البشير الإبراهيمي: حياته وآراؤه، علمه وجهاده
بقلم: شريف عبد العزيز-
لم يكن شخصية عادية، وإنما كان مجموعة من المواهب والعبقريات. كان آية في علمه الواسع، وأَدبه الرفيع، وخلقه النبيل، ودينه المتين، وإخلاصه، وسعة أفق تفكيره، وبعد نظره، وإنكاره لذاته، وتَفانيه في خدمة أمته. كان يعيش من...
قدر الأمة أن تكون هدفاً مستمراً لأعدائها وخصومها على مر التاريخ.
قدرها أن تكون صاحبة الدين الصحيح والمنهج الرشيد الذي يغيظ الكافرين، ويدمي قلوب المنافقين.
وقدرها أيضا أن تحوي أقاليمها الخير الوفير من شتى الثروات الطبيعية التي تسيل لعاب المجرمين وقطاع الطرق.
وأيضا أن تكون صاحبة الموقع الجغرافي الفريد كواسطة عقد الأرض، والقنطرة المثلى بين الشرق والغرب.
لذلك ظلت الأمة -وما زالت- تعاني من موجات هجوم وعدوان مستمر من قبل خصومها وأعدائها، بدأت مع بدو علامات الضعف والتراجع الحضاري على الأمة في أواخر القرن الرابع الهجري.
ومن ذلك الحين والعالم العربي والإسلامي محط أطماع كثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيك أوصاله، واستنزاف ثرواته.
وقد نجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة المنظمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي في فترات متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل، ولكن إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة والمحتلين مهما طال الزمان.
وكان الله يقيض لهذه الأمة روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها، وتستعي حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها من جديد.
وكان الشيخ المجاهد المربي "محمد البشير الإبراهيمي" واحدا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار البغيض.
وحياة الشيخ ورحلته العلمية والدعوية والجهادية تحتاج لدراسة وافية، وقراءة كافية لاستخراج أهم دروسها ومعالم طريقها، خاصة وأن الشيخ لم يكن على هذا الدرب العظيم خبط عشواء أو فلتة من فلتات الزمان، بل نتاج عمل دؤوب، وبناء تربوي متكامل، بدأ منذ نعومة الأظافر، ومرابط الصغار، حتى صار من أعاظم الكبار.
المولد والنشأة:
ولد الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي" في قرية "أولاد إبراهيم" برأس الوادي قرب "سطيف" غربي مدينة "قسنطينة" مع بزوغ شمس (13من شوال 1306هـ = 14 من يوليو 1889م)، وهي السنة التي ولد فيها كل من الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي رفقاء درب جهاده الطويل ضد المحتل الفرنسي لبلاد الجزائر العريقة.
كان ولد على ثلاث بنات قبله متتاليات، وفي ذلك مظنة الاهتمام الزائد من والديه والتدليل المفسد للفطرة والعزيمة، ولكن لم يحدث من ذلك شيء، بل الذي حدث هو عكس ذلك تماماً.
فوالديه أرادا له معالي الأمور، والمولى -جلّ في علاه- اصطفاه ليكون أحد رواد الإصلاح والتغيير في الأمة المحمدية.
حفظ "البشير" القرآن الكريم وهو ابن تسع سنوات، ودرس علوم العربية على يد عمه الشيخ "محمد المكي الإبراهيمي"، وكان عالم الجزائر لوقته، انتهت إليه علوم النحو والصرف والفقه في الجزائر، وصار مرجع الناس وطلاب العلم، وقد عني بابن أخيه عنايةً فائقةً، وفتح له أبوابًا كثيرةً في العلم، حتى إنه ليحفظ قدرًا كبيرًا من متون اللغة، وعددًا من دواوين فحول الشعراء، ويقف على علوم البلاغة والفقه والأصول.
