل أبناءها الأوفياء الذين خدموها بإخلاص بهذه الطريقة هي أمة جاحدة ومتنكرة. ويفترض أن تؤسس هيئة وطنية إعلامية وثقافية، وذات أجنحة وفروع في كل المدن تنشغل بهذا الأمر، وتعطي لكل ذي حق حقه من التذكر والتعريف به وإحياء مآثره.
الشيخ البشير كاشة أوراسي من قرية: “بني فرح”. وهي قرية صغيرة استقرت أسفل سفح ربوة جبلية جرداء، ولا تبعد كثيرا عن مدينة “عين التوتة”، وما تزال مساكنها البسيطة محافظة على طرازها المعماري الأول. ويكتشف زائرها أن المسالك المؤدية إليها كلها شديدة الالتواءات وصاعدة. ويصعب أن يجد الباحث رأس خيط ناظم يجمع نسب قاطنيها. ويبدو أن سكانها الأوائل لاذوا إليها من عدة جهات قريبة على أزمنة متفرقة بسبب عوامل متعددة، واستوطنوا أرضها، وامتزجوا امتزاجا تاما على أديمها، ورضوا أن تجمع بينهم الجغرافيا قبل التاريخ، وحمّلوا الاسم: “بني فرح” الصفتين معا، وجمعوا فيه الموطن والعُزوة. ويلاحظ أن مثل هذه الظاهرة التي اختفت فيها القبيلة قد تكررت في عدة مناطق من الأوراس. ومع مرور الوقت حمل المكان اسم: “عين زعطوط” الذي عجز عن إزاحة الاسم القديم من رقعة التداول.
لما كانت الأراضي الزراعية المحيطة بهذه القرية المنعزلة ضيقة، ولا تلبي حاجات أهلها من حيث مردود المحاصيل الاستهلاكية، لجأ سكانها إلى تعلم المهن اليدوية، وبرزوا فيها حتى ذاع صيتهم في الأوراس الجنوبي الغربي. وقد تأهلوا وبرعوا في بري الحجارة الصلبة وصقلها واستعمالها في تشييد المباني وإعداد مطاحن الحبوب المنزلية والأرحاء التي تشتغل بمياه الأودية ومعاصر الزيتون. كما تفوّقوا في صناعة المجوهرات الفضية والآلات الفلاحية كالمحاريث والمناجل، وغيرها. ولم يتركوا فنا من فنون الصناعة إلا ومارسوه وأتقنوه، وتعلموا حتى فن صناعة الحلويات. وكان مهنهم هي جوازات سفرهم للهجرة إلى كثير من مدن الوطن طلبا لخبز عائلاتهم.
يتميز أبناء “بني فرح” بشفافية البشرة وبنضارة الوجوه ونظافة الثياب. ويتصفون في معاملاتهم بالوفاء وحماية العهود والمواثيق والصدق والتسامح. وتوصف نساؤهم بأنهن صاحبات شرف وربات بيوت مؤهلات، وبارعات الذوق في إعداد الأطعمة وطهوها، وفي ترتيب أثاث المنازل، وفي إكرام الضيوف. والرجل الفرحي، سابقا، هو صاحب نكتة مضحكة خاصة لما يرويها باللهجة الشاوية المحلية نظرا لما يتمتع به من خفة دم ومن بديهة حادة وتلقائية. ولو جمعت النكت التي صنعوها ورموا بها في أحاديثهم لشكلت كتابا ضخما يستفيد منه الباحثون في الأدب الشعبي.
انتشرت الكتاتيب القرآنية في قرية “بني فرح”، وأخذ بعضها صورة زوايا صغيرة يتردد عليها الطلبة. وظلت هذه الزوايا، ولفترة طويلة، مرتبطة روحيا بزاوية الشيخ ابن عباس الواقعة بمدينة “منعة”، والتي تنهج نهج الطريقة القادرية. وظل مريدو وأتباع هذه الزاوية العريقة من يتناسلون عدديا في “بني فرح”. ووفر هذا المناخ الديني ظروفا ساعدت على التنافس في حفظ القرآن الكريم بين الصبيان بتشجيع من أوليائهم.
كان حضور سكان “بني فرح” الفردي والجماعي أثناء الثورة التحريرية إيجابيا ومضربا للمثل في الصمود والصبر والإخلاص. وكان المجاهدون يجوبون أزقتها الضيقة نهارا أمام مرأى الجميع، ولا يخشون من رد فعل الاستعمار لخلو القرية من أعين المراقبة المتلصصة ومن المخبرين والخونة. ويكفي أن نذكر أن الناجين المتضررين من حادثة اغتيال الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد نقلوا إلى قرية “بني فرح”، وقضوا بها شهورا للاستطباب والعلاج، ولم ينكشف أمرهم.
كتب للشيخ البشير كاشة الفرحي، كما يفضل أن يعرف بنفسه، أن يولد في قرية “عفان” (دائرة ثنية العابد) الواقعة في الأوراس الشرقي بسبب نزول والده بها ممارسا لتجارته. وكان مولده في العشرين من شهر مارس 1926م. ورحل والده صالح بن مسعود بعائلته ثانية إلى مدينة تيمقاد لفترة قصيرة، ثم انتقل إلى مدينة باتنة التي استقر بها في عز انطلاقة نهضتها الإصلاحية. وحين وجّه أبناؤه الكبار بلقاسم وعلي ومصطفى ومختار إلى التجارة، دفع بالصغيرين البشير والطاهر إلى التعليم.