وقد رزقه الله قوّة الحافظة فاستوعب حفظاً وفهماً عدداً من المتون العلمية المشهورة للتّدريس إذ ذاك؛ كالتلخيص، وجمع الجوامع، وألفية ابن مالك، وألفيتي العراقي في السِّير، وعلوم الأثر، ورقم الحلل في نظم الدول لابن الخطيب، والشّاطبيّتين في القراءات والرسم، وتحفة ابن عاصم الأندلسي.
كما حفظ بعد التّاسعة موطأ الإمام مالك ومقدمة صحيح مسلم، والمعلقات، والمفضليات.
وكانت لعمه في تربيته طريقة توافق استعداده، وهو أنّه كان معه في دراسة مستمرّة لا تقطعها عنه إلا ساعات النّوم، فكان يُلَقِّنُه، ويُملي عليه ويشرح له، ماشيًا، وقاعدًا، وفي جميع الأحوال إلى أن يأخذه النّوم، كل ذلك مجاراة لحفظه، وذكائه، واستعداده الفطري، فقد رأى عمه ببصيرته النافذة منه استعدادًا خارقًا وحافظة ملتهمة وذاكرة لا تفلت شيئًا، فكان منه ما كان.
وهذا من الأثر الطيب لأهل العلم والمربين ذوي الأفهام والألباب مما يؤكد على دور وقيمة وأثر مربي الأطفال ومعلم الصبيان في هذه السن الصغيرة، والتي يقطعها عموم الصبيان في اللهو واللعب واللهث وراء نزوات الطفولة، وقد كان عمره يوم مات عمُّه أربعة عشر عامًا، وختم عليه وهو في مرض الموت الفصول الأخيرة من ألفية ابن مالك بشرح المرادي، وقد أجازه عمُّه بتدريس العلوم التّي علم أنّه أتقنها عليه، فانتصب للتّدريس وهو ابن خمسة عشر عامًا، واستفاد منه النّاس الّذين حضروا دروسه وكانوا أكبر منه سنًّا لما مات عمه تصدَّر هو لتدريس ما تلقاه عليه لزملائه في الدراسة، وكان عمره أربعة عشر عامًا!
رحلته العلمية:
ولما بلغ "البشير" الثاني والعشرين من عمره ولَّى وجهه نحو المشرق سنة (1330هـ = 1911م) ليلحق بأبيه الذي سبقه بالهجرة إليها منذ أربع سنوات فرارًا من الاحتلال الفرنسي، واختار الاستقرار في المدينة، وكتب إلى ولده يحثه على اللحاق به، ونزل في طريقه إلى القاهرة، ومكث بها ثلاثة أشهر، حضر فيها دروس بعض علماء الأزهر الكبار، من أمثال "سليم البشرى"، و "محمد نجيب المطيعي"، و "يوسف الدجوي"، وزار دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ: "رشيد رضا"، والتقي بالشاعرين الكبيرين: "أحمد شوقي" و"حافظ إبراهيم".
وفي المدينة المنورة استكمل "البشير" العلم في حلقات الحرم النبوي، واتصل بعالمين كبيرين كان لهما أعظم الأثر في توجيهه وإرشاده.
أما الأول: فهو الشيخ "عبد العزيز" الوزير التونسي، وأخذ عنه (موطأ مالك)، ولزم دروسه في الفقه المالكي، طيلة خمس سنوات كاملة.
وأما الثاني: فهو الشيخ "حسين أحمد الفيض آبادي الهندي"، وأخذ عنه شرح صحيح مسلم.
واستثمر "البشير" وقته هناك فطاف بمكتبات المدينة الشهيرة؛ مثل مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، والسلطان محمود، ومكتبة آل المدني، ووجد في محفوظاتها الكثيرة ما أشبع نهمه العلمي.
إقامة الشيخ "البشير الإبراهيمي" في المدينة ودراسته بها جعلته متأثرا بالسلفية منهجاً وعقيدة وسلوكاً وجهاداً.
ناهيك عن أنه قد ورث النزعةَ السلفية من أسلافه، فقد كان بيته بيت علم منذ ثلاثة قرون، ونبغ من هذا البيت عدة علماء ممتازين في الحقبة المذكورة وكانوا مرجعًا في الفتوى والأحكام والتّعليم للقبائل المتجاورة.
وجرى علماء البيت كلهم على حرب البدع والتشدد في الإنكار على أهلها وإقامة السنن الثّابتة في خاصّتهم وفي أتباعهم، ولهم مواقف مشهورة في إقامة النَّكير على ضلالات العقائد وعلى أوهام مشايخ الطُّرق.
ولجدِّهِ الأدنى (الشّيخ عمر الإبراهيمي) أُرجوزة متداولة في التّشنيع على هذه الطرق ومشايخها.
وسيواصل حفيده من بعده نفس الطريق، وسيكون له صولات وجولات في الجزائر بعد ذلك.
وفي أثناء إقامته بالمدينة التقى بالشيخ "عبد الحميد بن باديس" الذي كان قد قدم لأداء فريضة الحج، وقد ربطت بينهما المودة ووحدة الهدف برباط وثيق، وأخذا يتطلعان لوضع خطة تبعث الحياة في الأمة الإسلامية بالجزائر، وانضم إليهما "الطيب العقبي"؛ وهو عالم جزائري سبقهما في الهجرة إلى المدينة، والتقى الثلاثة في أيام متصلة ومناقشات جادة حول وضع الجزائر وسبل النهوض بها، فوضعوا الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ثم قامت ثورة الشّريف حسين على الدولة العثمانية، وتداعت أحوال المدينة من اليسر إلى العسر، ومن السعة إلى الضيق، حتى أُخرج أهلها كلهم إلى الشّام، فخرج إليها مع والده، واستقرّ في (دمشق) في أواخر عام 1916م، ودرّس فيها ببعض المدارس الحرة، واحتفى به جماعة من علمائها وأفاضلها الذين عرفوه في المدينة، ثمّ شاع ذِكره في المحافل العلمية والأدبية، ودهش الملتفّون حوله من ذاكرته، وحفظه للّغة والآداب، والحديث.
فألقى دروسًا جامعةً بالجامع الأموي، ودرّس بالمدرسة السلطانية.
وفي سنة 1921م بعد أن جاوز الثلاثين عاد إلى الجزائر مقتنعًا بما اقتنع به عبد الحميد مِن قبلُ مِن أنّ العمل المنتظَر منه إنّما ميدانُه الجزائر، واتّصل فور رجوعه برائد النّهضة ابن باديس، واستعد الرجلان لإحداث أكبر تغير في حياة الجزائريين الذين قد مضى على احتلال الفرنسيين لهم قرابة التسعين سنة.
الإمام "الإبراهيمي" وقراءة واقع الأمة:
عاد الشيخ "بشير الإبراهيمي" إلى الجزائر بعد أن جاوز الثلاثين من عمره، بعد أن طاف وجال في أهم أقاليم العالم الإسلامي: مصر، الحجاز، الشام، واستطاع خلال هذه الرحلة الطويلة التي جاوزت العشر سنوات أن يتعرف على أوضاع العالم الإسلامي، ويقف عن قرب من مشكلاته وآفاته التاريخية والحضارية والإيمانية التي وصلت به لأن تكون فريسة سهلة وغنيمة باردة في أيدي أعدائها.
وقد رأى أيضا وعاين وعايش أساليب المحتل الفرنسي والإنجليزي في المشرق والمغرب في بسط الهيمنة والسيطرة على شعوب العالم الإسلامي، وخاصة تلك الأساليب المتعلقة بطمس هوية الشعوب وسلخها من دينها وأمتها العربية، وكيف أن هذه الأساليب قد آتت أكلها بقوة في المشرق والمغرب، ومصداق ذلك تترجم في ظهور أجيال من أبناء هذه البلاد متأثرة إلى حد الانبهار بالثقافة الغربية والمناهج العلمانية، خاصة في مصر والجزائر.