وتمكن الطفل البشير من حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ محمد الصغير زيدان المعافي. ثم جلس يأخذ مبادئ اللغة العربية وعلوم الشريعة الإسلامية في حلقات الشيخ الطاهر مسعودان الحركاتي التي كان يعقدها في المسجد العتيق. وبعدئذ، واصل تعلمه في مدرسة التربية والتعليم تلميذا نجيبا في قسم المربي الكبير وشاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة. وبنصيحة من مؤدبه الشيخ الطاهر مسعودان، قصد جامع الزيتونة بتونس، وقضى فيه مدة ثلاث سنوات امتدت من 1945م إلى 1948م ختمها بالحصول على شهادة الأهلية. وبعد عودته إلى أرض الوطن، ذهب مهاجرا إلى فرنسا، واشتغل عاملا بسيطا في عدة مواقع. وفي سنة 1952م، وهي السنة التي توفي فيها والده، كان من بين وفود الطلبة المختارين الذين أرسلتهم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى المشرق العربي لإكمال الدراسة والتعمق في الكسب المعرفي. وكان ضمن وفد البعثة العراقية.
درس في دار المعلمين العليا في بغداد سنتين بعد أن سمح له تجاوز المرحلة الثانوية، والانتقال مباشرة إلى المرحلة الجامعية. وفي نفس الفترة، تحصل على ديبلوم في الصحافة من مصر عن طريق المراسلة. ولما وجد من يساعده، انتقل إلى السعودية لمواصلة الدراسة، وفيها تحصل على شهادة الثانوية العامة من معهد الرياض العلمي، وبعدها أحرز على شهادة الليسانس في الشريعة من كلية الشريعة سنة 1962م. وأدى فريضة الحج سنة 1954م، ثم أكمل نصف دينه، وكوّن عائلة بعد ارتباطه بالسيدة زينب أخت الشيخ أحمد بن عمار داسي البسكري المدني إمام مسجد التاجوري بالمدينة المنورة، وخلف منها أحد عشر طفلا بين ذكور وإناث.
دخل الشيخ البشير كاشة، رحمه الله، مضمار السياسة من بوابة حزب الشعب الجزائري، وشارك في الثورة كعضو نشط في المنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني، وانتسب إلى ممثليتها في السعودية التي اشتغل فيها مدرسا في التعليم الابتدائي. وبعد استرجاع الاستقلال، عاد إلى أرض الوطن، وصرف جهده الفكري والعلمي عمليا في وزارة الشؤون الدينية والأوقاف ووزارة العدل وفي المجلس الأعلى للغة العربية متبوئا مناصب إدارية وأخرى استشارية.
ساهم الشيخ البشير كاشة في الحياة الفكرية والثقافية الجزائرية، ودعم ساحتها بعدة مؤلفات تاريخية وتربوية وترجمات خصصها لإحياء وإبراز مفاخر مؤدبيه الذين ساهموا في تكوينه وصقل شخصيته. كما كان له حضور مبكر على أوراق الصحف السيارة في العراق والسعودية والجزائر.
توثقت الصلة بيني والشيخ البشير كاشة في الطور الأخير من عمره بحكم عرى المصاهرة لكون أحد أقربائي من جيل أسبق متزوج بإحدى شقيقاته. وكنا نتبادل الرسائل على فترات متقطعة، وقد استفدت منه كثيرا في الاستقصاء عن أخبار مدينة باتنة ورجالاتها. ولربما سأعود إلى رسائله المشوقة التي كان يوافيني بها في مقالة قادمة.
أعجبني الود والوفاء الذي ظل الشيخ البشير كاشة يحمله في قلبه لمعلميه، ومعزّته لهم مما يدل على نبله وسمو أخلاقه وعظمها. فبعد أن تكللت مثابرته بالنجاح في أحد الامتحانات التي تقدم إليها في العراق، أرسل رسالة إلى معلمه الشاعر محمد العيد آل خليفة يخبره ويبشره بما نال وأنجز من تقدم في طلب العلم. فردّ عليه هذا الأخير مهنئا له بمقطوعة شعرية حملتها جريدة “البصائر” إلى قرائها في إحدى صفحات عددها السابع والخمسين الصادر في سنة 1954م. وفيها قال:
هو الفوز لا يحضى به غير صابر
طموح إلى نيل المعالي مثابر
لئن نلت فوزا يا (بشير) فإنني
أزف إليك اليوم أزكي البشائر
أتاني كتاب منك بالفوز منبــئي
فكهرب إحساسي وأنعم خاطري
لك الله فاطمح للمعالي فإنني
أراك حريا باعتلاء المنابر
رزقت بيانا كالخضم تـدفقت
به لحج من ويحك المتكاثر
لك الشكر مني خالصا ولبعثة
لنا شرفت في الشرق قدر الجزائر
ودمتم جميعا للجزائر أنجـما
تنير لها طرق العلا والمفاخـــر
رحم الله الشيخ المربي الجليل البشير كاشة الفرحي الذي آثر العيش في الظل طول حياته المباركة بعيدا عن دائرة الأضواء، وبقي مخلصا لمبادئ تربيته الأولى، فلم يغيّر ولم يبدل.