وفي المقابل وجد "البشير الإبراهيمي" أن الحالة الدينية في العالم الإسلامي مهترئة وممزقة لأسباب خارجية ممثلة في كيد المحتلين، وأخرى داخلية بسبب أمراض التعصب والجمود والتخلف الثقافي، وأيضا بسبب الطرق الصوفية التي مزقت الأمة إلى شيع وفرق وطوائف وأحزاب، تلك الطرق التي أغرقت الأمة في غياهب الجهل والخرافة والانكفاء على الذات، والدروشة الفارغة، والقعود والاتكال، بل فعلت الطرق الصوفية أشد من ذلك بموالاة المحتل الأوروبي، وتأييده في جرائمه ضد المجاهدين الأبطال الذين سعوا لتحرير بلادهم وأوطانهم من نيران الاحتلال، فعلوا ذلك في الجزائر مع الأمير عبد القادر، وفعلوا مثلها من الأمير عبد الكريم في المغرب، ومع شيخ المجاهدين عمر المختار في ليبيا.
لذلك كان واجب الوقت -من وجهة نظر الشيخ "الإبراهيمي"- هو التصدي لتلك الطرق البدعية الضالة، وتنقية البيئة الإسلامية من آفاتها وبذروها الخبيثة.
تلك القراءة الصحيحة لواقع الأمة والفهم الواعي لقضاياها مكنت الإمام "الإبراهيمي" من وضع يده على مكمن الداء، ومواطن الخلل في الأمة، ومن ثم قرر العمل والجهاد على المسار الصحيح لتحرير الأمة فور عودته إلى الجزائر.
جهاد الإمام "الإبراهيمي" وبناؤه للأمة:
عاد "البشير الإبراهيمي" إلى الجزائر سنة (1338هـ = 1920م)، والتقى بصديقه "ابن باديس"، فرأى جهوده التعليمية قد أثمرت شبابًا ناهضًا، وأدرك أن ما قام به زميله هو حجر الأساس في إرساء نهضة الجزائر، ومن يومئذٍ بدأ التعاون، وبدأت الدعوة بحركة بطيئة، وبدأت الإرهاصات تظهر متلاحقة، ثم تعززت الحركة برجوع طائفة كانوا في الشرق من أبناء الجزائر، وفي مقدمتهم الشيخ "الطيب العقبي".
وأسس "ابن باديس" جريدة "المنتقد" لتكون أداةً لنشر الدعوة، فالتقت عليها أقلامُ الكتاب والشعراء، فكانت تَقذف الحِمَم على الطرق الصوفية، وعلى الاستعمار الذي يؤيدها، وضاقت بها الحكومة ذرعًا فعطَّلتها، فأنشأ "ابنُ باديس" جريدة "الشّهاب".
فارتحل إلى "سطيف" ليصنع ما صنع رفيقه في "قسطنطينة"، بدأ في إلقاء الدروس العلمية للطلبة، والدروس الدينية للجماعات القليلة، وتحرك بين القرى والمدن خطيبًا ومحاضرًا، فأيقظ العقول، وبعث الحياة في النفوس التي أماتها الجهل والتخلف، ورأى الشيخ أن دروسه قد أثمرت، وأن الناس تتطلع إلى المزيد، فشجعه ذلك على إنشاء مدرسة يتدرب فيها الشباب على الخطابة والكتابة في الصحف، وقيادة الجماهير، في الوقت الذي كان يتظاهر فيه المصلح اليقظ بالاشتغال بالتجارة؛ هربًا من ملاحقة الشرطة له ولزواره، وكان المحتل الفرنسي قد انتبه إلى خطورة ما يقوم به "البشير" ضد وجوده الغاصب، فعمل على تعويق حركته، وملاحقة أتباعه.
اتبع "الإبراهيمي" العديد من الوسائل للتحايل على كيد الاحتلال الفرنسي، فتظاهر لفترة طويلة بإهمال العمل الدعوي والتربوي، وانشغل بالتجارة، ولكنه كان أثناء غشيانه للعمل التجاري كان يقيم علاقات قوية مع كبار التجار، يعلمهم ويربيهم ويربطهم بقضايا الأمة ليستفيد من قدراتهم المالية في خدمة الأمة.
أيضا عمد إلى عدم إظهاره لعلاقاته القوية مع "ابن باديس"، تفادياً للبطش بالرجلين، فتفقد الأمة في آن واحد قادتها ومعلميها، على الرغم من أن الفترة ما بين سنتي (1920م) و(1930م) كانت الصّلةُ قويّةً بين الرجلين، وكانا يتلاقيان في كل أسبوعين أو كل شهر على الأكثر، يزوره في بلدة "سطيف" أو يزوره هو في "قسنطينة"، يزنان أعمالهما، وآثار ما يخططان له في الشعب، حتى يمكنهما المواصلة، والمضي في خطوات أخرى، كانا قد اتفقا عليها، ووضعا برامج مفصلة لها.
"الإبراهيمي" تخصص في هذه الفترة بالذات للاِحتكاك بفئات الشعب المختلفة، يراقب الأوضاع ببصيرة نفاذة، ويتحسس درجة الوعي والتفكير في الأمة، ويدرس نفسية الناس دراسة متأنّية عن مقربة.
"الإبراهيمي" و "جمعية العلماء":
لقد كانت فكرة "جمعية العلماء" تراود "الإبراهيمي" و "ابن باديس"، وكانت من الأهداف التي كانا يعملان لأجلها، فكان ذات يوم أن زاره أخوه "ابن باديس" بمدينة "سطيف" زيارةً مستعجلة في سنة 1924م، وأخبره أنّه عقد العزم على تأسيس جمعية باسم "الإخاء العلمي"، تجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم في مقاطعة قسنطينة، وتحمس لها "ابن باديس" جداً، وجعل يعدّد من فوائدها ومنافعها، لكن "الإبراهيمي" المحتك بالجماهير بصورة أكبر استَبْعد نجاح هذا المشروع في الوقت الحالي، لكنه لم يشأ أن يكاشف أخاه خشية أن يثبطه، فسايره في الفكرة، وما لبث "ابن باديس" بعد أن رجع إلى قسنطينة يخطو خطواتٍ في العمل حتّى تعطّل المشروع لأسبابٍ، فلم يستغْرِبْ "الإبراهيمي" ذلك لعِلمه بأنّ الأمّة لم تنضج بعدُ للنّهوض بمثلِ هذا العمل العظيم.
ولما وجد الاستعداد في الأمة ظهر هذا المشروع العظيم "جمعية العلماء"، وأعلن تأسيسها في شهر مايو سنة 1931م، وقد صاغ لها "الإبراهيمي" قانونًا أساسيًا مختصرًا، وكان مِن بصيرته، وهو العارِف بأحوال الأمّة، والحرب قد شبَّت بين المصلحين والطّرقيِّين إنْ لم يصرِّح بغايات الجمعيّة ومقاصدها، بل أَجْمَلَ القول واقتصر على ما تألَفُه أذهان الخاصّة والعامّة مِن ذلك، وَإِلاَّ لما كان اجتماعٌ ولا كانت جمعيّة.
قدّم القانون الأساسي للحكومة ليَأخذ صِبغته القانونيّة وهُو مُجمَلٌ قاصِر على أنّ وظيفة الجمعيّة هي محاربة الآفات الاجتماعيّة كالخمر والميسر، فقبِلت الحكومة مِن غير تردّد؛ لأنّه غير مُثير للمخاوف الاستعمارية، وأصبح وُجودُ هذه الجمعية قانونيًّا.
ومن ثم بدأت بهدوء في تنفيذ أجندتها غير المعلنة في استعادة روح الإسلام في الشعب الجزائري مرة أخرى بعد قرن من الاحتلال الفرنسي لها.
وقد وجهت الجمعيّة في السّنوات الأولى كلّ جهودها إلى حرب الطّرق الصوفية؛ لأنّها منبع الضّلال في العقائد والعبادات، وعملوا على القضاء على نفوذها في الأمّة؛ لأنّها هي الدعامة الكبرى للاستعمار، وهي تلتقي معه في الغاية التي هي الاِستغلال، والإلهاء والتخدير.
فنظمت الجمعية حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدّين، بواسطة الخطب والمحاضرات ودروس الوعظ والإرشاد في المساجد والأندية، والأماكن العامّة والخاصّة، وبواسطة الجرائد الخاصّة الّتي أنشأَتْهَا لخدمة الدّعوة الإصلاحيّة.
قسمت الجمعية المقاطعات الثلاث الّتي تنقسم إليها الجزائر ليقوم في كلّ مقاطعة عالم كفء بإدارة هذه الحرب مع الطّرق الصوفية، بَقِيَ "ابن باديس" في قسنطينة للإِشراف على الدّعوة في جميع المقاطعة الشّرقية، وخُصَّ "الطّيّب العقبيّ" بالجزائر في الوسط، وكانت المقاطعة الغربية أبعد المقاطعات عن العلم وأشدها رسوخًا في ضلال الطرق والتمسك بها، والتشدد في إقامة عوائدها الباطلة، وعقائدها الزائفة، يضحون في سبيلها بكل ما يملكون، ويَرون أنّها هي الدِّين لا دين غيره.
وكان سلاح الجمعية في حرب الطرق وفتح العيون على مخازيها هو دروس التذكير بالقرآن، وبيان السنة المحمدية الصحيحة، وتكوين المسلمين الأولين على طابع الكتاب والسنة، فأَقبلت الجماهير على تلك الدروس، وبدأت سحب الظلام تنقشع عن أذهانهم، وزالت العقائد السخيفة في مشائخ الطرق مِن نفوسهم، فانفضوا من حولهم وأصبحوا يجاهرون بالنكير.
نشط "الإبراهيمي" في "تلمسان"، وبث فيها روحًا جديدة، فكان يلقي عشرة دروس في اليوم الواحد، يبتدئها بدرس الحديث بعد صلاة الصبح، ويختمها بدرس التفسير بين المغرب والعشاء، ثم ينصرف بعد الصلاة الأخيرة إلى بعض النوادي الجامعة؛ ليلقي محاضرات في التاريخ الإسلامي، وكانت له جولات في القرى أيام العطل الأسبوعية، وينشط العزائم، ويبعث الهمم في النفوس، وقد نتج من ذلك كله بناء أربعمائة مدرسة إسلامية، تضم مئات الآلاف من البنات والبنين، وبناء أكثر من مائتي مسجد للصلوات والمحاضرات.
أقلق هذا النشاط العارم المحتل الفرنسي وأذياله من الطرق الصوفية، وأدركوا عاقبة ذلك إن سكتوا عليه، فجرب الفرنسيون وسيلة كانوا يستنْزلون بها الهمم، ويشترون الذمم، وهي وسيلة الترغيب، فبعثوا إليه القاضي "ابن حورة" يعرض عليه منصب شيخ الإسلام الذي سيحدث لأول مرة في الجزائر في مقابل تصريح يؤيد فيه "فرنسا" التي كانت طرفاً في الحرب العالمية الثانية، والمشاركة في تحرير صحف أنشأوها، وفي كتابة محاضرات تسجل للإذاعة مقابل منح مغرية، فخيب ظنهم، ورفض كل تعاون معهم، فأسرعوا باعتقاله ونفيه إلى صحراء "وهران" سنة (1359هـ = 1940م)، وبعد أسبوع من اعتقاله توفي "ابن باديس"، واختاره العلماء رئيسًا لجمعيتهم، ولبث في منفاه ثلاث سنوات، ثم خُلي عنه عقيب انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة (1362هـ = 1943م).
بعد ثلاث سنوات في المنفى عاد "الإبراهيمي" للعمل الدعوي والتربوي، وزاد فيه، بل وخرج إلى المشرق يدعو لفكرة "جمعية العلماء"، وكان "الإبراهيمي" يعلق آمالاً واسعة على نشر دعوته الإصلاحية، فلم يألُ جهدًا في تصحيحهم وإرشادهم وتذكيرهم بالوطن المستعمر، وبواجبهم نحو إحياء ثقافتهم العربية الإسلامية التي تحاربها "فرنسا"، وتحاول النيل منها.
وقد أثمرت جهوده التي بذلها تجاه هؤلاء المبعوثين عن نجاح ما يقرب من معظمهم في دراستهم الثانوية والجامعية، وساهموا في تحقيق الفكرة العربية الإسلامية التي كان يؤمن بها العلماء.
وفي أثناء إقامته بالقاهرة اختير "الإبراهيمي" لعضوية مجمع اللغة العربية المصري سنة (1380هـ = 1961م).
وفاة الإمام "الإبراهيمي":
لما أعلن استقلال الجزائر عاد "البشير الإبراهيمي" إلى وطنه، خطب أول صلاة جمعة من مسجد "كتشاوة" بقلب العاصمة الجزائرية، وكان هذا المسجد قد حوله الفرنسيون إلى كاتدرائية بعد احتلالهم الجزائر.
وقد نقلت الإذاعة خطبتي الجمعة إلى الأمة، فأعادت كلماته للكثيرين من رفاقه وغيرهم أعذب الذكريات.
ولزم "الإبراهيمي" بيته بعد أن أثقلته السنون، وأوهنه المرض، وأحزنه تنكر البعض لجهاده وأثره في إحياء الأمة.
وكانت مقاليد البلاد تجري في أيدي من تنكروا للإسلام وأداروا ظهورهم له، رأى الشيخ المجاهد أن ثمرة ما زرعه هو ورفاقه من العلماء قد وقع في كف من لا يقدرون قدرها.
وظل في بيته حتى لاقى ربه يوم الخميس الموافق (18 من المحرم 1385هـ = 19 من مايو 1965م) بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال، وخرجت الأمة تودعه بقلوب حزينة وأعين دامعة، تعبيرًا عن تقديرها لرجل من رجالات الإصلاح فيها، وأحد بناة نهضتها الحديثة.
لم يكن الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي" -رحمه الله- شخصية عادية، وإنّما كان مجموعة من المواهب والعبقريات.
كان آية في علمه الواسع، وأَدبه الرفيع، وخلقه النبيل، ودينه المتين، وإخلاصه، وسعة أفق تفكيره، وبعد نظره، وإنكاره لذاته، وتَفانيه في خدمة أمته.
كان يعيش من أجل الدفاع عن الإسلام الحق والنهوض باللّغة العربية في هذا الوطن العزيز.
لقد كان مصلحًا دينيا، واجتماعيًا موفقًا، ومفكرا حرا جريئا، وإمامًا في السلفية، ناشرًا لها، ومثبتا لمبادئها، ونجمًا من نجوم الهداية، صداعا بالحق، قوالا به، وحاملاً لراية الكفاح والنضال، لم يعرف الفشل والخور، ولا الاستسلام والتقهقر.
كانت حياته مشرقة مملوءة بجلائل الأعمال تجلت فيها عبقريته، وبزغ من خلالها نجمه، وظهر نبوغه، وصدقت نظراته، وتحققت فراسته.